|
خمس قصائد كبرى
إن يكن الشعر ليس في المعنى. فالشعر في المقابل أيضًا، لا يوضع في كلمات لا تعني شيئًا. إلاّ أن الذائقة الفنية التي فُطرت على حب الجمال، هي على أنواع: منها يؤثر الجمال مكشوفًا عاريًا، وجبة سريعة. ومنها يؤثره في غلالة شفافة تزيد من سحره. ومنها يؤثره من خلف حجاب سميك، إذ في العُري، كما ترى، موت الجمال. وكلما تمنّع الجمال مَنُعت متعته. رينه شار في هذا المنحى الأخير. فهو يؤمن "بأن الغموض يولّد الشعر. الوضوح لا يليق بالشعر. وقليل من الظل يزيد في أناقته". وقد اتسم شعره، وفقًا لذلك، بـ"أناقة الظل". سوى أن هذا الظل بدا في معظم إنتاجه كثيفًا، مما حدّ من شيوعه، وأدخل قراءه ومحبيه، في متاهات لا يمكن الاهتداء فيها إلاّ بخيط أريان ما. وهذا ما حمل بعض النقاد والكتّاب على وضع بعض الدراسات التفسيرية المحتملة لقصائده وشذراته. ومنهم صديقه وجاره الكاتب والمؤرخ بول فاين الذي أصدر عام 1990 عن دار غاليمار، كتابًا خاصًا بشعر شار بكامله، في 540 صفحة من الحجم المتوسط، سمّاه رينه شار في أشعاره. وذلك بعد جلسات طويلة مع الشاعر على مدى ساعات وسنوات من النقاش للحصول منه على مفاتيح ممكنة تكشف الحجُب عن شعره السري بامتياز، وتُهدي إلى مخبّآته الثمينة. وقد تم ذلك بموافقة الشاعر. فهو أراد، بكل طيبة خاطر، أن يكون مفهومًا، متعجبًا، كيف لا يفهمه الناس، مع أنه يكتب بوضوح؟! ولكن ما العمل؟ فالغموض طبيعة متأصلة فيه. وما يعزّي، أنه غموض يُخبئ المدهش من الكنوز. التفسيرات الآتية، هي لخمس قصائد منتقاة من عيون شعره. سُميت كبرى، لأهميتها، لا نسبة إلى حجمها. وقد استمددتها من مصادر عدة. منها عائد إلى مجالستي الدائمة أعمال هذا الشاعر، ومنها إلى بعض الكتب النقدية التي تناولت شعره بالدرس والتحليل، ومنها على الأخص، عائد في معظمها، إلى كتاب فاين المذكور. هـ. ف. ص. * * * القِرش والنَّورس 1
أرى
البحر أخيرًا في تناغمه المثلّث، البحر الذي يقطع بهلاله سُلالة الآلام العبثية،
مربى الطيور الداجنة الشاسع المتوحش، البحر الساذج كلَبْلاب. الخارق 2
كان
لا يحرّك ظلاً في تقدمه، معبّرًا عن جرأة مستنفدة باكرًا، برغم خطوته التي كانت
مألوفة كفاية. وأولئك الذين، في ساعات الليل الأولى، يُخطئون أسرّتهم أو ينسونها
لاحقًا حتى الغد، يمكن أن تغريهم التشابهات. إنهم يسعون إلى استخلاص أنفسهم من بعض
الحجارة الحكيمة جدًا، والحارّة جدًا، والتخلص من البلوريات الاسطورية، التي
يُفرزها السعي اليومي الكئيب، في أماكن من خياره، بلمسات كَفَنيّة. وهذا ما لم
يكُنْه ذلك المشّاء، كأن حجاب المشهد القمري المنخفض لم يُعقه في حركته. كان
الجَمَد الشديد يلامس سطح جبينه من دون أن يبدو "أمرًا شخصيًا". إن طريقًا تستطيل،
ودربًا تنحرف، هما شبيهتان بوثبة الفكر الذي يدندن. وفي ليل الشتاء النقي بشكل
خارق، حيث لم يكن يعمّ معظم سكان الكون الذين لم يلجوه، لن يوجد الممثل الهزلي
الأخير. لقد فقد كل صلة مع الحجم القديم للينابيع المؤاتية للتساؤلات، مع الأجساد
السعيدة التي كان يُسرّه أن يُنعشها بالقرب من جسده، حين كان لا يزال يقدر أن يمنح
ذروةً متعته، وثلجًا موهبته. اليوم أقلع عن الحزن المضرَّس بالشدة، عن الخوف من
الاصطلاحي. الأرض أفسدت قناعته، الأرض، في سرعتها القصيرة قليلاً، وبمخيّلتها
المزعفرة، وتلفها الذي شقّقته أفعال المسوخ. ليس لأحد أن يُغفله لأن المجدي لم
يؤازره، لم يرسمه كاملاً في نظر الآخرين. على سقف غرفته المطلي بالكِلس الأبيض،
كانت تعبر بعض الطيور، لكن لمعانها تلاشى في نعاسه. أسكن ألمًا 3
لا
تُغفل أن تتحكم بقلبك في غمرة العواطف الشبيهة بالخريف الذي تستعير منه مسلكه
الهادئ ونزاعه اللطيف. العين تبكّر بالتّغضن. والألم يعرف القليل من الكلمات. اعتمد
النوم بدون عبء: تحلم بالغد، ويكنْ سريرك خفيفًا. متلهفٌ أنت للاتحاد بالريح، الريح
التي تجتاز عامًا في ليلة واحدة. آخرون سيتغنّون بالاندماج المتناغم، بالأجساد التي
تمثّل شعوذة الساعة الرملية. ستدين الامتنان الذي يتكرّر. وفيما بعد، ستُقارَن
بمارد مفكّك، سيد المستحيل. جاكمار وجوليا 4
قديمًا كان العشب، عند تطابق الطرق في انحدارها، يرفع سوقه برقّة ويُشعل أنواره.
وكان فرسان النهار يولدون بالنظر إلى حبّهم، وكانت قصور حبيباتهم تضم نوافذ بقدر ما
تحمل الهوّة من زوابع ضعيفة. الأخوات الثلاث 5
يا
حبّي المكسوّ كمنارة زرقاء،
أحب
وأنتحب. أنا أحيا
بدونك، فليصر جسدي الشراع I
في
إجّانة الأزمنة الثانوية
والمعرفة المنقسمة
إن
تواصلاً نشينه،
وفي
إحيائه الطريق المفتوحة، II
الثانية تصرخ وتفرّ
هي
ذي ساعة الصمت
صيّاد الذات يتجنّب بيته الهشّ:
ضوؤهما جدّ عالٍ، صحتهما جدّ نضرة، III
هذا
الطفل على كتفكِ
إبقي زهرًا وحدًّا،
وتموت العيون الفريدة
عنيفةً تنفتح الكتف قليلاً، التحليل: 1 - القِرش والنَّورس: الشاعر مع الحبيبة إيفون زيرفوس، على شاطئ البحر المتوسط، حيث يكتشف خليجًا بشكل هلال، زاوية من البحر أو بحر من زاوية. ويحس، من خلفية سوريالية، بأن الطبيعة تنظر إليه بأعين بلهاء كأعين الطيور الداجنة، وبأن "البحر ساذج كلبلاب"، وبات مربى لهذه الطيور، بعدما كان حوضًا للأسماك البشرية. وبرغم ذلك، ففي زاوية هذا الخليج، علّق خُلُقيته، خُلُقيّة المأساة، وألغى القاعدة التي كان ألزم نفسه بها، وهي الانصراف إلى الكتابة، وأصبح بحارًا حقيقيًا، فـ"زرد قلبه" وشبكه بشراع مركب، قلبه المنذور لعمل سام. لماذا هذا التوقف عن العمل؟ اليوم على شاطئ البحر، تهرع إليه ذكرى من أيام شبابه، ويمكن كتفه، كتف الحصّاد الماهر، أن تغفو جيدًا. ومن هذا فقط يمكنه أن "يستمد الغنى المباشر والفاعل". بينما في الأمس، كان فريسة لأهوال الكتابة، بل أسوأ من ذلك، كان في فراغ إلهاميّ رهيب، ولم يكن الغصن النضير يحمل سوى الوعود بالأزهار والثمار، ولم تكن تعبر روحه، روح الشاعر الأسد الحصّاد، الغول النهم والقِرش، أيُّ زهرة وحي، ولم يكن يجرؤ النورس أن يوصل إليه أي رسالة سموية. وفي الأخير، يخاطب الشاعر الناس الذين يزدان عالمهم كما قوس قُزح أحلامهم التي تشعّ في تلك الساعة المشمسة على هذا الشاطئ الذي يصقله تدحرج الأمواج الأبدي على رماله، داعيًا إياهم إلى تقريب المركب (أي آمالهم) من أحلامهم، المركب ذاته الذي ربط الشاعر قلبه بشراعه في مخيلته، بدون ملل، ورغم كل خيبة، صبورين كهذا الشاطىء المتجدد على الدوام. 2 – الخارق: قصيدة مؤثرة، كئيبة، وغامضة. تحت عنوانها نجد إنسانا غير عادي، غريب الأطوار، تحت سماء قمرية، وفي جو صقيعي، يسير (لا يمكث أبدًا) موليًا ظهره دائمًا الربيع الذي لا وجود له. ربما يشبه رينه شار، لكنه ليس هو في الضرورة. يسير من دون أن يحرك ظلاً. إذ هو يهوى السُّرى، حيث يُفلت من ازدواجية الظل. ويعيش منطلقًا كشاعر يأنف من الامتثالية والاستنساخ. إلا أن أمثال هذا الإنسان الذي "يخطئون أسرّتهم قد تغريهم التشابهات". فهؤلاء الجريئون الذين يفضلون الليل على النهار، يمكن، بالمصادفة، أن يغريهم التشبه بكل الناس. وإذ ذاك يفقدون عزلتهم. بما أن التشابه هو نقيض العزلة والتفرد. وبرغم أن ذلك لم يكن من طبع هذا الشاعر "المشّاء القدير" في السابق، ها هو الآن يلجأ إلى التمثل بأذواق الآخرين، ناسيًا حقيقة المغامرة الإنسانية، "كأن حجاب المشهد القمري المنخفض لم يعقه في حركته"، هذا "الحجاب القمري" الذي ليس في الواقع سوى الوجود بالذات كما هو على حقيقته. وهكذا، تسمح هذه "السطحية الجديدة" لهذا المشاء، بأن يجتاز الوجود على هوى خطاه: "إن طريقًا تستطيل ودربًا تنحرف، هما شبيهتان بوثبة الفكر الذي يدندن". ويتحول هذا المشاء الجسور إلى ممثل هزلي بسيط بعدما كان آخر ممثل مأسوي في العالم. فالتجارب أفسدت حكمه. تمامًا كما الصدمات تُفسد الأسلحة، والمفاتيح، والتروس في الآلات. "الأرض أفسدت قناعته...". قال الشاعر ذلك سنة 1946، فيما كانت محاكمة نورمبورغ الشهيرة تنحسر عن هول "مسلخ بشري يعجز المرء عن تصوره". لم تكن الأرض يومذاك جميلة المنظر، مؤاتية لتلبية رغباتنا وآمالنا الحالمة. كانت أشبه بثوب تملأه المزق والخروق. مما أثبط همة هذا "الممثل المأسوي"، وجعله يهرب إلى المرح والضلال الشامل. هنا يحدثنا الشاعر، بدون خشونة، عن هذا الإنسان، كما لو كان آخر سواه: "ليس لأحد أن يهمله إلخ..."، والآن بعدما أصبح عددًا بين الأعداد، وتنعكس الأرض في عينيه كما في أعين سائر إخوانه من الخلق، "يخرج مستضيئًا بالصقيع ويولي ظهره إلى الأبد الربيع الذي لا وجود له". 3 - اسكن ألمًا: الآلام الجسدية والروحية وقتية، أما ألم حب مستحيل أو عالم يصعب العيش فيه فهو حالة وجود ثابتة. أي حل نتخذه أو نرفض أن نتخذه، لن يخفف وطأة هذا الألم. هذه القصيدة ترتكز على هذه الخلفية: أليس من الأفضل تعمّد الامتناع عن الكتابة، قبل بلوغ الانحدار وتقليد الذات؟ إن آلام الكتابة رتيبة. وتكرر دائمًا الشيء ذاته. وليرتاح المبدع من كابوس العمل، وانهماكه كل ليلة بما يجب إنجازه في الغد، عليه، أن يشبع حاجته إلى التجدد، الذي بين يوم وآخر، يلغي خطط الأمس. آخرون سيتغنّون بالاندماج المتناغم، لكن الاندماج ليس التجسيد. إنه ضمّ مصطنع، لا يولّد أجسادًا حية. إنه سحر مزيّف، كتابة روتينية تحمل ثقل ماضيها. ولكن "في ما بعد، سيقارن هذا المبدع بمارد مفكك، سيد المستحيل". إذ أن الفكرة السامية التي تسيطر عليه، في عملية الخلق، تلزمه أن يترك عمله مفككًا في شذرات. وهنا يتوجه شار إلى هذا المبدع الذي ليس سواه هو بالذات: "ومع ذلك لم تفعل سوى زيادة ثقل الليل...". وهكذا، فالليالي التي كان يأمل أن يمضيها في راحة تامة، أصبحت أكثر ثقلاً... سابقًا، كان الجدار الذي يسطم المستقبل الطليق، همًّا خلاقًا، وفي هدمه لم يلقَ غير أفق مفتوح: لقد سقط في كابوس اصطياد أي شيء ينشله من هذا الشعور اللايطاق، ويعيش الآن في جو حار، ولكن بدون ثمار يجنيها الصيف. وها هو ساخط على الحبيبة التي لم يكف جمالها عن مطالبته بالإبداع. فإلى متى حصاد الهاوية؟ ولكن ماذا يحصد؟ وقد فقأ عيني الأسد، أسد الحصاد المجنّح، هذا المسخ السموي الذي يصعّد في الفضاء شرهًا إلى فرائس حقيقية (الأسد هو البرج الخامس في فلك البروج، ويحتل وسط الصيف، من 23 تموز إلى 22 آب). ما العمل إذًا؟ "ما الذي شدّك إيها الشاعر مرة أخرى، إلى أعلى قليلاً من غير أن يقنعك؟". إن الحل الموقت الذي اتخذه في التوقف عن كتابة الشعر، كان نوعًا من التقدم الجدلي. فأن يطرح مشكلة التعرض للانحدار يعني ارتقاء درجة. لكن الحياة الشعرية تفلت من كل جدل أو نقاش. لها ضرورتها الداخلية البحتة. ولا تذعن إلا لقوانين لا يمكننا لجمها، كما لا يمكن لجم أحلامنا على حد سواء. وفي مثل هذه الحال، لا نستطيع الإدعاء أن "مقرّنا قد أعدّ"، فنحن في موقف مشوش، متناقض، غير صاف. وعليه، فليس أمامنا سوى أن ندع حياتنا تقرر عنا. فهي تعرفنا أكثر منا. 4 - جاكمار وجوليا: قصيدة أشبه بحلم. لكنها لا ترمز إلى شيء. إنها استحضار للطفولة. "العنوان يرتبط بذكريات عائلية، كما قال شار لبول ڤاين. غير أن ڤاين يشك في ذلك ويقول: "إذا سلّمنا بأن جوليا هي الأخت الكبرى لشار الذي يحبها كثيرًا، فمن هو جاكمار؟ لا جواب. لم يبح شار بشيء. لعله سرّ من أيام الطفولة أو حلم يصعب تبيانه. كل ما يُعرف أن هذا الاسم يرمز إلى ساعة معينة، هي ساعة جاكمار الدقاقة التي تعلن الساعات في فضاء أڤينيون. الشاعر هنا يحاول أن يحول الواقع الطفولي إلى حقيقة شعرية أسمى، أن يخلق طفولة مدهشة من فتات متساقط من ماض طفولي غامض: "قديمًا كان العشب..." لا شيء يشبه نفسه دائمًا كالعشب. فإنْ لم يكن غبارًا فمظهره هو هو على حاله دومًا. ولكن ها هو ذو ماض، وذو قصة. إنه عشب الأيام المتشابه أيضًا والوطيء كما الذي يغطي الأرض وندوسه بلامبالاة. إنما قديمًا، عند مجيء المساء، كانت أحداث النهار العادية تبدو أكثر تألقًا وأكثر نموًا. وكان الفرسان الذين يجوبون الطرق طوال النهار، ربما على أحصنة خشبية خيالية، يأوون إلى أسرّتهم بأحلام ممتعة تصوّر لهم حبيبات في قصور تشع نوافذها بالأنوار الساطعة. هذه القصور، قصور الجمال الآسر التي سنفتقدها عندما نصير كبارًا. "قديمًا كان العشب يعرف ألف شعار...": الحياة اليومية، أيام الطفولة، كانت رحبة كما السماء. هذه السماء، سماء الطفولة، التي كانت تحمي الأطفال من رهاب الاحتجاز في سجن الزمن الضيق. كان العالم جد واسع إلى ما لا نهاية. وكانت السماء "تخفف" ألم الحنين إلى قصر الحبيبة الساحر. "قديمًا كان العشب عطوفًا على المجانين...": الفيلسوف ميشال فوكو العطوف على المجانين وكاره الجلادين، كان يرى أن ثمة بالغين، يحمل الزمن بالنسبة إليهم "معنى أنيسًا". هؤلاء هم الأطفال الكبار الذين نشأوا على ذكريات الطفولة التي حبلت بها مخيلة الشعراء. هم أولئك "الشفافون" المتشردون ليل نهار، والذين خصّهم شار بقصيدة طويلة. هؤلاء "يشعرون" بالأيام كأنها تدوم أبدًا. والألعاب التي كانوا يبتكرونها وهم صغار، تلك الألعاب البريئة والمسالمة، لا تزال تجتذبهم، برغم كبرهم، لحاجتهم إلى ما يبعدهم عن واقعهم المر الذي يطبق عليهم كسجن. "قديمًا قرر العشب أن الليل...": يؤكد العشب لشاعر المستقبل أن الليل أكثر بكثير من كونه ليلاً. وأن تناميه لا يمر بـ"تعديلات معقدة". فما إن يبدأ عمل ما يرى النور، حتى يصبح مذاقه قريبًا من الشفتين. إن لعشب الأيام سلطانًا، وعلينا الوثوق به كما نثق بشخص عزيز. "قديمًا كانت الأرض والسماء تتباغضان...": العالم قديمًا كان لا يزال "مسحورًا" في نظرنا الطفولي. وكانت علاقات الطبيعة الدورية، والزمان الصافي والعاصف، في تنافر أيضًا، ولكن على الأقل كانت تعيش في ضمائرنا، وكنا نقاسمها هذا العيش بدون أن نسعى إلى فهمها. "الجفاف الذي لا يُروى يولّي...": كان العشب في عيني الطفولة، يشعل بأضوائه كل غسق. فيبدو هذا كفجر آخر. إلا أن هذا الفجر يصبح غريبًا عند البالغ. لكن الأطفال الكبار يعملون على "اكتشاف" حياة خاصة بهم، حياة قد تكون غير ممكنة، فتتناحر أفكارهم بلا هوادة، ويظل عزاؤهم في الأخير، ذلك الشبح-السراب الذي يجمّل لهم الحياة، وينقذهم من خيبات الأمل في واقعهم المر. 5 - الأخوات الثلاث: بلا نزاع، تعتبر مجموعتا "القصيدة المسحوقة" و"وحدهم يدومون"، من أعمال شار المهمة. إلا أن "الأخوات الثلاث" كان لها أثرة خاصة عند شار. صحيح أن أبياتها جافة في مقاطع، وأن ثقل مادتها التي تلامس مادة البرقيات التلغرافية، يزيد أيضًا من غموضها، غير أن دفع ايقاعها وفيض الأفكار-الصور قد ضمنا لها شعرية عالية. ويعود تميز هذه القصيدة إلى علاقتها الحميمة بدخيلة الشاعر، وبفنّه الشعري، إلى حد أن شار كان يعتبرها بورتريهًا شعريًا لشعريته. وبعد، فمن هن هؤلاء الأخوات؟ أنهن ربّات الحظ الثلاث Les Trois Parques كل منهن أخذت على عاتقها أن تضع حدًا لأيام الطفل الذي أصبح الآن بالغًا. القصيدة ليست سيرة حياة شعرية لشار منذ الطفولة. إنها ثلاث لوحات تصور المصائر الثلاثة الممكنة التي تنتظر مسبقًا كل قصيدة في طور الولادة. إنها ثلاث "حكايات" شعرية وليست حكاية شاعر. "الشاعر" في مفهوم شار، لا يملك واقعًا جوهريًا. فهو ليس سوى كلمة مجردة. هناك فقط الشعر، فالقصائد وأخيرا الأفراد الذين يحملون "شاعرًا" مضمرًا في كيانهم. في إحدى الجلسات، سأل ڤاين الشاعر شار عن رأيه في كتاب "الحالة الشعرية" لرينه مينار، فأبدى شكوكًا ساخرة بمثل هذه الحالة. فالقصائد ليست سوى شذرات من جسم الشعر. والشاعر ليس سوى تعاقب مراحل سعيدة أو حزينة من حياته الإنسانية. يبدأ شار القصيدة بتحية للجمال (وللحبيبة بنوع خاص). ثم يعرض لوحته الأولى: المقطع 1: تعود بنا هذه الأبيات الأولى إلى المخاض السحيق أو بالأحرى إلى جيولوجية هذا الطفل اليتيم. فعلماء الجيولوجيا يسمّون تلك الأزمنة الثانوية بالعهد الطبشوري أي طبقة الترسبات الصامتة (البراكين والمجالد القطبية، جاءت في زمن متأخر). بمعنى أن القصيدة لم تزل طي المجهول. لم تتعرف بعد إلى نفسها: عشب الحياة اليومية، يحجب عنها الحبَل بها. ولكن لحسن الحظ، أن هذه الحياة اليومية تتشعب في فصول روحية متنوعة لا تتعاقب وفق دورة رتيبة. فهي بالعكس، تسلك مفارق حياة داخلية مضطربة. وما هذه القصيدة-الطفل في الحقيقة، غير شار بالذات. والمقطع الثاني يثبت ذلك.
المقطع 2: الطبشور يعني الكثير بالنسبة إلى شار. فهو كان خمودًا محرِّرًا. لكنه
أيضًا كل معرفتنا. وعليه، فالشعر عند شار، معرفة معيشة شعوريًا. طاقة غير منقسمة،
ومعرفة حقة، تولد منهما القصيدة. تضاف إليهما الآن "المعرفة المنقسمة". فما هذه
المعرفة، وما الفرق بين المعرفتين: غير المنقسمة والمنقسمة؟
المقطع 3: أما هذه الزهرة، فهل تصبح ثمرة؟ هنا الاخترال في صوغ البيت الشعري يعتريه
جفاف نثري: "إن تواصلاً نشينه/ لهو لحاء أو جمد مودعان". هذا التواصل هو حقيقة،
مرسلة من الأعلى، من قبل "الكائن العظيم" إلى الشاعر. وإهمالها يشكل إهانة. ويحدث
ذلك، عندما نهمل الجمال الشعري لنتلهى بـ"الجمد"، بالقشور الرقيقة والهشة التي
يفرزها الجمال في الطبيعة. ويحدث ذلك أيضًا، في أثناء الفصول التي يدعوها الصوفيون
"فصول الجفاف"، حين يتوحد القلب تحت قشرة رقيقة بلا حب ولا ماوية. إنها أبيات تلقي
بعض الإضاءات على حياة الشاعر الداخلية. ولكن ماذا ينمو تحت هذه القشرة؟ هل هي
القصيدة؟ لا إشارة حتى الآن. الشاعر تحت وطأة نوبة انفعالية. قلبه يسرع ضرباته. دمه
فائر، وتهبّ ريح الحلم اللاواقعية فتجمّل الواقع في عيني الطفل، وتأتيه بالقبلة
الحقيقية للأشياء. المقطع 4: وهكذا، فإن هذا الإنسان الذي أصبح شاعرًا، لم يعد يشعر، في هذا الدفق من التخيلات والطاقة والمشاعر، بأنه يمشي على الأرض، بل يسبح في مياه نهر حلمي يغمره حتى الركبتين. فإلى أين يمضي به هذا الدّردور؟ إلى إجهاض القصيدة. وهو نهاية المرحلة الأولى: "وهذه السورة، مجرى الدموع...". المقطع 5 وما يليه: الثانية، هي ربة الحظ الثانية، وقد اتخذت شكل سنونوة تصرخ وتفرّ، وتدعو الشاعر إلى أن يفر من هذا العالم المحيط الذي لا تغدو نحلاته للبحث بعيدًا عن عسلها. والسنونوة عند شار، ترمز إلى الإلهام الذي يزقزق عاجزًا عن النطق بوضوح. لكنه كافٍ ليحدث ثغرة في الحاجز الذي يفصل الشاعر عن الجمال، ويعده، في معركته مع الكلمات، بمستقبل أزرق. وها هو الشاعر يدخل في ساعة صمت، ويتخيّل نفسه سنونوة تحطّ على شرفات رأس البرج الذي يشتهيه ذلك المستقبل الموعود. لكن خطأ هذا الصياد للذات وطريدته، هو الشروع في كتابة القصيدة، بدءًا من فكرة أوحت بها سنونوة ملهمة عاجزة عن الغناء. ويكون الاخفاق الآخر للقصيدة في هذه اللوحة. "إذ إن الأفكار لا تصنع القصيدة في نظر شار. كل حالة شعرية، إنما تنطلق من ضبابة "مضيئة"، تشعّ بجمال أولي". وهكذا يغوص هذان الزوجان: الصياد وطريدته الكلمات، في عباب وهم غنائي من دون أن يلاحظا، إلاّ بعد فوات الأوان، أنهما لا يعنيان شيئًا، وأن ما يكتبانه لا قيمة له شعريًا.
المقطعان 6 و7: يعود شار في هذه اللوحة الأخيرة إلى الأنوثة. فهي تظل ملاذه الكبير.
وتمثلها هنا الأرض التي تنبع منها الخديعة الضرورية للشعراء، كما لسائر الناس،
وكذلك الحظوظ في صيد الصور، كالسحلبية مثلاً، هذه النبتة الرائعة الجمال. لكن الأرض
لا تقود الشعراء إلاّ إلى مرحلة الإزهار. فلنتركها إذًا تتصرف ضمن حدودها. ولننتظر
الآتي إلينا من البعيد. وحين يموت الشاعر، هذا الإنسان-المرآة، تبقى من بعده
المرآة-الشيء، أي الشعر، في هذا العالم الذي يسميه شار في غير مكان "كوخ المؤرّخ".
ويجد هذا "الكوخ" في "المرآة" صورته التوأم. لكن هذه
"المرآة" يقطعها شَدْخ. لأن الجمال يؤلم. وألم غياب الجمال جرح ما برح الشعر يفتحه
في وجودنا، وفي مخيلتنا، أي في هذين الكوخين التوأمين: الواقعي والخيالي. تقديم وترجمة وتحليل: هنري فريد صعب *** *** ***
|
|
|