|
مـديـحُ الخـفَّـة
1 لعلِّي، فيما مضى من حياتي، كنت أتفكَّر في الموضوع من دون تركيز، وبشكل غير واعٍ، لأن الاعتقاد السائد الذي كان يسيطر عليَّ أيضًا هو أنه يجب على الواحد منَّا أن يكون جِديًّا بالمطلق وأن يتصرف على هذا الأساس. فالجدِّية في التعامل مع الذات، ومع أمور الحياة، أساسية، ضرورية، ومحببة حتى. ولكن، في هذا العالم حيث نحيا، من الجليِّ أن كلَّ شيء، إذا ما بولغ فيه، يفقد جوهره ويتحول إلى نقيضه. فحتى الجدِّية، إنْ تجاوزت حدودًا معينة، فقدتْ "جدِّيتها" وتحولتْ إلى مجرَّد مظهر، وصارت بكلِّ بساطة... مضحكة! وهذا ينطبق، قبل كلِّ شيء، على ما نتخيل ونتصور أنه الألوهة... هذا "الإله" الذي خلقنا على صورته والذي، كما جاء في "الكتب المقدسة" لدياناتنا الأرضية[1]، يحمل مئات الأسماء لمئات الصفات التي تبدو، في معظمها، مخيفة ومرعبة! ما يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان (هذا الإله) يعرف معنى الضحك ويتقبل المرح! وأتخيل، منطقيًّا، من منطلق أنه كامل وقادر على كلِّ شيء، أنه على الأقل يعرف الابتسام، وإن كنت أفضِّل أن أحلم، فأتخيله في أعماق قلبي لا مبتسمًا فقط، بل ضاحك أيضًا، لكن على طريقته، وأتخيل أن ابتسامته وضحكه، على خليقته ومعها، ناجم عن حبِّه وطيبته اللامتناهية. وأتفكر أن محدودية النظرة المكفهرة إلى الألوهة هي نقطة الضعف الرئيسة والقاتلة لدياناتنا الأرضية. وهذا ما يتجلَّى في أوضح صوره من خلال المنظور الأصولي المتطرف لبعض معتنقي هذه الديانات. وأتفكر أن المسيحية كانت، من هذا المنطلق، أرقى من الديانة التي سبقتْها ومن الديانة التي تلتْها لأنها، من خلال يسوع ومريم، تخيلت الألوهة المُحِبَّة وهي تبتسم. ولكنني ألحظ، من هذا المنظور تحديدًا، أن البوذية كانت هي السبَّاقة، وهي الأجمل على الإطلاق، لأن بعض مدارسها أجاز أن يُتخيَّل البوذا إنسانًا قصير القامة، كمعظمنا، سمينًا من كثرة الطعام، كبعضنا، وأيضًا، في الوقت نفسه، تخيلَه ضاحكًا، ساخرًا من نفسه ومن الخليقة التي تتشبَّه به.
البوذا الضاحك! وهذا ما يدفعنا إلى النظر إلى أنفسنا بشيء من السخرية، وإلى التمعن قليلاً في الخفَّة، كضرورةٍ بتنا نفتقدها في حياتنا... 2 وأستطرد... فأعود إلى أيام قليلة مضت، حين أتيح لي أن أشاهد مع زوجتي، في دار الأوپرا بدمشق، ميلودراما غنائية إيطالية من عصر الباروك (1693) بعنوان زنوبيا ملكة تدمر للموسيقي الإيطالي توماسو ألبينوني. فكان أول ما استوقفني في هذه المسرحية الغنائية الجميلة جدًّا تلك الخفَّة المحبَّبة التي عالج بها المؤلِّف الموضوع: لم تعد القصة قصة اجتياح الجحافل الرومانية المتوحشة، بقيادة الإمبراطور أوريليانوس، مملكةَ تدمر المتمردة وأسْرها ملكتَها، ولا قصة حروب هذه الملكة ومقاومتها العسكرية الباسلة، إنما، من خلال إدخال الخفَّة على التاريخ، تحويل ما حصل إلى قصة حب (غير متبادل) بين الإمبراطور الروماني وبين زنوبيا التي عشقها لجمالها ونبلها وسموِّ أخلاقها – ما أوصلنا إلى تلك النهاية السعيدة للقصة المتخيَّلة، حيث أعاد الإمبراطور إلى زنوبيا مملكتَها وأفرج عن ابنها الأسير. وأتساءل: ألا يحق لنا أحيانًا، يا ترى، التعامل ببعض الخفَّة مع تاريخنا وأبطالنا وأنبيائنا، فنعيدهم إلى ما كانوا عليه أصلاً، كونهم، في نهاية المطاف، مجرَّد بشر مثلنا؟! وأتخيلنا نداعب ألوهتنا العابسة، فنجعلها تبتسم، وندغدغ حواريينا وصحابتنا المتجهِّمين، فنجعلهم يضحكون، ونسخر حتى ممَّن صوَّرناهم أبطالاً عظامًا في تاريخنا، كخالد بن الوليد، مثلاً، أو صلاح الدين، ليس حصرًا، فنعيدهم إلى ما كانوا عليه أصلاً: مجرَّد بشر، أبناء زمانهم وبيئتهم المتخلِّفة. نعم، بكلِّ بساطة، أتخيلنا نضحك على "ماضينا العريق" ونسخر من "حاضرنا المجيد"، تمامًا كما يفعل الآخرون مع ماضيهم وأبطالهم وحاضرهم.
زنوبيا ملكة تدمر. وأستعيد، للمناسبة، فيلمًا أمريكيًّا مميزًا شاهدتُه ضمن هذا السياق – فيلمًا تحدث عن ناپوليون پونابرت، مفترضًا أنه لم يمت في جزيرة القديسة هيلانة، كما أجمعت كتب التاريخ، بل إن مَن مات هناك كان شبيهًا له. أما ناپوليون الحقيقي، الذي هُرِّبَ من سجنه في تلك الجزيرة النائية حيث صرف عدة سنوات، فقد عاد إلى فرنسا ليناضل من أجل استعادة عرشه الإمبراطوري الضائع. وتكون النتيجة أن يُفاجأ ناپوليون الهارب بأن الجميع في بلده قد نسيه وسخر منه، فلم يتعرف إليه أحد، كما لم يأبه لادعاءاته الإمبراطورية أحد. وفي باريس يقيِّض له القدرُ شخصًا يصطحبه إلى مصحَّة للأمراض العقلية يريه فيها عدد المجانين الذين يتوهمون، بسببه، أنهم ناپليون، فيصيبه الهلع... قبل أن يستجيب، في نهاية القصة، لحبِّ المرأة الشعبية الطيبة التي آوتْه في نزْلها، فيقرر أن يصرف ما تبقى من عمره معها إنسانًا عاديًّا، بعيدًا عن الأضواء. لأننا مللنا، في نهاية المطاف، من صور المعارك ومن مشاهد الدماء والخراب والقتل، وبالأخص، من قصص البطولات الزائفة لعظماء ما كانوا، في التحليل الأخير، إلاَّ على شاكلتنا: مجرَّد بشر، نعم، مجرَّد بشر! 3 وأتفكر في الموضوع بمزيد من التعمق. لأن القضية ليست البتة في تلك الثنائية الكاذبة التي تخيِّرنا بين الجدِّ والخفَّة – فالثنائيات كلها كاذبة في نهاية المطاف – ولأننا، في الحقيقة، لا نشعر فعلاً بأهميتنا في هذه الحياة إلاَّ في تلك اللحظة التي نتعاطى فيها بجِدية مع الأمور، لأننا حينئذٍ نكون قد بدأنا نتلمس أهمية حاضرنا ونقارب قمة وعينا. فالقضية ليست قضية خيار، بل هي رفض للزيف وللمظاهر. لأن مظهر الجد، في هذه الحال، يصبح مساويًا تمامًا لمظهر الخفة، ويكون كلاهما كاذبًا. لأن القضية – القضية برمَّتها – هي في أن نكون عفويين، صادقين مع أنفسنا، فنتعاطى مع كلِّ ما يواجهنا بشغف وبمحبة. فالجدِّية، حين تحدُّ نفسها بالمظهر أو بالشيء، تصير زائفةً وتفقد جدِّيتها. وفي هذه الحال، سرعان ما تتحول الجدِّية إلى مجرد مظهر لا علاقة له بذلك الشغف المنفتح، غير المحدود، على اللحظة التي يجب علينا عيشها في صدق كامل. لا يوجد، في الحقيقة، فرق بين الشغف وبين الجدِّية: فالجدِّية قد لا تكون إلاَّ ذلك الوجه المتوتر لشغف تعيدُه الخفَّة إلى مكانه الطبيعي، فتجعله يتجاوز ما تبقى من ذواتنا المنتفخة. ما يعني أن من المستحب دائمًا، على غرار سقراط، أن نسخر من أنفسنا ومن مظاهر جديتنا. فهذه السخرية لا تمس الجوهر الحقيقي لتلك الجدِّية لأنها تتجاوز هذه الذوات المتضخِّمة، فتجعلها قادرةً على الضحك. لأن القضية، حين نفهمها، لا تتعدى كونها مجرَّد إشكالية ظاهرية. ففي قلب الجدِّية تبلغ الفكاهةُ ذروتَها. والفطنة الحق هي أن نعي تمامًا هذه الإشكالية الظاهرية، فنتجاوزها، لنزاوج بين الجدِّ المطلق والفوران الراقص لفكاهة تنبثق من قلبه كضوء خفيف، غير عقيم على الإطلاق. لأنها خفَّةٌ أن نكون أحرارًا فعلاً، صادقين مع أنفسنا حقيقةً. لأننا نخطئ تمامًا حين نعتقد بأن الجدِّية تتناقض مع الضحك. وهذا ما عبَّر عنه، بكلِّ جدِّية، المغفور له ريمون دوڤوس[2] حين قال إن "الضحك جدِّي جدًّا ولا يجوز التلاعب معه"!
ريمون دوڤوس. لأننا حين نتمعن في وجه تشارلي شاپلن، في معظم أفلامه، نتبيَّن كيف تتزاوج الخفَّة بالجدِّية، فتجعلنا نبكي ونضحك معًا.
تشارلي شاپلن في فيلم بيلي الولد. ولأن نيتشه لم يكن مخطئًا حين قال: "إن الإنسان يبلغ سنَّ النضج حين يستعيد تلك الجدِّية التي كان يتمتع بها حين كان طفلاً يلعب."[3] وأكتفي بهذا القدر... *** *** *** [1] أقصد اليهودية والمسيحية والإسلام! [2] ممثل كوميدي وموسيقي بلجيكي فرنسي. [3] فريدريش نيتشه، ما وراء الخير والشر.
|
|
|