|
غدًا سندخل المدينة
كتاب جديد من مذكرات ابراهيم سلامة
يبدو هذا الكتاب من طينة صاحبه في الشكل والمضمون على حد سواء. يشبهه إلى الحد الذي لا يزال ابراهيم سلامة على تماس مع المدرسة التي درج عليها في الكتابة الصحافية. كان سلامة ابنًا بارًا للصحافة اللبنانية الحديثة، فيما انطوت عليه من شغف في أن تتحول إحدى الوسائل في التعبير عن الزمن المعاصر. غير أنه في الوقت عينه، كان ابنًا ضالاً لهذه المهنة الصعبة باعتبار أنه لم يندرج في سياقها الارتزاقي ولم يتخذها، كسواه، ذريعة انتهازية لتحقيق مآرب ذاتية. أحب المهنة حتى الثمالة، وتمرّد عليها إلى درجة المجافاة عندما انزلقت إلى ما لا يتوافق مع مزاجه القاسي. عمل في كبريات الصحف والمجلات اللبنانية في الداخل والخارج، وساهم في تأسيس عدد منها، ومع ذلك استبقى هامشه الخاص الحي، مفضلاً الانحياز إلى ما يرغب في أن يراه هو في لعبة الصحافة. انعكس هذا الأمر على طريقته في الكتابة، فتطورت بالخبرة والأفكار والالتزام لتكتسب شيئًا كثيرًا من النقد والسخرية اللاذعة التي تصيب حيث يجب أن تصيب. يبدو ابراهيم سلامة، في هذا السياق، سليلاً غير مدّجن لسباقين في هذه المهنة من أمثال كبارهم: بهيج تقي الدين ونصري المعلوف وسواهما ممن ساهموا في منح الصحافة نكهة لبنانية نقدية مختلفة ومتميزة. والواقع أنه لا يزال على ما هو عليه، صحافيًا ممتلىء بنشوة المهنة أكثر من سعيه إلى البحث عن المناصب الفارغة. معظم زملائه من الرعيل نفسه امتلكوا مؤسسات صحافية. لم يقدم هو على ما أقدمواعليه. آثر مزاجه في الكتابة وأفكاره على الشروط القسرية المفروضة. رصيده في ذلك، أنه لم يستخدمها وسيلة للارتزاق، أو شرطًا ضروريًا للانضواء تحت تصنيف محدد كي لا تصيبه لوثة التهجين، فيخسر نفسه ويربع العالم. إنه ابراهيم سلامة يكتب أحيانًا كما يقول، ويقول كما يفكر، بلا ممالقة ولا زلفى، ولا تمرغ على أبواب البلاطات. إنه صاحب "المزاج" في الحياة وفي الكتابة، ومزاجه عصب كتابته، تمامًا كما هي سخريته وحدته واختزاله وأسلوبه العاري غير الفضفاض، عصب أسلوبه. * * * خيط هزيل أشبه بالظل يرتسم، على الأرجح، بين أدب المذكرات ورواية التاريخ. الأول يُعنى مباشرة بسرد الوقائع والأحداث والتفاصيل الشخصية الناتجة، في الأساس، من اصطدام الذات بالوعاء الأشمل الذي ينسكب فيه الفعل الإنساني العام. الثانية لا تنسجم مع هذا التصوّر. فكتابة التاريخ ينبغي أن تكون من نسيج التاريخ عينه: استجابة باردة للكيفية التي تجري، من خلالها، قراءة التاريخ في ما ينطوي عليه من تراكم في التجربة الإنسانية الشاملة. كتابة المذكرات، في هذا السياق، هي التعبير الأقرب إلى الذات وهي تبحث لنفسها عن موقع تطمئن إليه وسط متاهة التاريخ الغامض. الاضطلاع بالمهمة الأخرى يفترض بالضرورة فكًا للارتباط مع الذات، والأغلب كبتًا قسريًا متعمدًا لنزواتها جميعًا: حبًا وإعجابًا وحقدًا واستماتة إلى آخر هذه المنظومة من التحولات المزاجية للذات الضيقة. يبدو كتاب ابراهيم سلامة الصادر حديثًا بعنوان غدًا سندخل المدينة يستحوذ على شيء من طرفي هذه المعادلة: المذكرات الشخصية من جهة، والتسلّل منها بين الفينة والأخرى، إلى حيث تتقلص هذه الأخيرة ليحتل مكانها أجزاء من صيرورة أوسع لا علاقة لها بها، من جهة ثانية. يتصدر غلاف الكتاب عنوان آخر هو: "ابراهيم سلامة يتذكر"، في إشارة يستدل بها، على الأرجح، على أن ثمة ما يمكن الإفراج عنه من سجن الذاكرة، إذا صح التعبير. ومع ذلك، قد يبدو التذكر، في هذا الإطار، محكومًا إلى حد كبير، بما يرغب الكاتب في البوح به بعد أن غطته السنون الطويلة بطبقة كثيفة من غبار الأيام والأزمنة والأمكنة والوجوه والأحداث، وقد يستتبع هذا التصوّر الافتراضي تساؤل لا يندرج، بشكل أو بآخر، في ما ذهب إليه سلامة في مذكراته من مذاهب. ولكن يبدو ملحًا في تشكيل قراءة موضوعية لمضمون الكتاب. وهو: ما الباعث على هذه الانتقائية الملحوظة في اختيار الأحداث والوقائع الشخصية التي يفرد لها الكاتب صفحات مديدة على نحو لا يخضع لتسلسل زمني لا يعوّل عليه في استنطاق الذاكرة التي لا تعترف، في الأساس، بجدوى التعاقب الزمني؟ لا إجابة محددة عن هذا التساؤل الذي يخيّم بظلّه على سائر فصول الكتاب، وإن كان الأغلب، في هذا المجال، إلقاء الضوء على المحطات التاريخية التي يرى فيها سلامة حافزًا قويًا على اشتداد عوده المهني والفكري. ومع ذلك، يظل هذه التساؤل قائمًا حتى ولو استهوتنا بساطة التعبير، وعمق الفكرة ومتانة الإيجاز الذي ينقلنا بسرعة مدروسة من موضوع إلى آخر. بعثرة محبّبة من تجربة الكاتب في مجلة "روز اليوسف" في مصر، إلى وصفي التل وأبو أياد، إلى الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية، إلى قمة عدم الانحياز، إلى هواري بومدين، إلى أم كلثوم وجيهان السادات، ثمة بعثرة واضحة من الذكريات والمناسبات واللقاءات، يستعيدها الكاتب بأسلوب ساخر، محبّب، لا يهمل فيه أهمية الحدث، ولا يحمّله من الأفكار أكثر مما يحتمل. قد تبدو هذه البعثرة، المحيّرة أحيانًا، والمنسابة بعفوية، أحيانًا أخرى، من الركائز الأساسية التي يستند إليها الكاتب وهو يفتح أدراج الذاكرة منقبًا في زواياها بلهفة الماضي وتعقّل الحاضر. لا يجمع بين هذه البعثرة المبرّرة إلاّ سعي حقيقي لدى الكاتب إلى إعادة قراءة تلك المرحلة من خلال الوجوه والأفراد والشخصيات التي ألقت بها الأقدار في طريقه المتشعبة. غير أنه، في الوقت عينه، وهو يعمل النظر في طبيعة تلك الفترة السياسية بامتياز، يعمد إلى قراءة أخرى أكثر عمقًا وانفتاحًا على ذاته في الزمن الراهن. تتمثّل في استكشاف ما آلت إليه أحوال نفسه بعد أن تقلّب عليها الدهر وعجنتها السنون وهذّبتها التجربة. كلما تمادى الكاتب في الانزلاق بعيدًا في دهاليز الذاكرة، كان يختصر المسافة، في الوقت عينه، نحو التوصل إلى رؤية أوضح إلى الحدث في بوتقته السياسية الاجتماعية. يخيّل إلينا، أن الكاتب وهو يطرق بوابة الذاكرة بعنف، يستعجل الدخول إلى تلك المنطقة الضبابية التي تبدو فيها الذات على شيء قليل أو كثير من التشتت. يستدرك سلامة هذه "الهشاشة" بأن يدوّن تاريخه الخاص ليصبح أكثر تماسكًا في تلك المرحلة المضطربة. يفعل ذلك بتواضع يدعو إلى الاعجاب متجنبًا الادعاء والقيام بأدوار البطولة. ولا ينسب إلى نفسه صفات ومهمات من ذلك النوع الذي يثير شبهة الإصابة بعقدة الاضطهاد. لا شيء من هذا القبيل في المذكرات. نلحظ، أحيانًا، أنه قد يسقط على حدث ما أو شخصية معينة، أو واقعة محددة، ما تستحق من أهمية على نحو يخفُف من ظهوره الشخصي المباشر أو الفج في الاطار الكلي للصورة. علمًا أنه لو فعل غير ذلك، لما كانت وجهت إليه سهام الانتقاد، لأنه يستجمع ذكريات هي من صنعه وحده. هل بدا ابراهيم سلامة ملتزمًا بما اشترط على نفسه في عنوان الكتاب، بأن تقتصر رحلته في الكتاب على تدوين مذكراته الشخصية فقط. أم أنه كان يتفلّت احيانًا من هذا القيد الذي وضعه على نفسه ليخرج قليلاً من الذاكرة الضيقة إلى ذاكرة التاريخ؟ الأرجح أنه لم يخلّ بهذه المعادلة غير "المقدسة" في الأساس، إلاْ في نطاق ما تفترضه كتابة المذكرات من شرود ذي ايقاع منضبط نحو قراءة الحدث الشخصي في حدود تجلياته السياسية الأوسع. عادة ما يستخدم الكاتب هذه "التقنية" كلما أحسّ أن مذكراته تكاد تتعثر في بلوغ مأربها، أو أنها تواجه مأزقًا ما كأن تنحبس في عنق زجاجة، على سبيل المثال. في هذه الحالات التي تكثر أو تقل في الكتاب وفقًا لطبيعة الحدث الشخصي، يلتف الكاتب عليها، فيتقدم خطوة إلى الأمام أو يتراجع قليلاً إلى الوراء نحو قراءة هذه الواقعة أو تلك في أبعادها السياسية التاريخية الزمنية. لا ينتقص هذا الأسلوب من قيمة التأريخ الشخصي للمذكرات وهي تتدفق من عمق الذاكرة إلى مستودع اللحظة الراهنة. كما ليس من شأن هذه الاستطرادات، غير المثقلة برواسب الايديولوجيا والافتتان الذاتي بموهبة التحليل السياسي، أن تأكل من رصيد المذكرات أو تحل مكانها بأي شكل من الأشكال. وليس يبدو، في أي حال، أن الكاتب يحتاج إلى شحنة إضافية من "المعنويات" التحليليلة ليستدرك دورًا في الصحافة فاته منذ زمن طويل. يغلب على هذه المذكرات التشبت بنمط من العفوية هي من صلب هذا النوع من الكتابة المنفتحة على كل الاتجاهات. قد يتذكر الكاتب أحيانًا مواقف قد تنال من صدقيته المهنية أو انتمائه السياسي في تلك الأثناء المتأرجحة بين الشيء ونقيضه، بين الحقيقة وظلها، بين الايديولوجيا وأصدائها المنكشفة على تداعيات مخيفة. ومع ذلك، فهو يؤثر تدوين الحدث، أو اللقاء، أو الحوار كما حصل وإن كلفه هذا الأمر إثارة علامات استفهام لا يبدو أنه مولع بها في الكتاب. يُخيّل إلينا أن هذه الميزة بالتحديد قد وفرّت للكاتب هامشًا واسعًا للتجرؤ أحيانًا على قول ما لا ينبغي أن يقال في هذا الزمن الرديء. رؤية إلى الذات في سياقها السياسي الفكري الأشمل، تفتقر إلى أقلام التلوين التي غالبًا ما يجري استخدامها لإلباس الحقائق أقنعة ذات ملامح صارمة. وفي أي حال، لا توحي هذه المذكرات، في طبيعة تكوينها واستدراجها من مخابئها في الذاكرة، أنها قد تتحول مادة للتجاذب أو القال والقيل، أو قد تصبح عرضة للتشهير والتكذيب أو التسفيه. ليست على الأرجح، من تلك الفئة من المذكرات التي تستهدف الإساءة إلى أحد. ولا يظهر في الكتاب أن سلامة يوظفها لحسابات تتخطى أدب التعبير عن لحظات هاربة تلقّفها من جديد وغيّر وجهة سيرها من الماضي إلى الحاضر. المذكرات من طينة متحولة، على الأرجح، تنهل من معين الذات، وتنفتح على الأفق العربي والدولي الأوسع، وتقتحم أحيانًا الخيط الهزيل الذي يفصل بين كتابة المذكرات وتدوين التاريخ. مقابلة ماو من فصل بعنوان رحلة الصين، نقتبس الرواية الآتية: مضى علينا في الصين أكثر من عشرين يومًا ولم نقابل بعد الزعيم "ماو تسي - تونغ" ولا رئيس الدولة "ليو تشاو شي". عند سؤالنا بعض السفراء العرب (الجزائر - مصر - اليمن الديموقراطية) تأكد لنا أن ليو تشاو شي قد أبعدته "الثورة الثقافية" وأن الرجل الصاعد حاليًا في سلم السلطة هو الجنرال "لين بياو" وقد لاحظنا صورًا عديدة له مع الرئيس ماو وقد كتب تحتها "القائد الربّان وخدنه لين بياو" وتشاورنا بين بعضنا حول هذا الموضوع، فتنطح "أبو قوس" وطمأننا بأنه لا يمكن أن تغادروا الصين قبل مقابلة "ماو" لكنّ ذلك يتطلب قليلاً من الوقت وكثيرًا من الصبر. في اليوم التالي حضرت مرافقتي في حدود الثامنة مساء (وهذا غير مألوف في نظام الحزب) سألتني: هل تعرف لماذا جئت؟ قلت: لا. وكيف لي أن أعرف؟ قالت: بعد غدٍ استعد فلدينا "مشوار مهمّ جدًا". قلتُ لها: إلى مقاطعة "هونان" أكيد. قالت: ليس من حقي أن أوضح. وعليك أن تستنتج. هتفت لغسان وناجي علوش بعد انصرافها ورويت لهما ما جرى. وكان الاتفاق أننا أخيرًا سنقابل الربّان - القائد المُلهَم - الذي يغني له نصف مليار طفل صباحًا ومساء، ومجرد ذكر اسمه شبه صعب أو ممنوع على السنة الشعب الصيني. بعد رحلة شاقة في "البوسطات"، استغرقت أكثر من خمس عشرة ساعة، وصلنا إلى مقاطعة "هونان" مسقط رأس الزعيم "ماو". وزعونا على فنادق درجة خامسة. وكان نصيبي غرفة مع شرفة أنا وغسان. الحرارة في الليل فوق الثلاثين والرطوبة بين 90 و95. فكيف السبيل إلى النوم؟ اتفقنا غسان وأنا على أن ينام هو على الشرفة وأنا في الحمام (البانيو)، لكن لا هو نام ولا أنا غفوت، ووقفنا على الشرفة حتى أطلّت الشمس كالسيف القاطع. عند ذاك تذكرنا مقطعًا من شعر ماو يقول فيه مخاطبًا شباب الصين: "أنتم أقوياء كشمس الصين في السابعة صباحًا". عند الساعة العاشرة، وقبل أن تقلع "الشاحنات" باتجاه منزل "ماو" أبلغنا رسميًا بأننا سنحظى ونتشرّف بمقابلة "ماو" وربما بمصافحته. الطريق إلى بيت ماو كأنه مقطع من أغنية لأم كلثوم: زهور وورود وشموع على طول وهدوء تكاد تسمع منه زقزقة العصافير. ثم، بتواضع كاذب، تتوقف "الباصات" أمام منزل شبه متواضع: من الخارج درج ثم مدخل. ولا حراس ولا أمن عام ولا أمن خاص كأنك تزور كنيسة بيزنطية أثرية في أنطاكية. وقفنا بالصف حسب حروف الأبجدية وكان إلى جانبي مندوب غينيا - سيكوتوردي. دقيقة ثلاث خمس. والزعيم ما زال "مشغولاً" في الداخل. أخيرًا أطل رجل طويل القامة يأخذ من قدمه اليسرى قليلاً له منكبان واسعان ورأس ضخم يوازي أربع "رؤوس بطيخ" من النوع الكبير المربع والمستطيل. لم يتكلم، بل تولى الكلام نيابة عنه وزير الثقافة الذي قال: "إن رئيسنا وقائدنا سعيد بلقائكم أنتم كتّاب آسيا وافريقيا" وسكت. ثم أخذت لنا الصورة التذكارية "البانورامية". وبعد ذلك سُمح لنا بمصافحته فردًا فردًا مع ذكر البلد والاسم. ثم انصرفنا وكأننا اصطدنا "رأس الدب"!. بعد مضي 24 يومًا زرنا خلالها وسط الصين وغربها وجنوبها استبدّ بنا الضجر من تكرار العبارة نفسها، ومن النماذج التي كانوا يجهزّونها لنا فيما البلاد - الصين - غارقة في فوضى ومتاعب "الثورة الثقافية" اختلوت بغسان وسألته: "والدك حيّ أم متوفيّ"؟ أجاب: متوفي من زمان. قلت له: وأنا كذلك. عليك الآن أن تزور سفير الجزائر صديقنا وتطلب منه أن يتصل بسفير الجزائر في القاهرة ليرسل له "تلكسًا" بأن والدك ووالدي قد توفيا، وهكذا ننهي الزيارة ونخرج من هذا الكوكب - السجن. أُعجب غسان بالفكرة. وصباح اليوم التالي قصدنا سفارة الجزائر وأطلعنا السفير على نيتنا بالسفر خارج الصين من دون أن نسبّب إحراجًا لأحد. وفي حفلة ندب وبكاء على سطح فندق "غربي الصين" قدموا لنا العزاء اللازم مع كلمة عاطفية مؤثرة فيما حاولت، غسان وأنا، البكاء تذكرًا لموتانا. ونجحنا في البكاء من شدة اليأس وحسرة على لبنان الجميل العظيم الذي اتفقنا معًا على أنه يساوي خمسين صينًا شعبية وغير شعبية. وبقطار نظيف مُرتّب عبرنا من مدينة "كانتون" إلى "هونغ - كونغ" ومن هناك إلى بيروت مباشرة. *** *** *** المستقبل، الثلاثاء 29 نيسان 2008، العدد 2947، ثقافة وفنون، صفحة 18
|
|
|