|
ذكرى الشهداء الأرمن وقضيَّة مسيحيي الشرق
في شهر نيسان من كلِّ عام، يُحيي مسيحيو المشرق، ولاسيما الأرمن والآشوريون السريان، ذكرى مذابح إبادة المسيحيين في تركيا العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، حيث أعلنت السلطنة العثمانية، في 24 نيسان 1915، "الجهاد" الإسلامي على جميع الشعوب المسيحية الواقعة تحت حُكمها، للتخلص منها انتقامًا من الأوروبيين الذين قوَّضوا أركان الإمبراطورية العثمانية في الحرب. كما كان الدور البارز والريادي للمفكرين المسيحيين في انطلاق حركات التحرر الوطني والقومي في بلاد الشام ومصر، والمطالبة بالانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، سببًا إضافيًّا لقتل أكثر من مليون ونصف مليون أرمني، نحو نصف مليون آشوري (سرياني كلداني)، وعشرات الآلاف من الروم اليونانيين، وتهجير مَن بقي منهم أحياء إلى الصحارى والبراري ليموتوا من الجوع والمرض. لهذا يكاد ينعدم الحضور المسيحي اليوم في مناطق واسعة من بلاد ما بين النهرين وسوريا وأرمينيا التي ضُمَّتْ إلى تركيا. لم يُفِدْ الدولةَ التركيةَ الحديثة، التي أنشأها مصطفى كمال (أتاتورك) بعد سقوط عرش السلطنة العثمانية، تنكُّرُها على مدى العقود الماضية لـ"الهولوكوست المسيحي" وسعيُها في شطبه من سجلات التاريخ: فهي اضطرت مؤخرًا، تحت ضغط المجتمع الدولي الذي تحرك استجابةً لدعوات الجاليات الأرمنية والآشورية السريانية وتحركاتها في أمريكا وأوروبا، من جهة أولى، ولاعتبارات ومصالح سياسية معينة، من جهة ثانية، – اضطرت تركيا، الراغبة في دخول "الاتحاد الأوروبي"، إلى فتح ملفِّ المذابح والبحث فيه، وإنْ بشيء من المناورة، بحثًا عن تبريرات لها ومسوغات، من غير أن تعترف بالمذابح أو تقرَّ بمسؤوليتها عنها حتى الآن. وقد شكَّل إقرارُ العديد من الأكاديميين والباحثين الأتراك بمذابح المسيحيين – ومنهم المؤرخ خليل بركتاي الذي وصف أحداث 1915 بـ"التطهير العرقي" – ومطالبتهم حكومة بلادهم بالاعتراف بها تطورًا مهمًّا في هذه القضية. تأتي ذكرى المذابح هذا العام [2008] وأوجاع المسيحيين المشرقيين تكبر، وأوضاعهم تزداد سوءًا: حيث أضحوا، بسبب ديانتهم، مستهدَفين استهدافًا منظمًا من مجموعات إرهابية ومنظمات إسلامية تكفيرية متطرفة، محلِّية وإقليمية ودولية (مثل تنظيم "القاعدة")، في أكثر من دولة في المنطقة، العراق ومصر ولبنان نموذجًا. يُشار هنا إلى أن الكاتبة الفرنسية آني لوران تنبأت بعد أحداث أيلول 2001 بأن "المسيحيين، في العالم الإسلامي، سيكونون شهداء العقيدة المسيحية التي يؤمنون بها، وضحايا العدوان الإسلاموي المتطرِّف عليهم". وقد اعتبر الكثير من المراقبين بيان "المطارنة الموارنة" اللبنانيين لشهر تموز 2007، الذي أشار إلى خطر "أسلمة لبنان"، بمثابة ناقوس خطر، ليس على مسيحيي لبنان فحسب، وإنما على مسيحيي الشرق عامة. ومع اضطراب الأوضاع الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وتدهورها، برزتْ من جديد قضيةُ المسيحيين المشرقيين. إذ يكاد لا يمر يومٌ من دون أن نقرأ مقالاً أو تقريرًا أو خبرًا في الصحافة أو نشاهد برنامجًا تلفزيونيًّا يتناول الأوضاع المأسوية لمسيحيي الشرق، فضلاً عن عقد العديد من المؤتمرات والندوات في أكثر من مدينة وعاصمة أوروبية وغربية. هذا وقد عبَّر بابا الڤاتيكان بنديكتوس السادس عشر، في أكثر من مناسبة، عن قلقه العميق على مصير مسيحيي الشرق. كما كانت مأساة المسيحيين العراقيين والأقلِّيات الدينية الأخرى في العراق ومنطقة الشرق الأوسط من المواضيع والقضايا البارزة التي ناقشها البابا مع الرئيس جورج بوش في أول زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نيسان 2008. صحيح أن العمليات الإرهابية تطال جميع مكونات العراق؛ لكن صحيح أيضًا أن المسيحيين – ومعظمهم من الكلدوآشوريين، أقدم شعوب العراق، – مستهدفون من جميع الأطراف المتصارعة في العراق، شيعة وسنَّة أو عربًا وكوردًا، على تقاسُم الكعكة العراقية. وقد طالت عمليات الخطف والقتل العديد من رجال الدين، وأبرزهم رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في الموصل المطران بولس فرج رحو. لذا فالمسيحيون العراقيون داخلون لا محالة مرحلة الخطر الوجودي أو الكياني إذا ما استمرَّ الوضع العراقي على ما هو عليه لسنوات أخرى. وعلى الرغم من هذا الوضع المأسوي، لم يسجَّل حتى الآن أيُّ ردِّ فعل عربي وإسلامي، رسمي وشعبي، على التعديات التي تُرتكَب في حقِّ مسيحيي العراق – باستثناء بعض الأقلام الجريئة. هذا الموقف العربي والإسلامي المخزي من قضية مسيحيي الشرق ليس بغريب أو بجديد. فحتى تاريخه، لم تعترف أية دولة عربية أو إسلامية بمذابح المسيحيين للعام 1915 في تركيا العثمانية، باستثناء لبنان، لاختلافه عنها في نظامه السياسي ولثقل الأرمن فيه. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الجدوى من الحوار الإسلامي–المسيحي المشرقي، بينما الوجود المسيحي في الشرق بدأ يتلاشى ويندثر؟! وهنا يجب التأكيد على أن الكثير من النخب المسيحية المشرقية – وأنا واحد منهم – يشكِّك في نوايا الغرب وأهدافه من إثارته قضيةَ المسيحيين. فالدول، في التحليل الأخير، تقف عند حدود مصالحها، وإنْ على حساب الشعوب الأخرى المستضعَفة. والغرب، كما هو معلوم، هو راعٍ، منذ عقود، لأنظمة الاستبداد والقمع في المنطقة. ثم إن تعاطُف الغرب مع المسيحيين المشرقيين مازال يقتصر على الجوانب الإنسانية وعلى المطالبة بتسهيل هجرة المسيحيين إلى أوروبا وأمريكا طمعًا بما توفِّره لهم من أيدي عاملة جاهزة ورخيصة – إذ لم تقدِّم الدول الغربية خططًا عملية وبرامج سياسية واقتصادية وثقافية مستقبلية لمعالجة محنة المسيحيين وتعزيز وجودهم واستقرارهم في المشرق؛ كما لم تمارس حتى الآن أية ضغوط جدية على حكومات الدول التي يتعرض فيها المسيحيون لاعتداءات متكررة، مثل العراق ومصر. المسيحيون المشرقيون هم أكثر مَن عانى في الماضي من جراء السياسات الغربية في المنطقة. ففي الوقت الذي ساندت الجيوشُ الغربيةُ الشعوبَ العربيةَ في الخلاص من الاستعمار العثماني بعد حُكم دام أكثر من أربعة قرون، لم يحصد المسيحيون المشرقيون، على اختلاف انتماءاتهم القومية والإثنية، سوى مزيد من الاضطهاد والمذابح والويلات. واليوم، لا أعتقد أن أحدًا ينفي المسؤولية الأخلاقية والقانونية للولايات المتحدة الأمريكية المحتلة للعراق تجاه محنة شعب العراق، المسيحيين منهم بالأخص. في ضوء هذه الحقائق التاريخية والوقائع السياسية، يفضِّل معظم المرجعيات والنخب المسيحية المشرقية مناقشة محنة المسيحيين في شفافية وموضوعية مع حكومات بلدانها تحت سقف الوطن، بحيث تعالَج المشكلةُ في إطار وطني ديموقراطي لقطع الطريق على قوى الخارج الراغبة في توظيف قضية المسيحيين المشرقيين وباقي الأقلِّيات الدينية والقومية لمصالحها واستغلالها للتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. أخيرًا نقول: إن قضية "مسيحيي المشرق" ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بإيديولوجيات "اللامساواة الدينية"، فضلاً عن "اللامساواة القومية والسياسية" السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية. لذا فحلُّ محنة مسيحيي الشرق وبقائهم في أوطانهم يبقى رهنًا بتحرُّر دول المنطقة ومجتمعاتها من هذه الإيديولوجيات الضارة، أولاً؛ بتخلِّي أنظمة الحكم عن سياسات التمييز الديني والقومي والسياسي بين شعوبها، ثانيًا؛ وبإنجاز مشروع الدولة المدنية الحديثة القائمة على مبدأ العدل والمساواة وحقوق المُواطَنة الكاملة وفصل الدولة "السياسية" عن الدين، ثالثًا. القامشلي، سوريا *** *** ***
|
|
|