مــوتُ الحَـجَـر
داريــن
أحـمـد
هِـدَايَـة
كيف
اهتدى؟
قادَه التعبُ، وفي الفجر أخبرتْه الصورةُ عن وجهه:
كيف بدا في عتم عينيها.
تسلَّى قليلاً بالمديح، وعيناه غيمتان من ضجر،
يسمِّك الغبشَ الخفيفَ بجملةٍ:
"أصبحت عجوزًا في طرفتين."
"هي الحكمة، يا بني"، ردَّد خائفًا كأنه يعرف
أن أصلَ السرابِ العطشُ.
لنَحْمِه من ألوان صورتنا،
نحن القانعون بالله الصغير،
ولنمشِ وراءه حين يرغب،
ولنُصغِ إذ يقول: "اهتديت، والرب أعلم."
فهذا التعب جدلناه سويةً منذ أن كنَّا صغارًا،
والليل، لو تعلمون، عويل الأمهات التي أنجبت
خطًّا وتابعًا.
مــوتُ الحَـجَـر
الحبُّ، من كثرة البوح، تدلَّى فارغًا.
"أنبئي بأيِّ شيء قبل اختفائكِ –
فهنا الشعراء كانوا يقرؤون،
مسننة شفاههم، لتخرج الكلماتُ مطواعةً،
نفهمها في بطء ونمضي.
قُلْ إنك طائرُ النار،
تََخبَرُ الموتَ كأنه نبيذك،
وأنك لا حيٌّ لا ميت،
بل على جسرٍ تقف.
سأفهم أنني صخرة يلطمها موجٌ مالحٌ كلما عبرت
أفق الحياة."
يا
قلبي،
يا عاشق الزوائل،
تمدَّدْ على الرمل، على أشواك ناضجة،
وانكمش كبرعم، إنْ شئت،
قَيْثِرِ الخطواتِ التي تمشي.
سيجهل الموتُ شكلَك، لكنه سيعرف
خفَّة الخطوات في جسد،
كمثلي،
يناغي السكوتَ في زمن يابس
ليقول: "كنَّا يافعين حين كان العشب حلمًا."
ألوان اللعب متوهِّجة،
تتوِّج العمر الذي كان.
يسرقني المكان، وأفكاري تنأى بعيدًا.
هو قلبٌ فقط ذاك الذي يخفق،
لكننا سنسمِّيه مرآةً وحجرًا،
ونقول: "أفلتْه، أيها الوقت، من شِباك الرتابة،
اطعنْه بأظافر الآن،
وتمنَّ أن يبدِّدك صمتُه بعد حين."
سنقول إن الكلمات
لن تركل البابَ مرة أخرى وتُحشَر في المكان،
وسننام في ظلِّكِ، أيتها اليد المستريحة في الأبد.
لماذا، لماذا حين طَرَقَ الريحُ بابي جفلتُ
وصاغني صوتُ الصرير خطواتٍ له؟
لماذا مشيتُ والبحر خلفي يغيب
كشمسٍ؟
لماذا تلقَّفتُ لقيماتِ الطفولة، جائعةً
إلى كفٍّ خلف رأسي وهمسٍ يغنِّي؟
كأنِّي سقطتُ من رحمٍ،
وكأنِّي سمعتُ صوتًا شاحبًا يذر الكلام:
"تعالوا، هنا النهر الذي عبرتم مرتين،
هنا العطر الذي خاف من وردة،
هنا السماء الغافية والنجم المقلقل والصراط،
هنا أثري لبدرٍ يحدِّق في امرأة."
الليل: معجزةُ الجفاء،
مفتاحُ الولوج،
ريشةُ الأشكال المنتفخة،
استدارةُ الفم المعطوب والحرف الأخير،
وهمٌ يرتق الوهم،
صحبةٌ حيةٌ ميتة.
لكنْ، لن يخطر ببال الشعر أن يفنى هنا،
لن يخطر ببال الشعر أن يقول كلمته ويمضي –
هنا في الأسود الممتد في كلِّ شكل.
مسـخٌ يـأكـلُ أصـابعي
أتخيل جنَّةً ورديةً
لا سماء فيها ولا أرض،
بل فراغٌ بلون واحد
كنت أحبُّه يومًا.
أقرع ذكرى الغابات
وذكرى بيوت خشبية أحببتها يومًا كذلك،
أتلصَّص من نوافذ لا وجود لها
لأرى منزلاً دافئًا
وأطفالاً يشنقون الدمى برغبة سوداء:
أن يُفنى كلُّ شيء أحبوه يومًا.
أغنِّي بلا صوت أو لمسات تحرِّض شفتيَّ،
بلا لعاب أبتلعه بين الحين والآخر لأكمل أغنية
لا أعرفها.
أنام، لكن لا يشبه هذا النوم نومًا
صاخبًا بالخيالات والأحاجي،
وأصحو، أتمطَّى كأنِّي أفهم أن أوان الخروج آتٍ.
زهرة أخرى، أيها العشب الغريب،
وينكسر قلبي.
جسـدُكَ
جسدكَ سماءٌ محترقة،
وأنا اشتعالُ الشمس فيها،
عدمكَ الذي لا يشبع وموتكَ،
اختفاء أسرارك كلِّها، توجُّعات الكلام من هوامشه،
وانتحار البداهة والخيال.
الآن يشقُّ صدرَكَ صدري،
تلك الهمهمات الخفيفة للحيِّ فيه تتحرك. أتحركُ،
يتحرك الشجر العاجز، النهر...
وعيٌ يغمر الحاضرَ بالحاضر،
ويدي تُرسَم مرة أخرى وترسم.
محَـاولـة
بين
الأصلين طائرات ورقية،
لكن الريح ساكنة، والسماء يلفها غيمٌ أزرق، حتى إنِّي نسيت
شكل الرأس: أهو مدوَّر أم مربع؟ أهو منبسط على امتداد الاختلاف
أم محجَّم بإلهه؟
الشوارع المزرقَّة، مثل رضٍّ على جسد جميل، لم تقل شيئًا.
زيَّنتُها بدخان السجائر حينًا،
وحينًا كنتُ أترك قبلةً على صوان خُفوتها لعلَّها تخفق. فالخوفُ منبسطٌ
على امتداد الاختلاف، والخوفُ مسخٌ قادرٌ،
له الأشكال الهندسية كلُّها.
ظـلٌّ نسـويٌّ
أقدامنا تتعرج كالظلِّ
والشمس لن تأفل قريبًا؛
ستظل مثل قبعة عتيقة، على رأس فزَّاعة، نُسيت.
وسننظر إلى درجات اللون
في التربة، في العشب، وفي مشية الميت،
لكن في السماء لا.
يقول صوتٌ: "ارتفعوا!"
فنذكر يونس وعتمَه ولا نذمُّ الآلهة.
ألتفتُ. لا غجري يمرُّ بشراشيب على أذنيه تصهل،
لا بداوةٌ تنهار، لا صقرٌ يرصد أقبيةَ الشجرات الصغيرة، ولا أرانبُ تستحم في
الغفلة.
فقط ذلك الظلُّ، ودرج كأنه سُلَّمُ الأفق، والأفق سطح.
صـندوق پانـدورا
الليلة
سأغمض عينيَّ وأقرأ للوسادة شعرًا مرتجَلاً،
سأهادن الذاكرةَ بالذاكرة – وكلانا كاذب – لكنها الحاجة والتضاد.
سأعيد للأسطرة حديقتَها الربيعيةَ في رأسي،
ولن أعتذر عن غيابها قولاً، بل سأجمِّل لأجلها العالم
وأقبل الخوفَ الذي تنفثه في سكوني كأفعى، قبل أن تحرِّكها الموسيقى،
فتحتْ رأسَ سلَّتها وخرجتْ من سهوة الحاوي وغبطة الناي.
***
*** ***