ماذا بقي من أفلاطون للتاريخ؟

 

مصطفى الحسيني

 

هل يصلح هذا عنوانًا لمقال عابر؟ ربما كان الأوْلى به كتابٌ يستغرق جهد مؤرخ ضليع وكبير للفلسفة لسنوات عديدة، ثم قد لا يخلو من فجوات ولا ينجو من عثرات. ربما يكون جهدًا من هذا القبيل قد بُذِل، وربما تعددت فيه الاجتهاداتُ وتنوعت وتباينت وتنازعت. إذ ليست المعرفة كلها "تذكُّرًا"، بحسب نظرة أفلاطون إليها أو نظريته فيها. نبضُها ومحرِّك تطورها ومُخصِبُ نموِّها ومفجِّر حيويتها اشتقاقٌ واكتشاف وابتداع.

أما أن يكون عنوانًا لـ"شاردة واردة"؟! لا يجوز!

ومع ذلك، ها هو ذا يَرِدُ هنا. ربما له وجه. ربما من باب التوارد.

* * *

أو نطرق بابًا آخر قد يُفضي بنا إلى جمهورية أفلاطون التي تدهورت منذ زمن طويل في دارج الأحاديث والمناقشات والمجادلات إلى مَثَل يُضرَب على ما هو "غير عملي" unpractical، "غير واقعي" unrealistic، بل وساذج naive، من التصورات والأفكار. فكأنها أخلتْ مكانَها المكين في تاريخ الفلسفة والأفكار لتصبح مضغة في أفواه "المتفلسفين"!

أفلاطون (حوالى 427 – 348/347 ق م)

في هذا الزمن الذي نعيش، دون أن يكون بالضبط زماننا، اعتدنا أن نسمع عن "العملي" practical أشخاصًا وآراء ومواقف وقرارات. ويقال هذا في صيغ المدح والتقريظ والاستحسان. يَرِدُ تقييمًا، كما يَرِدُ على سبيل النصيحة. ويكاد يلحق به "الانتهازي"، – ولولا بقية من نفاق اجتماعي يُسمَّى "تهذيبًا" لقيل صريحًا؛ – وهو ما يحدث في مجتمعات أخرى، ليس لأنها أقل منا ميلاً إلى هذا اللون من النفاق، إنما لأنها لا ترى في الانتهازية نقيصة، بل تعتبرها لونًا من "الحكمة"!

وبما أن الكلام جرَّار، نذكر أن كاتبين أمريكيين كتبا واحدة من التراجم الشخصية لوزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر عرضا لقصة زواجه الثاني الذي تزامَن مع صعوده السياسي، فذكرا أن المرأة التي أصبحت شريكته في هذا الزواج، لما "اكتشفت انتهازيته"، قررت أن تساعده في الصعود نحو قمة المجتمع السياسي في العاصمة، ثم الزواج منه إنْ أثمرت جهودُها. وقد لا يخلو من طرافة في نظر السذَّج من أمثالنا أن تلك السيرة الشخصية أقرَّها كيسنجر وزوجته قبل النشر!

ولما كان الشيء بالشيء يُذكَر، تأتي الإشارة إلى أننا في العادة نخلط في أحاديثنا، وفي فهمنا أحيانًا، بين "الانتهازية" opportunism و"الوصولية" arrivisme. فعلى الرغم من أن المذمَّة تجمع بينهما، فهما خصلتان مختلفتان: الأولى عامة واجتماعية–سياسية، بينما الثانية خاصة وشخصية. "الوصولي" arriviste هو المتزلِّف، المتسلِّق، الذي لا يردعه شيءٌ عن السعي إلى المنفعة. دعنا منه. ما يعنينا هو "الانتهازي" opportunist الذي، على الرغم من قواعد اللغة وأصولها، لا يتمايز عن الانتهازية ذاتها. ولها في الممارسة السياسية معانٍ عديدةٌ وتطبيقات: منها المراهنة على نتائج فوق ما تطيقه الأوضاع؛ ومنها تعجُّل النتائج؛ ومنها تعمُّد إبطائها أو تخفيضها لتحقيق الانحراف بها من العام إلى الفئوي مثلاً؛ ومنها الإغراء باللامع البرَّاق عن الحقيقي الرصين؛ ومنها تحويل الوسائل إلى غايات والغايات إلى أشكال وشارات وطقوس؛ ومنها ما يصفه دارجُ الكلام من أن "الغاية تبرر الوسيلة" (مكياڤيللي)، حتى لو لم تكن الغاية نبيلة أو صحيحة، مادامت تحقِّق لأولي الأمر شيئًا يلائمهم أو يطمعون فيه.

* * *

يعيدنا هذا إلى أفلاطون.

لازَم أفلاطون بين السياسة والأخلاق. اعتبر أن الكلِّيات universals دائمة، أزلية أبدية. فسَّر بعضُهم الديمومةَ بالثبات. هذا فهمهم وشأنهم. أما أفلاطون، فمن أبواب الاجتهاد فيه التعرف إلى شأنه في هذا الأمر: التطابق أو التفاوت بين الديمومة والثبات. هل يمكن في هذا أن يسترشد مَن يريد بالقياس على كون أفلاطون اعتبر الظواهرَ متغيِّراتٍ زائلات؟ هذا الكاتب لا يعرف ولا يملك جرأة الاجتهاد في بحث ينطوي على ما ينطوي عليه هذا من مضاربة. المهم أن أفلاطون اعتبر أن الكلِّيات هي مادة الكون الذي هو مصدر الحقيقة والمعرفة والخير، التي هي مادة الفلسفة، التي هي "محبة الحكمة"، التي هي معنى كلمة "فلسفة" philo-sophia في اليونانية القديمة. والحكمة هي جوهر الخير أو أن الخير هو جوهرها. وظيفة الحكمة بث الرشد في المجتمع، وبه يُساس، أي عليه تقوم الرئاسة التي هي "السياسة" politics.

على الرغم من أن الفلسفة اليونانية، التي كان أفلاطون واسطة العقد في التأسيس للمرحلة الثانية من تاريخها بين معلِّمه سقراط وتلميذه أرسطو، تُعتبَر واحدًا من العُمُد المتينة للفكر الغربي، فقد جرى التاريخ عليها مجراه المعتاد لينتقي منها ما "يلائم الزمان"، فيستبقيه، وما عداه يهمله أو يُسقِطه أو يُدخِل عليه التحويرات وينحرف عنه بالتفسيرات، بحسب الحاجة و/أو المصلحة، وفي كثير من الأحيان بغضِّ النظر عن الحكمة التي يحضن صدرُها الحقيقة والمعرفة والخير.

ولعل من مفارقات تاريخ العلوم والأفكار أن المرحلة الأولى للفلسفة اليونانية كان همها هو بالضبط ما يشغل مؤسَّسات العلوم الحديثة في زماننا الراهن، أي البحث في أصل الكون. الفرق في الوسائل. دون أن يعني هذا أن الفلاسفة، ثم العلماء، لم يحققوا في 26 قرنًا من الزمان إلا يسير اليسير من التقدم. العكس هو الصحيح. فالفارق شاسع ما بين تأسيس المعرفة على التصورات النابعة من النظر العقلي البحت وبين إقامة بنيانها المكين على التجربة والاختبار.

رافائيلو سانتي (1483-1520): جدارية "مدرسة أثينا" (1509-10، تفصيل): يُرى في وسطها أفلاطون (مشيرًا بإصبعه إلى فوق وحاملاً كتابه طيماوس) وأرسطو (مشيرًا بيده إلى تحت وحاملاً كتابه الأخلاق).

كانت بداية هذا التحول الشاسع في أدوات التعرف والاستكناه في تلك المرحلة الثانية التي كان سقراط وأفلاطون وأرسطو أقطابها؛ وكان الأخير منهم، أرسطو، أول فيلسوف يعتمد الاختبار والتجريب في البحث عن جواب أسئلته.

لكن "الحكمة" تغيَّر معناها. استعيض عنه بـ"النجاعة" effectiveness، التي هي كفاءة إدراك الغرض الذي لا تقوم علاقةُ لزوم بينه وبين الحقيقة والمعرفة والخير، أي جوهر الكون ولب حياته.

* * *

النجاعة هي جوهر ما أصبحنا اليوم نعرفه باسم "الفلسفة الپراغماتية" pragmatism التي يصعب عرضُها بلغة رصينة. ولعل الأجدى في عرضها أقرب ما يكون إلى حقيقتها التطرق إلى شيء مما يتداوله أصحابُها من أمثال تكاد أن تكون دستور حياتهم: "إذا كنت لا تستطيع أن تغلبهم التحق بهم"[1]. لا يحتاج "المثل" إلى مناظرته بخلافه، أو ما يقول أهل المنطق إنه "مفهوم المخالفة". يعني: "من تستطيع أن تغلبهم، اضربهم حتى يلتحقوا بك أو يموتوا"! أليس هذا أو ذاك هما كل ما يُعرَض الآن علينا من خيارات؟ لا غرابة في الأمر. هذا "مثل" أمريكي. يوازيه المصري الذي يستعيض عن الفظاظة بالتحايُل: "اللي تغلِّبه لعِّبه". تغيب السطوة، لكن الانتهازية تبقى!

لكن الانتهازية ليست المكوِّن الوحيد للپراغماتية. فهي في حاجة إلى "منطق" يحمي منطقها. الحماية أنها تمنعك باسم الأخلاق من مناقشة أخلاقيتها! فما إن تبدأ مناقشة أخلاقية السلوك الپراغماتي حتى تجد مَن يعاجلك بموعظته الأخلاقية: ومَن له حق الحكم على الآخر؟ أو مَن يقول لك إنك تتحدث في الأخلاق التي مجالها علاقات الأفراد وليس الشؤون العامة – وكأن ما يحدث في المجال العام يصدر عن أفراد ويعني أفرادًا وحسب، وكأنه لا يصدر عن مؤسَّسات وقوى، وكأنه لا يصيب بشرِّه وخيره – إن كان فيه خير أصلاً! – شعوبًا ومجتمعاتٍ بأسرها.

ولا يستطيع هذا "المنطق" الذي يحمي المنطق أن يخفي أن جوهر الپراغماتية هو نفي الأخلاق من المجال العام، إلا إذا أنت استسلمت له، عن رضا أو عن قهر، عن وعي أو عن ضلال، أو عن رغبة في أن تكون "عصريًّا" وتُمتدَح بكونك "پراغماتيًّا"!

*** *** ***


[1] If you cannot beat them, join them.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود