|
الإمامُ الجميلُ الذي ربَّتْه النِّساء
منذ زمن طويل وأنا معجبٌ بهذا "الإمام" الجميل، معجبٌ بشخصيته، معجبٌ بمواقفه. بدأ هذا الإعجاب، الذي نما حتى صار عشقًا كبيرًا، منذ أن درست، وأنا في المرحلة الجامعية، تحفتَه طوق الحمامة في الألفة والألاف، إذ تساءلت في نفسي: كيف يصدر هذا الكلامُ عن إمام "فقيه"؟! يخرج بعيدًا عن طابور المتجهِّمين، الحاقدين، المتوعِّدين، الذين خطفوا الدين واحتكروه وأخذوا يتوعدون الناس به ويخيفونهم. فابن حزم وقف بعيدًا عن هؤلاء، وقف في ركن قصيٍّ من حديقة من حدائق قرطبة الغنَّاء، وراح يصوغ أفكاره على "شريعة" من فوح الأزهار وشدو الأطيار وخرير الجداول! وليس هذا فقط الذي أنتج ذهنية ابن حزم. فحين تتبَّعتُ سيرة هذه الذهنية تبيَّن لي السر، بَرَزَ لي المفتاحُ والتمع أمامي السحر: إنَّها التنشئة، إنَّه خيار الأب الذي أوكل تربية ابنه إلى نساء رائعات، مبلَّلات بالبهجة، مندَّيات بالسرور، متوَّجات بالفتنة، مشتعلات ثقافةً، ملتهبات نبوغًا. تربَّى هذا الطفل في حجر قرطبيات مغايرات، زرعن فيه حبَّ الفن، وحبَّ الموسيقى، وحبَّ الشعر. نشأ ابن حزم، إذن، نشأة أخرى تفيض رقَّة ولطفًا وسحرًا، ولم يجد تعارُضًا أو تناقضًا بين الحبِّ والدين، أو بين الشعر والفقه، فواءم مواءمةً سحريةً بين هذه التجلِّيات. ابن حزم الأندلسي، الذي رفد المكتبة الإسلامية بآراء صريحة وأفكار جادة، ضاقت به ذرعًا صدورُ المتزمتين الذين "دبَّروا له المكائد وأوقعوا بينه وبين السلطان حسدًا وحقدًا عليه"، حتى أُحرِقَتْ كتبُه في عهد المعتضد بن عباد. كان ابن حزم [...] عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكَّام، ويرفض قبول هداياهم، حتَّى لو سبَّب له ذلك الكثيرَ من المتاعب. أما طوق الحمامة فهو سيرة إمام عاشق، جاء إلى الحبِّ من باب الدين أو جاء إلى الدين من باب الحب. قسَّم كتابه إلى ثلاثين بابًا، كلها في الحب: مَن أحبَّ في النوم، ومن أحبَّ بالوصف، ومن أحبَّ من نظرة واحدة، وباب مَن لا تصح صحبتُه إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، فباب السفير، إلخ. وهناك اثنا عشر بابًا في أعراض الحبِّ وصفاته المحمودة والمذمومة: باب الصديق المساعد، باب الوصل، باب طي السر، باب الكشف والإذاعة، باب الطاعة، باب المخالفة، إلخ. هذا حديث ذو شجون لإمام جميل، يحبُّ الحب، يبدع فيه، ولا يتردد في الحديث المستفيض عنه. هو ذا يقول: الحبُّ هو الاتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة، تلتقي في دروب الحياة، فتتعارف وتتآلف. ويقول: وما لصق بأحشائي حبٌّ قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي وأخذي معه في كلِّ جِدٍّ وهزل. إنها لمسات سحرية لنسوة قرطبيات أندلسيات، مثقَّفات مرفَّهات منعَّمات، يقطرن دلاًّ وغنجًا وتيهًا، قد قمن، على مهل وتؤدة، بصوغ وجدان هذا الإمام العاشق، الودود البشوش، الذي كان يدرك أن المتزمِّتين سوف يشنُّون عليه حربًا لتأليفه – وهو القاضي الإمام – كتابًا عن الحب، فكتب: أعلم أنَّه سينكر عليَّ بعض المتعصِّبين تأليفي لمثل هذا الكتاب ويقول: خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أحل لأحدٍ أن يظن بي غير ما قصدتُه. "بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد تشتمل على ثمانين ألف ورقة"، كما قال ابنه الفضل. ويقول عنه الإمام أبي حامد الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألَّفه ابن حزم الأندلسي، يدلُّ على عظيم حفظه وسيلان ذهنه. سلام الله على قلبك، أيها الفقيه الجميل، سلام على عقلك، سلام على انحيازك للتسامح وعلى إنصاتك لنبض قلبك! أريد أن أتحدَّث كثيرًا عنك، لكنني أترك هذا للَّذين أدعوهم جميعًا إلى مطالعة كتابك طوق الحمامة، وأردِّد مع ثالث خلفاء دولة الموحِّدين الذي وقف أمام قبرك خاشعًا ولم يتمالك نفسه فقال: "كلُّ الناس عيالٌ على ابن حزم!" هذا هو ابن حزم: فقيه تربَّى على أيدي نساء مغايرات، في مجتمع مغاير يصدِّر الجمال ويقدِّمه، مجتمع نساؤه يعقدن "الصالونات" الثقافية، يتداولن الأفكار والآراء، صحبة الرجال... مجتمع صحي، أنتج عقلياتٍ فذةً مثل الإمام العاشق... ابن حزم. *** *** ***
|
|
|