الإمامُ المَهديُّ (ع) والحِوَارُ الكَونيُّ الفَعَّال

 

يوسـف العـاملـي[*]

 

يقول تعالى في سورة سبأ (24-26) مخاطبًا مجموع الإنسانية:

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِيْنٍ * قُلْ لا تُسْأَلُوْنَ مَا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ

كلُّ ما في الوجود يُحاور الإنسان، وكلُّ ما في الإنسان يُحاور الكون. ولكي يكون هذا الحوار مدركًا لفاعليته المنسجمة مع أبعاده الوجودية الحقيقية، كان لا بدَّ من فاعلالإنسان الكامل، المهدي (ع) – يوجِّه هذا الحوار إلى كشف حقائق الإنسان الكبرى.

فهوية الإنسان الضائعة في التاريخ، وفعل الإنسان فيه، تجعل الإنسانَ العاقلَ يطرح سؤالاً جوهريًّا: هل مسار الإنسان على مسرح الحياة كلُّه صراع وحروب ودمار؟! أم أن الإنسان سوف يجعل من تجربته الوجودية التاريخية حوارًا يكون من خلاله إنسانًا واعيًا بحقيقة كينونته الفاعلة في الكون؟

الإنسان مخلوق "حواري"

الحوار يخلق في كينونة الإنسان الوعيَ بالمعرفة الحقيقية التي خُلِقَ لتكون حقيقته المبلِّغة لأهدافه الكبرى؛ فكان بذلك "أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً" (سورة الكهف 54). فالأشياء كلها خُلِقَتْ من أجله، وكان هو فيها فاعلاً بوعيه. لكن ما معنى أن يكون الإنسانُ واعيًا؟ أن يكون الإنسان واعيًا، ذلك يعني، بكلِّ بساطة، تعقُّل العقل العاقل، أي أن يكون في دوره فاعلاً في تعقُّل الحقيقة الوجودية.

فما معنى تعقُّل الحقيقة الوجودية؟

كل مخلوق له رِجلان ولسان وعينان، وهو على هيئة الإنسان. هو آدم بالقوة، نعم، غير أنه ليس آدم بالفعل. فآدم "عُلِّمَ الأسماءَ كلَّها" (سورة البقرة 31)؛ غير أن أغلب "الآدميين" اليوم، لو سألتَهم، واحدًا تلو الآخر، ما معنى أنك "عُلِّمتَ الأسماءَ كلَّها"؟، هل يستطيع الفرد الآدمي منهم تعقُّل هذه الحقيقة الملازمة لوجوده "الاستخلافي" (سورة البقرة 30) الأرضي؟ من دون تعقُّل هذه الحقيقة، تبقى حقيقتُه مفقودةً في وعيه الذاتي لذاته، فيكون في ذلك جاهلاً لدوره الوجودي الذي يجعل منه إنسانًا حقيقيًّا يحمل صفات خالقه في أفعاله.

"الحَكَم العدل" والحواريَّة الكونية

مرَّتِ الإنسانيةُ بحقب تاريخية عايشت فيها شتَّى الصعوبات الطبيعية والاجتماعية. فهل خَلُصَتْ تجربتُها على مسرح الأرض إلى وعي إنساني يتيح للفرد الآدمي الارتقاءَ في درجات وجوده السامية؟ أم أنها مازالت تعاود تجاربَها الماضية، المسحوقة في الحقب التاريخية، في جهل معرفيٍّ بقيمة وجودها على الأرض التي جُعِلَتْ فيها مستخلفةً من قِبَلِ الربِّ الباري والربِّ الخالق؟

إن هوية الإنسان الآدمي المُستخلَف على وجه الأرض تتحدَّد في وجهتين لاسمين إلهيين، وهما: الرب الباري، والرازق الفتاح. فمن جهة "الرب الباري"، يكون الآدمي في توجُّه إلى أصوله الإلهية؛ وفي "الرازق الفتَّاح"، تكون هوية الإنسان في سموٍّ معرفي ورقيٍّ وجودي يجعل هذا المخلوق الإلهي يدرك ما عليه إدراكه في سبيل الدخول إلى العوالم الإلهية التي مُنِحَتْ له منذ البداية. وفي ذلك كلِّه، ينعقد حوار كوني يمنح للإنسان المُستخلَف على الأرض التناغمَ مع القوى الوجودية الفاعلة في المنظومة الوجودية كلِّها.

جاء في أحد الأدعية المرتبطة بالإمام المهدي – عليه السلام – ما معناه: إنه (ع) سوف "يقيم العدل طولاً وعرضًا". فما هما "العرض" و"الطول" المقصودان في هذا الدعاء؟

1.     إقامة العدل "العرضي" تعني إقامة العدل الأرضي بين الأجناس، بين الأديان، بين الحاكمين والمحكومين، بين الطبقات الاجتماعية، بين جميع الناس، فيكونون سواسية في محضر من الشريعة الإلهية المنسجمة مع طبيعة الفطرة السليمة التي سوف تتناغم مع النظام الكوني وأسماء الله الحسنى في إظهار عدله المقدس – سبحانه وتعالى – للجميع. فعدل الله القائم بين أزلية الآزال وأبدية الآباد لا بدَّ له من ظهور عياني في مسرح الحياة.

2.     أما إقامة العدل "الطولي"، فذلك يحتاج إلى شرح عميق للعلاقة التي تربطنا طوليًّا مع الله – سبحانه وتعالى –، ربِّ الأرباب جميعًا.

جاء في مقالة مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية للإمام الخميني أنه – سبحانه – لما عيَّن "الأعيان الثابتة" الحاملة لأسمائه الحسنى، تنازعت فيما بينها، فكان خلافُها حول الدور المنوط بها في تعيُّناتها، فالتجأت إليه – سبحانه وتعالى –، أي إلى موجِدها وأصلها الإلهي، طالبةً منه أن يجعل لها حَكَمًا عدلاً تحتكم إليه حتى تستطيع تأدية دورها الوجودي الإلهي الموجودة من أجله.

فتنازُع المدارس الفكرية اليوم، الظاهرية والباطنية والوجودية والتاريخية، إنما هو عينه ذلك التنازع الذي كان في التعيُّنات الإلهية الأولى في أسمائه. فكثرة المدارس الوجودية اليوم يجعل الباحث عن الحقيقة الدينية والإنسانية في حيرة من أمره:

-       فالإسماعيلي وجد أن الباطن هو الأصل وأنه هو الحقيقة كلها، وما الظاهر إلا التابع؛

-       والزيدي يجد أن مسألة عدالة الصحابة لا نزاع فيها مع السنَّة؛

-       والسنِّي يرى أن أصول الدين ثلاثة، وهي: التوحيد والنبوة والمعاد؛ كما أن أصوله الكلامية فيها اختلاف كبير مع المناهج: فهو يميل إلى الجَبْر في فعله، حتى وإنْ لم يعتقد به صراحةً في فكره؛ وذلك ناتج عن خلل في الاعتقاد النظري لديه.

كما يوجد في الاتجاه نفسه اختلافٌ عميقٌ بين جميع المِلَل والنِّحَل الموجودة في أديان العالم:

-       فالهندوسي، مثلاً، يرى أن كلَّ شيء هو برهمَن، أي كلَّ شيء حق؛

-       والبوذي يرى نفسه متحدًا مع العالم كلِّه في النيرڤانا ("الفناء")، فيجد نفسه عابدًا لله بذلك الاتحاد عِبْرَ رياضات روحية خطيرة؛

-       والدرزي يجد أن العقل المدرِك هو كلَّ شيء؛

-       والزرادشتي يجد أن العالم يتقاسمه إلهان متفقان في كلِّ شيء: واحد إله الشر، والآخر إله الخير، وهما شيء واحد في الأصل؛

-       والمسيحي يعتقد أن إلهه ينقسم إلى ثلاثة أقانيم: الآب، والابن، والروح القدس؛

-       واليهود يجدون أن يهوه هو الإله الذي يمكِّنهم أن يفهموا أحسن منه؛

-       إلخ[†].

إن هذا الصراع الفكري الخطير والمفارق يجعل من الكائن الإنساني كائنًا مليئًا بالتناقضات الموضوعية. فهل سوف يُحسَم هذا الصراع الخطير القائم في مملكة الإنسان، الباطنية والظاهرية، ليخلص إلى هوية إلهية تمكِّن هذا الكائن الإلهي من معرفة أبعاده الوجودية؟ سؤال تصعب الإجابة عليه مادام الجميع يدَّعي الحقيقة لنفسه ويجدها الوحيدة لبقائه.

إن دور مولانا الإمام المهدي – عليه السلام –، في ظلِّ هذه الصراعات الفكرية والتصورية والذهنية كلِّها، هو دور الحَكَم بين هذه الاتجاهات كافة، والعدل فيما بينها، فيكون هو بمنزلة اسم الله الأعظم ("الحَكَم العدل")، فترجع الدائرة الوجودية من حيث بدأت، لتُطلِقَ أسرارها كلَّها "في الآفَاقِ وفي الأنْفُس" (سورة فصلت 53)، لتُظهِرَ الإبداع الإلهي في أحسن تقويم إلهي، مصداقًا للحديث القدسي: "كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأردتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلق، فبي عرفوني." فيكون هذا الظهور المتجلِّي في قلب مولانا المهدي، الخاتم للولاية التكوينية، بمثابة تمامية الظهور الإلهي للنفوس كلِّها في الآفاق جميعًا.

الخلاصة

سُئل الإمام المرتضى – عليه السلام –:

-       "بِمَ عرفتَ ربَّك؟" فقال:

-       "بما عرَّفني نفسَه." قيل:

-       "وكيف عرَّفك نفسَه؟" فقال:

-       "لا تشبهه صورة، ولا يُحَسُّ بالحواس، ولا يقاس بالناس؛ قريب في بُعده، بعيد في قُرْبِه؛ فوق كلِّ شيء، ولا يقال شيء فوقه؛ أمام كلِّ شيء، ولا يقال له أمام؛ داخل في الأشياء، لا كشيء في شيء داخل؛ وخارج من الأشياء، لا كشيء خارج. سبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره."

إن جواب أمير المؤمنين هذا لهو لبُّ جوهر الحوار القائم في مملكة الإنسان منذ الأزل. لذا فهذه التيارات الإنسانية كلِّها، الفكرية والإيديولوجية والسياسية، ما هي إلا المظهر لصراع باطنيٍّ من أجل معرفة ربِّ الأرباب والتحقُّق به في آخر حِوارها مع الوجود والكون والحياة والطبيعة.

فظهور الإمام المهدي اليوم في عصر الإعلام والسرعة والتواصل هو من أجل هذا الحوار؛ وهو كذلك من أجل هذا الإنسان: فهو الذي سوف يفتح للفقيه فقهَه، وللفيلسوف فلسفتَه، وللعارف عرفانَه، فيوحِّد ذلك كلِّه في نهج إلهيٍّ سليم يجعل توحيد الفقيه الظاهري يتساوق وتوحيدَ الفيلسوف العقلي، يتساوق وتوحيدَ العارف الكشفي الشهودي.

فهل يا ترى ستجد المدارس الفكرية الإنسانية اليوم، بعدما خَلُصَتْ تجربتُها الفكرية إلى صراع وحوار كونيٍّ بين جميع اتجاهاتها، إلى فهم حقيقي للعلاقة التي تربطها مع مصيرها الغائي والأصلي؟

إن ربَّ أمير المؤمنين – عليه السلام – هو ربُّ الإمام المهدي – عليه السلام –، وهو الفتَّاح العليم.[‡]

*** *** ***


[*] باحث وكاتب من المغرب.

[†] في رأينا أن عرض الكاتب المختصر للملل التي يأتي على ذكرها فيه اختزالٌ كبير لمعتقداتها. فليراجع القارئ في معابر (باب "منقولات روحية" و"القاموس الفلسفي") أبحاثًا ومقالاتٍ تناولتْ هذه الملل للوقوف عليها بشيء من التفصيل. (المحرِّر)

[‡] ملحوظة: موضوعي هذا بعيد عن أية دعوة إلى مذهب بعينه أو إلى اتجاه فكري معيَّن، أردت فيه وحسب طرحَ وجهة نظري في الحوار الكوني بحسب اعتقادي الشخصي الذي يحترم جميع العقائد النابعة من النفس الآدمية التواقة إلى الحوار والمعرفة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود