|
إبصار الموت حتى الملامسة
إلى مصطفى محمد الذي "اصطفى" دربَه في جرأة... ليتحرَّر
الانتحار... سكرةُ الحلم، هَدْمُ السماكة التي تفصل الذاتَ عن حلم الذات، خروجُ الخلف الخبيء للوميض – الصوت الأخير الذي لا يعقبه إلا هو. هو نزع السقف عن المكان للسكن في اللانهاية البهيجة، حيث طلائع الحلم–اللبلاب تلفُّ – تُعانق ما تلفُّه من نوازع نملكها في سرِّ خيالنا المقدس. التفاحة على الطاولة أمامي، يخبط العفنُ فيها مرحًا بالفراغ الذي تركتْه قضمتي، لكنها أجمل من أجسادنا التي يحتلها فراغُ قضمتك. نتمايل، لا لخبط العفن فينا، بل للدويِّ الذي يكرِّره وقوعُك هنا، في أعماقنا. إننا لا نملك من الـ"أنا" شيئًا غير انتمائنا للوجود في بعضنا. فالأنيَّة حصيلة تقاطُع أنيَّات الآخرين في ذاتنا التي تُصِّعد من ذاتها لتفسح لخطوط التقاطع الأخرى، للتناسُج في نقطة مركزية. فالذات ساح، والكون تقاطُع. لذا لا وجود للذات خارج تقاطُعاتها التي تنسج فيها جزءًا من الكون. أنت هو نحن ببقعة محذوفة، بقعة سرطانية تطرق بِعَدوَتها خيالاتنا المشدودة إليك. أشعر بكُرْه غامض نحوك! فقد حذفتَ منِّي جزءًا وألغيتَني عنك. أتغادر لتنتزع منَّا اطمئنانًا إلى عبث بقائنا في الجلبة الموحشة للخشونة التي أفرزتْنا هنا في الهيئة المضادَّة لنا؟ أم لتشدَّنا خلفك، نحذو حذو نايك الذي يختبر التحليق والاختفاء؟ أي سحر هو وقوعُك الخائنُ هيامَنا الجماعي بالخفَّة التي حلَّقتْ بك وأودعتْنا الثقل؟! يتفرَّد الوقوعُ عن الصيغ الأخرى للانتحار بكونه إبصارًا للموت حتى ملامسته. تبصر آناء الوقوع سيرتَك التي تغادرها والتي تتوجَّه نحوها. في الوقوع تبصر عُمْقَ الوقوع، نسيجَه الذي يتراءى في الوقوع وحده. صلابتنا كلُّها تستند إليك. أعلم أنِّي أكتب للبقية الهشَّة منَّا، المعلَّقة بالمدى المنظور للعدم. خطواتُنا حائرةٌ في غيابك. لماذا ترحل وتأخذ الطرقات كلَّها إليك؟! سأجني منك نموَّ نواة الاختفاء التي أحملها منذ صورتي الأولى في المرآة التي فَضَّتِ الرطوبةُ زئبقَها. أتملك، بتقويضك للذات كلِّها، افتراسَها – الصورة الجذرية لحلمك؟ أرسلْ ما يجعلني أتلمَّسها وأنا أحلم بحلمك... بالتلاشي.
..................... تهيأ للعناق، أيها الشارع!
..................... دم.م.م.م.م.م.م أنا الشارع، أيها العابرون... * * * قبل انتحار مصطفى محمد[*] بشهر كنت أعمل على دراسة عن الأمكنة المحرِّضة للوقوع، وقد أخبرت إبراهيم خليل بذلك. اختار مصطفى المدينةَ التي تتضمن العوامل المحفِّزة للوقوع. وأنا أقيم في مدينة مماثلة، مع فارق أن ابني يمسك بتلابيبي. كانت هذه حال يوكيو ميشيما الذي أثبت أن الإمساك بالتلابيب لن يدوم طويلاً! *** *** *** [*] مصطفى محمد (1980-2006) شاعر رائع من الحسكة، رمى بنفسه من على بناء عالٍ في حلب.
|
|
|