شعاع على التاريخ[1]

قراءة في كتاب شعاع قبل الفجر، مذكرات أحمد نهاد السياف[2]

 

معاذ اللحام

 

أيها التاريخ العفن
يحقنون كبدك بمصل الحياة
وأنت في باطن الأرض
حيث الفضلات والذكريات
صفارات إنذارك
أخرستها طبول القيصر

سنيه صالح

 

"التاريخ ذاكرة الأمة" يقول عبد الرحمن منيف فما بالنا نعاني من أعراض فقدان الذاكرة، ليس ذاكرتنا الأكثر طفولة رغم ما تعانيه من مغالطات، بل ذاكرتنا الأقرب عهدًا والأكثر تأثيرًا بحاضرنا والأكثر فعالية في رسم ملامح مستقبلنا.

تلك الذاكره الممتده تحديدًا من 1920-1946م وما رافقها من تمايز القوى الثورية والسياسية في سورية أبان الاحتلال الفرنسي.

ثمة عوامل عديده أدت إلى الإخفاق الأكاديمي التاريخي في تناول المشكلات الاجتماعية والتصدعات التاريخية في تلك الفترة، في مقدمتها تحكم النزعة الإيديولوجية في إعادة بناء التاريخ السوري انطلاقًا من تمركزات وكوابح إيديولوجية قومية أو طبقية أو وطنية

وكأننا أمام اتجاه إجباري للسير، هكذا يراد أن يتم الأمر وأن مناقشة هذه التصدعات التاريخية سيفتح الجروح تحت شعار أن الوحدة الوطنيه يجب ألا تمس في هذه المرحله "حاضرنا" من صراعنا.

هل صحيح أن تسليط الضوء على مشكلات اجتماعية عميقة يهدد وحدتنا الوطنية؟ أليست العدالة الاجتماعية كأحد مظاهر الديمقراطية الضامن الوحيد للوحدة الوطنية؟

في كل الأحوال ظلَّ المسكوت عنه كثيرًا وشديد الأهمية

في هذه اللحظة، وانطلاقًا من هذه الرؤية، تنتصب هذه الأوراق "الشهادة-الصدمة" لتضعنا في مواجهة حقيقية مع شخصيات ليست روائية ولكن من لحم ودم وأفكار، لتهشم السردية الرسمية التي سادت والسردية الشعبية التي أريد لها أن تسود ولا تملك أن تمنع يدك أن تضرب على جبهتك وتقول: آه لقد خُدعنا هكذا إذن!

تأتي أوراق السياف لكي تضيئنا وتنقل التاريخ من

منطقة الصمت إلى منطقة الصوت

إنها

دعوه حوارية للانصاف والعدالة

وللحقيقة أولاً وآخرًا.

يرتحل الباحث محمد جمال باروت بوعيه وبوعينا من مجاله "النقد الأدبي" ليتقدم خطوة إلى الأمام في جهده المبذول لدراسة التاريخ الاجتماعي السوري ولا سيما

النواحي المغيبة والمطموسة في الفترة الانتقالية الممتدة من الانتداب إلى الاستقلال،

حافرًا بشكل أعمق وشاق في جذور أكثر القضايا تعقيدًا وأكثرها طمسًا في تلك الفترة: قضية سلمان المرشد. وما هذه الأوراق التي تمَّ تحقيقها إلا اكتشاف رائع في سياق بحثه.

ودافعه في ذلك

ليس مجرد انصاف الضحايا وما أكثرهم بل التحول من السردية العصبوية للتاريخ إلى طرح مقاربة مختلفة للحقيقة التاريخية

وبشكل نقدي معتمدًا على "منهجيه صارمة" في التحقيق ومستندة إلى الوثائق "التي تتحدث بنفسها عن نفسها"

وأتت الهوامش لتشكل رافدًا أساسيًا لتحقيق رؤية أوضح وأعمق وتزيد من قدرتنا على استيعاب المشهد التاريخي. وتكمن أهمية الأوراق كما يراها الباحث في نقطتين:

الأولى: التعبير عن تجربة الجيل الثاني من الحركة الوطنية السورية متمثلةً بالكتلة الوطنية بزعامة ابراهيم هنانو، وكان السياف أحد رجالات هذا الجيل.

الثانية: إضاءة تجربة شخصية ورسمية ديناميكية في الفصل المعقد في التاريخ السوري "قضية المرشد" حيث لعب السياف دور الوسيط بين سلمان المرشد والحكومة وكان لشهادته أمام المجلس العدلي تأثيرها البالغ في سياق القضية.

ولد السياف 1909-1992م في حلب لعائلة مدينية متوسطة، تلقى تعليمه في تجهيز حلب، وانتسب إلى معهد الحقوق العربي في دمشق، قطع دراسته تحت اضطرار العمل الوظيفي، عمل في معمل التبغ في حلب "الريجي"، تدرج في السلك الوظيفي ليتولى إدرة الفرع الإقليمي للريجي كأول مدير وطني لهذه الشركة في 1945م.

تأثر بابراهيم هنانو وكان أحد مساعديه وأحد الوجوه الشابة الناشطة. وكان للسجال الثقافي الصحفي الذي ساد حلب في أواسط ونهايات العشرينيات الدور الكبير في تكون المنحى العصري والعلماني والمستنير المبكر المضاد لسلطة الأعيان التقليديين ورجال الدين لدى السياف.

يقسم الباحث الأوراق إلى قسمين. ونقرأ في أوراق القسم الأول:

§        هيمنة الصهيونية العالمية على السلطنة العثمانية والقوى الجديدة الناشئة فيها "تركيا الفتاة".

§        إعلان الجنرال اللنبي انتهاء الحكم العثماني في سورية وقيام الدولة العربية فيها، وإعلان فيصل ملكًا عليها بقرار من المؤتمر العربي الأول، وكان ابراهيم هنانو وسعد الله الجابري نوابًا فيه.

§        انسحاب بريطانيا لتحل محلها فرنسا وهو ما عرف باتفاق الاستبدال، وإنذار الجنرال غورو.

§        تقسيم سورية إلى دويلات ذات طابع طائفي: أ- دولة دمشق، ب- دولة حلب، ج- دولة العلويين، د- دولة جبل الدروز، هـ- لواء اسكندرونة، بالإضافة إلى نظام عشائري مستقل وغير خاضع للقوانين السورية.

§        ابراهيم هنانو: من الثورة إلى المحكمة.

§        منع عملية اقتراع لانتخاب مجلس نيابي يمثل دويلة حلب في كانون الأول 1926 م.

§        انتخابات عام 1928م: نجاح قائمة ابراهيم هنانو عن حلب، وتشكيل الجمعية التأسيسية وظهور أول انقسام بين الوطنيين إلى فريقين، أحدهما يؤيد اسناد منصب الرئاسة إلى هاشم الأتاسي والآخر يؤيد هنانو، وتمت الرئاسة للأتاسي ورئاسة لجنة الدستور لهنانو وفوزي الغزي مقررًا. اجتمعت الجمعية التأسيسية وفوجئت لجنة الدستور بطلب المفوض السامي الفرنسي تعديل ست من مواد الدستور وهي المواد المتعلقة بالوحدة السورية. وإضافة المادة 186 التي تشل معظم مواده.

§        انتخابات عام 1932 م: في دمشق فازت قائمة الوطنيين، وفي حلب تم تزوير الإنتخابات من قبل فرنسا لتفوز قائمة صبحي بركات وتفشل قائمة هنانو. انعقد المجلس برئاسة صبحي بركات وتم انتخاب محمد علي العابد كأول رئيس للجمهورية والذي كان سفيرًا للدولة العثمانية لدى واشنطن في عام 1908 م، وحقي العظم رئيسًا للوزارة، وجميل مردم بك وزيرًا للمالية.

§        دعوة ابراهيم هنانو للتظاهر احتجاجًا على تزوير الانتخابات.

§        اعتقال السياف.

§        ضغط هنانو على جميل مردم بك للاستقالة من وزارة المالية بعد قراره حصر استثمار التبغ (تنباك، ورق سكائر، سكر، ملح) بالشركة الفرنسية "الريجي" كشركة ذات امتياز.

§        قطع سياسة ما سمي (التعاون النزيه) مع فرنسا بضغط من هنانو والمحافظة على وحدة الكتلة الوطنية واستخدام زعامته وإرثه الثوري لمنعها من ابرام تسويه مهلكه مع الاحتلال.

§        لقاء إحسان الجابري مندوب سوريه لدى عصبة الأمم ببن غوريون. ويبدو أن إحسان الجابري كان متهمًا بإقامة علاقه مع فتاة يهودية تولت سرقة شيفرة الاتصال بين الجابري ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني.

§        بيد أن اللقاء الأهم هو الاجتماع السري بين حاييم وايزمن وجميل مردم بك في حزيران عام 1936 الذي تطور إلى اجتماع سري آخر في آب 1936 وعقد في بلودان بين وفد يهودي برئاسة الياهو ابشتاين ووفد كتلوي قيادي ضم شكري القوتلي ولطفي الحفار وفخري البارودي.

§        سلخ لواء اسكندرونه وتصفية الحكم الوطني متلبسًا مسؤولية ضياع اللواء، ومتهمًا باغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.

وفي أوراق القسم الثاني نقرأ:

تصفيق حار يتردد صداه في قبة المجلس في وقت كانت فيه الأرض تتفجر خصبًا، في أيار وفي الحادي والعشرين منه كان يقف فخري البارودي لا ليردد:

بلاد العرب أوطاني          من الشام لبغدان

بل ليتلو بيان النائب السوري عن محافظة اللاذقية، قضاء الحفة، السيد سلمان المرشد:

إني أضع نفسي وعشائري وأموالي تحت تصرف الأمة والحكومة وأعلن أنه إذا كان هناك خلاف بيني وبين الحكومه فأنا وطني قبل كل شيء وعلى استعداد تام للقيام بكل ما يتطلبه الوطن وبكل ما توجبه سيادة البلاد.

كان ذلك بعد يومين من القرار السوري اللبناني بعدم الدخول في مفاوضات مع الجانب الفرنسي ليأتي رد فرنسا مباشرًا وعنيفًا في 29 أيار بقصف دمشق والمجلس الوطني.

في أعالي الجبال حيث السنديان يحدد خطوط السماء وفي قرى تحدها السماء من كل جانب، كان الظلم والفقر هما السيدين المطلقين وكأن كلمة عدالة سقطت قسرًا من كل القواميس. وكان قد ولد في يوم ما من عام 1907 م في واحدة من تلك القرى، جوبة برغال، ليقف ذلك الصبي الأمي ولم يتجاوز عمره السادسة عشرة ليعلن وسط ذلك الخراب المسيطر:

إن ظهور المهدي المنتظر لابدَّ قريب وسيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا.

هذه هي الكلمات المفتاح لأناس عانوا القهر حتى أدمنوه وينتظرون الخلاص الذي يمثل عقيدتهم. وما هي إلا لحظات حتى جاشت النفوس بالرفض وإعلان العصيان على الجلادين.

شعرت فرنسا ومحسوبيها بقرب النار فقررت خطفه وسجنه مع مريديه لمدة ثلاثة أشهر، ليطلق سراحه ويجبر على المثول مرة كل خمسة عشر يومًا في مركز القضاء في الحفة.

وانتقلت الدعوه خطوةً إلى الأمام فحدثت معركة بين الفلاحين والقوات الفرنسية في قرية شين في حمص استشهد فيها خمسون فلاحًا واعتبر سلمان المرشد مسؤولاً عنها، فأصدر المفوض السامي قرارًا بنفيه مع تسعه من أبرز مريديه إلى الرقه مشيًا على الأقدام. وينزل ضيفًا على آل العجيلي ليعود بعد سنتين قضاها في النفي ويستقبل استقبال الزعماء، وأول عمل قام به دعوة جماعة عمر البيطار السنية الثائرة في جبل صهيون للانضمام إليه لمقاتلة الفرنسيين. هذه الجماعات التي تشكل نقطة التقاء ثورة الشيخ صالح العلي في القسم السفلي من جبال الساحل مع ثورة ابراهيم هنانو في الشمال السوري.

في العاشر من كانون الأول 1946 م صدر الحكم، وقف سلمان المرشد في المحكمه شاكرًا المجلس العدلي المنعقد لتبرأته من تهمة الخيانة العظمى بعد أن عجزت الحكومة وأزلامها عن إثبات التهمه:

أنا لا يهمني الشنق ولا الإعدام بل تهمني التهمة المنسوبه إلي بأني عدو الاستقلال

موصيًا بلف جسده بالعلم السوري.

لماذا شنق سلمان المرشد إذًا؟

أربع لحظات ترسم ملامح حياة هذا الرجل، الزعيم الإمام كما يدعونه أبناء الطائفة المرشدية خلافًا للمعتقد الشعبي السائد.

من الولادة الفقيرة إلى بدء الدعوه- الثورة إلى النضال مع الفلاحين ضد الملاكين، إلى المحكمة التي سلمته إلى جلاديه.

والآن إلى السياف الذي يضعنا في قلب القضية لحظة تأزمها:

§        تعيين السياف مديرًا للريجي في اللاذقية

§        محاصرة الجيش البريطاني للقوات الفرنسية في اللاذقية، عام 1945 م، وتجريدهم من أسلحتهم.

§        تكليف السياف بتسوية خلافات سلمان المرشد مع الحكومة وبروز ثقة متبادلة بين الرجلين.

§        الطريقة غير النزيهة في تعامل الحكومة مع سلمان المرشد ودعمها لخصومه السياسيين والزعماء المدينيين في اللاذقية.

§        الحرص على وضع المرشد تحت إقامة شبه جبرية وتحديد تنقلاته في دمشق أثناء انعقاد جلسات المجلس النيابي الذي كان نائبًا فيه.

§        تأكيد فرح المرشد واغتباطه بالاستقلال في رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية شكري القوتلي.

§        تنصل سعد الله الجابري رئيس الحكومة من وعوده للسياف.

§        تأزم الوضع ومحاصرة جوبة البرغال واعتقال سلمان المرشد وعائلته.

§        شهادة السياف في المجلس العدلي في قضية سلمان المرشد وتعرضه للابتزاز.

§        محاولة سعد الله الجابري رشوة صحفيي مصر لعدم الخوض في تفاصيل المحاكمة ومنع نشرها في الصحف المصرية.

§        تبرئة المرشد من تهمة الخيانة العظمى وإصدار حكم الإعدام بسبب جنايات قتل حدثت خلال عملية اعتقاله.

§        أما قضية الربوبيه فلم تدرج في المحكمة كقضية مدعى عليه فيها رغم حضورها في الإدعاء العام بل استخدمت في الاستعداء والتعبئة الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية للتأثير على الرأي العام. وتوضح المقوله المرشدية ذلك:
أن سلمان لم يدع الناس أن يتخذوه ربًا، بل هو إمام وزعيم نقدسه ونحبه كثيرًا، أسسنا وبشر بقيام المهدي ونادى بقرب وفاء الله لوعده.

§        رفض شكري القوتلي أية وساطة عربية لعدم إعدامه مع رفضه التوقيع على قرار الإعدام وحرصه على أن يعدم.

§        رفع الحصانة القضائية عنه وتنفيذ حكم الإعدام في 16 كانون الأول 1946 م.

§        المعاملة السيئة التي لقيها أبناء وعائلة المرشد من نفي وسجن، فقد تم اغتيال مجيب المرشد على يد عبد الحق شحادة قائد الشرطة العسكرية في عهد أديب الشيشكليي27 تشرين الثاني 1952 م وتم وضع إخوته (محمد الفاتح، ساجي، النور المضيء) تحت الإقامة الجبرية وإدانة كل مرشدي بتهمة الإنتماء إلى منظمة سرية. وذلك حتى 1970 عندما ألغى الرئيس حافظ الأسد هذه الأحكام.

§        الطريقه الطائفيه التي أديرت بها البلاد من قبل رئيس الحكومة سعد الله الجابري ورئيس الجمهورية شكري القوتلي

انكفاء الحكم الوطني وبداية فترة الانقلابات

كل هذا مدعومًا بالوثائق ومحاضر الجلسات والمراسلات واللقاءات التي أوردها محمد جمال باروت في هوامش الكتاب ملقيًا الضوء على جزء مهم ومغيب من تاريخنا ومساهمًا في وصول الحقيقة تلك الحقيقة التي مهما غيبت سوف تظهر ولأنه لا عقيدة أسمى من الحقيقة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] -  شعاع قبل الفجر، مذكرات أحمد نهاد السياف، تقديم وتحقيق أحمد جمال باروت، اصدار خاص 2005 م

[2] -  تعبّر الآراء الواردة في هذه المقالة كما في هذا الكتاب عن وجهة نظر صاحبها. وقد ارتأينا نقلها لأن صاحبها من قراء معابر، ولأن ما يورده جدير بأن يدقق بشكل محايد – هيئة تحرير معابر.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود