|
سفر في الشيخ الأكبر ابن عربي
ولد الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في 27/7/1165 م، في قرية صغيرة اسمها مرسية، إلى الشرق من بلاد الأندلس، من والد كان من المقربين من سلطان اشبيلية، Sevilla حاليًا، ووالدة تدعى نور. ورث التدين والتصوف عن عمه عبدالله بن محمد ابن عربي، الذي كان من أهل طريق الله، ويقول عنه: دخل عمي هذا الطريق في آخر عمره على يد صبي صغير، لم يدر ما هذا الطريق دخله وهو في الثمانين. وفي مقدمة كتابه الاسراء إلى مقام الأسرى يروي لنا الشيخ الأكبر عن رحلته الشخصية في هذا الكون، اخترنا منها أول ما جاء فيها لشدة جماليته، ولنستشف تأثر الشيخ مولانا الأكبر برحلة عمه؛ يقول في باب سفر القلب ص 172: قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس أريد بيت المقدس وقد اتخذت الإسلام جوادًا، والمجاهدة مهادًا، والتوكل زادًا، وسرت على سواء الطريق أبحث عن أهل الوجود والتحقيق، فلقيت "فتى روحاني الذات"، رباني الصفات، يومئ إلي بالالتفات فقلت: ما وراءك يا عصام؟ قال: وجود ليس له انصرام. قلت له: هذه أرواح المعاني، وأنا ما أبصرت إلا الأواني. قال: أنت غمامة على شمسك فاعرف حقيقة نفسك، فإنه لا يفهم كلامي إلا من رقا مقامي. أمضى الشيخ الأكبر ابن عربي سنوات طفولته ومطلع شبابه في مدينة اشبيلية، حيث تتلمذ على يد نخبة من فقهائها، ثم قرر أن يمضي حياته مرتحلاً، فانتقل إلى مدينة فاس شمال المغرب، حيث عاش فيها زهاء عشر سنوات، وفيها تمت له مشاهدته الأولى أثناء إمامته لجماعة من المصلين في جامع عين الخيل في فاس، والذي ما زال قائمًا إلى اليوم، ثم بدء أسفاره نحو المشرق، مرورًا ببلاد الرافدين ثم مكة، حيث مكث فيها ليكتب أهم مؤلفاته الفتوحات المكية، من 12 مجلدًا؛ منتهيًا به الطريق إلى الشام حيث وافته المنية هناك في 14/11/1240م، ودفن في سفوح جبل قاسيون المطل على الشام، وتحول ضريحه إلى مزار فيما بعد. خمسة وسبعون عامًا عاشها ابن عربي تاركًا خلفه أكثر من 23 اجتهادًا ومؤلفات وكتبًا كثيرة تعد بمثابة كنوز ومجموعة من الرسائل هي موضوع بحثنا الآن. تتألف هذه الرسائل من 21 رسالة في 544 صفحة، جمعت وصدرت عن دار صادر للطباعة والنشر في بيروت، وهذه ليست كل رسائله. سنسلط الضوء على ما هو يقبل امتصاص الضوء منها، ونعرض عمّا هو مكنوز فيها ومستقر لا يدركه إلا من كان على مستوى رفيع من الكشف والادراك والحس والذوق في الطرق الصوفية التي كان الشيخ الأكبر ابن عربي أحد أبرز أعلامها. بالنسبة إلى البعض، فإنهم يعتقدون أن الصوفية تعني التقشف والبعد عن المجتمع والانزواء، في حين نجد، من خلال كتابات ابن عربي، أن لديه مفهومًا خاصًا يفهم فيه الحياة بمعناها الشمولي الواسع أو الخاص والضيق، وهو الحب. الحب هو عنده بمثابة سر وأساس تقوم عليه شرعة تعامل الإنسان مع ذاته أو مع غيره:
لقد صـار قلبي قابـلاً كل صـورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان والمحبة لا تتحقق سوى بالمعاملة، لذلك فإنها تقتضي وجود المحبوب، وبالتالي المخالطة والاختلاط بالناس وبالمجتمع والتفاعل معه ولكن بشروط. فإن أردنا أن نحب علينا أولاً أن نغلّب إرادة المحبوب على إرادتنا، فهذا هو مفتاح المحبة: كل محبة لا يؤثر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته لا يعوّل عليها وكل محبة لا يكون فيها هذا الايثار تتحول إلى تسلط أو تملك أو قيد نكبل فيه الحبيب. فالأصل في اختراق الآخر هو الولوج إلى قلبه بلطف، من دون أن نقتحم كيانه الحسي والأناني والمعنوي، فكل لديه حساسية معينة، وكل يريد الأفضل لنفسه وكل يعتبر نفسه محقًا. المحبة عند ابن عربي هي تضحية وانبساط في سبيل المحبوب، وفناء في سبيل الخالق، وهي في الوقت نفسه اختراق لذات المحبوب كي نجعله يحبنا بالطريقة التي نحبه فيها.. رؤية القلوب على قدر صفائها وللعلاقة بالخالق عند ابن عربي دلالة خاصة. فهو يعتبر أن الطريق لمعرفة الخالق تنطلق حتمًا من القلب الذي هو على تواصل في كل نبضة مع خالقه، والذي إن توقف عن النبض للحظة واحدة فني الإنسان.. "رؤية القلوب على قدر صفائها" فالقلب هو منبع الإيمان، وبقدر ما كانت القلوب صافية داخلها بقدر ما كان التواصل مع الخالق أفضل وأوضح وأسهل: فإنه ما في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله، فكل هو وبه ومنه وإليه ولو احتجب عن العالم طرفة عين لفني العالم دفعة واحدة. لكن القلب ليس هو وحده أساس المعرفة، بل هناك أيضًا دور ما يؤديه العقل وما ينتجه من فكر. لذلك جاءت رسائل ابن عربي تدعو إلى تنوع المعرفة وشموليتها: "كل معرفة لا نفع فيها لا يعول عليها" وبناء على ذلك إن معرفة القلب، إن لم تقترن بمعرفة العقل والادراك والحس والشعور، لا يعول عليها. الظلم لا يدوم والمظلوم هنيئًا له ومن المحبة ينتقل بنا ابن عربي إلى مسألة احترام النفس وتحقيق الذات في المجتمع، ومفهوم العدالة الاجتماعية والظلم والتكبر. فبالنسبة إليه "إن المظلوم حي قيوم"، وهو يفضل أن يكون المرء مظلومًا على كونه ظالمًا بل يذهب مع المظلوم إلى درجة التحقير والجهالة والغلبة، ويرى أن لا خجل في ذلك للمظلوم وإنما عزة وأجر: عزك في أن تجهل، وإذا جهلت حقرت، وإذا حقرت غلبت، فلا تنتصر. المنع والعطاء وكما هو حال المظلوم الذي يبقى الأفضل وأعز من الظالم على حقارته وانكساره وذلته، فإن الفقير هو أحسن حالاً وأعظم شأنًا من الغني. وهنا يحدثنا الشيخ الأكبر عن مفهوم "المنع والعطاء"، والمنع هو المنع من الحصول على النعم ورغد العيش. والعطاء هو عكس ذلك، فيرى من منظوره العرفاني أنه كلما أعطي المرء بعد عن الله وكلما أخذ منه اقترب من الله، وهو يعتبر أن من أعطي يكون بالحقيقة قد أخذ منه، لأن العطاء هو بمثابة منع له من التقرب إلى الله. أما إذا أخذ منه فيكون هذا الأخذ عطاء له يخوله التقرب أكثر من الله: إذا منعت فذاك عطاؤه، وإذا أعطيت فذاك منعه، فاختر بين الترك والأخذ. الرحلة الليلية ولعل من أبرز رسائل مولانا الأكبر ابن عربي، وأهمها، كتاب الأسرار إلى مقام الأسرى. ويلي هذا الكتاب، أهمية، كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار، وهو محاولة توصيف رحلة الإنسان الأزلية، فالسفر هو قدر الكون والبشرية معًا، وما هذا العالم السفلي الذي نسير فيه ونسافر في أصقاعه سوى محطة نعبر فيها في سفرنا العرفاني الأزلي والمستمر باستمرار الوجود: إن الأفلاك ما تزال دائرة بمن فيها لا تسكن ولو سكنت لبطل الكون. إن عالم الأجسام ما زال في رحلته الأبدية نحو الأسفل. خير زاد التقوى وليس للمقيم زاد بل الزاد للمسافر فقط. فإن السالك المحقق هو من يدرك أنه، في حياته اليومية، إنما ليس بمقيم أو ثابت، ولكن بمجرد عابر وزائر، وزاده في عبوره هو التقوى بمفهوم ابن عربي هي العطاء والزاد بالمفهوم اللغوي هو ما يتزود به المسافر في ترحاله من مكان إلى مكان. والسالك في الطريق إلى الخالق عليه أن يكون مستعدًا في كل لحظة للسفر للرحيل: ما من منزل تشرف عليه إلا وتقول أنه غايتي ثم أنك إذا بلغته لم تلبث أن ترحل عنه. ويقسم ابن عربي الأسفار إلى ثلاثة أقسام: السفر من عنده، والسفر إليه، والسفر فيه. ولكن يعني أن كل هذه الأسفار ليست سوى جسور نعبر عليها لبلوغ ذواتنا: إنما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا. هذا العبور يتاح لنا عن طريق الخلوة، وهي عزلة العزلة. فنختلي بأنفسنا لكي نطهر أفكارنا وقلوبنا من السموم التي أصابتنا في مخالطتنا للناس، فتصفى الناس أولاً ثم القلب، فنطلب السهر لابقاء العين يقظة والقلب نابضًا في حب الله، ولا نكثر من الطعام لأن المعدة الممتلئة تشوش على أفكارنا الإيجابية، وتحولها إلى سوداوية، والكيان المادي لفلسفة ابن عربي يقوم على ايجاد الوقت للخلوة ومجاهدة النفس والجوع والسهر والصمت. إن الصمت يورث معرفة الخالق، السهر يورث معرفة النفس. *** *** ***
|
|
|