رسالتان إلى صديق أحفيري غاضب

إدريس مهدي

 

اللاَّعنف: نضالٌ ساحقٌ على أربع جبهات ساحقة

السيد خ.، يا صديقي الأحفيري،

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد، فشكرًا على رسالتك، وقد كانت رسالة مختصرة وموجِعة وحافلة بالسِّباب، على عادة أبناء أحفير في النقاش والاختلاف! وقد قتلتَني بالوجع ودفنتَني أيضًا عندما لم تتورع عن نشرها على شعاع الضوء في موقع يزوره «ملائكة» أحفير كلهم. فشكرًا لك مرة أخرى على هذه الرسالة العظيمة، وشكرًا لك على هذا الإنجاز العظيم! فهكذا يجب أن يفعل المبشَّرون بالجنة والمبشِّرون بها، مثلك، مع عدوٍّ لله ولرسوله ولملائكة أحفير، مثلي؛ وهكذا يجب أن يفعل الدعاة العامرون بالتقوى، مثلك، مع إبليس حقيقي، مثلي؛ وهكذا يجب أن يفعل أيضًا مَن عَرَضَ الله عليهم «الحقيقة» فحملوها، مثلك، مع ضالٍّ، مثلي، وخائن أيضًا، باعها بـ«متاع من الدنيا قليل»، تمامًا كما فعل يهوذا الإسخريوطي مع السيد المسيح عندما باعه بدراهم معدودات لأحبار اليهود المفلسين وكان فيه من الزاهدين، ليقايضوه بدورهم بلصٍّ ذائع الصيت مع پيلاطُس الپنطي، الوالي الروماني، ليُصلَبَ مذمومًا مدحورًا بين صعلوكين زيادة في النكاية!

ثم ماذا، يا صديقي الحافل بالإيمان؟!

فمن الواضح أنك، مثل ملائكة أحفير، السريين منهم والعلنيين، لا تهمك هدايتي إلى «الصراط المستقيم»، بحسب ما يأمرك به دينك ونبيك وربك، قليلاً أو كثيرًا. ومن الواضح جدًّا، من خلال رسالتك البئيسة جدًّا، أنك فرح مسرور وغارق في راحة البال؛ إذ إنك تعتقد أن ربك حفظك من حيث لم يفعل معي، فطبع على قلبك الحقيقة والهداية والإيمان والسعادة، و«أنبتَك نباتًا حسنًا» في أحفير، ثم بعثك إلى باريس للبشارة والتبشير، ونبذني مع «المغضوب عليهم والضالين»، مذموما مدحورًا، فختم على قلبي، بحسب فقهاء الحديث – والعهدة عليهم –، بعد أربعين يومًا من ولادتي فقط ليس غير في أحفير، أقصد في «بلاد الحقيقة»، بالضلال وبالشقاء – وذلك جزاء «المقبوحين»!

ثم ماذا، يا صديقي الذي يحتزم الحقيقة كحدبة كازيمودو في رواية أحدب نوتردام في مركز باريس؟! وما الذي أغضبك في عرضي في أحفير حول «اللاعنف والعمل السياسي» إلى حدٍّ جعلك تحشرني مع مَن تعافهم، من س. إلى ن.؟! وكيف تابعتَ نقاشي في أحفير من باريس بما لا تقدر عليه الجنُّ والملائكة والشياطين مجتمعين؟!

والحال، يا صديقي، إذا كنت أنت طرت إلى باريس للتبشير بالحقيقة التي نزلت عليك مباشرة من السماء في أحفير، فإنني حججت إلى أحفير «رِجالاً وعلى ضامر ومن فجٍّ عميق» لأغترف منه حاجتي من الحقيقة لفصلَي الخريف والشتاء الحافلَين بالجفاف الإيماني بين «الكفار»! ونقاشي حول اللاعنف والعمل السياسي لم يكن للتبشير بحقائق العمل اللاعنفي عندما يركب حصان السياسة السريع، بل كان بحثًا عمَّا يمكن لي أن أبشِّر به مثلك وبيقينك. فأنا لا أعتقد أنني أحتزم الحقائق، مثلك ومثل باقي الملائكة في أحفير، بل أؤمن بأن النقاش مع الملائكة بالذات – ومع بعض الشياطين أيضًا! – يقرِّبني خطوةً أخرى من مصدر نقطة الحقيقة الهائلة التي يحكمها في قناعتي «قانون السراب»: إذ كلما اقتربنا منها شبرًا غارت ذراعًا.

والحاصل أنني عندما تحدثت وأتحدث إلى أبناء أحفير وإلى غيرهم أستحضر جيدًا أن كلَّ واحد منهم يختزن بين أذنيه غربالاً يضارع غربال قانون التاريخ الهائل نفسه، في تعقيده وصرامته، وأستحضر أن «فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» [سورة الرعد 17]، في قانون حادٍّ مثل موسى الحلاقة لا يخلف الميعاد. وأعرف أنني نصف ضالٍّ، على أحسن الاحتمالات، وأعرف أنني ناقل بسيط جدًّا، وسيء جدًّا، لفكر غير بسيط، وقوي جدًّا، في حجم مبدأ اللاعنف. والحال أنني، على ضلالي الظاهر، أتعلم من الداخل – وبمعاناة هائلة – كيف أؤمن بك، وأؤمن بباقي الناس، وأؤمن بربك وربِّ الناس، على هذا الترتيب وإلى هذا الحد.

وإذا كان «إيمانك» نزل عليك معلقًا في قفَّة من السماء، بما لم يحلم به نبي ولا رسول، ويعلِّمك أن تلغي الآخر، أقصد أن تلغي مَن يخالفك الرأي بضربة واحدة موفَّقة لتثبت ولاءك العنصري لعصابة مثلك من العنصريين والمستبدين في أحفير وفي باقي العالم، فإنني أتعلم أن أزرع إيماني بعرق جبيني في قشرة الأرض البور، مثل الرزق الحلال، وأتعلم أن أؤمن بالآخر؛ أقصد أنني أتعلم أن أؤمن بك وبأعدائك وبأعداء ربك أيضًا، لأتعلم كيف أؤمن بربك، أقصد لأتعلم الإيمان بالله. فلكي تتعلم الإيمان بالله، يا صديقي، تعلَّمْ أن تؤمن بأعدائه وبأعدائك وتقاوم ظلمهم لك ولباقي العباد في باقي البلاد عبر الكفاح اللاعنفي.

إنك لا تعرف كيف تفعل ذلك إلى حدود هذا الأسبوع، وأنا لا أعرف ذلك أيضًا. ولهذا السبب بالذات فمبدأ اللاعنف والعمل السياسي اللاعنفي هو عندي وسيلة من باقي الوسائل في البحث عن الحقيقة التي وجدتَها أنت معك، لحسن حظك، مثل اسمك، لأنك ولدت في «مغارة الحقائق»، أقصد في أحفير! فالمناضل اللاعنفي، عندما يتبنَّى مبدأ اللاعنف في نضاله، أقصد عندما يركب حصان العمل السياسي اللاعنفي في المقاومة، يجد نفسه، تلقائيًّا، في الخطوط الأمامية لأربع جبهات ساخنة، ومؤداها:

1.     جبهة على الواجهة السياسية في مواجهة «فرعون»، كرمز للمستكبِرين وللظلم السياسي الذي يكرِّس عنف الأوضاع الظالمة، الممتدة من عصر معاوية إلى هذا الأسبوع، على توقيت أحفير بالذات، الحافل بزريعة معاوية الجُدُد.

2.     وجبهة على الواجهة الدينية في مواجهة «هامان»، كرمز لرجال الدين والناطقين الرسميين بلسان الله ورسوله لتبرير «عنف الأوضاع الظالمة» بمواعظ الصبر والمراوحة، منذ عصر معاوية أيضًا وإلى هذا الأسبوع، بتوقيت أحفير أيضًا. فانظر من حولك، وسيطلع لك معاوية جديد من تحت كلِّ مئذنة!

3.     وجبهة اقتصادية وبيئية في مواجهة «قارون»، كرمز للاحتكار والمحتكرين لأرزاق البلاد وتدمير البيئة على رؤوس العباد. وقد بدأت هذه المعركة منذ عصر معاوية، وتُواصل بدايتها مع وعَّاظ أحفير المستبدين بالجامع وساسته أنصاف الأمِّيين إلى هذا الأسبوع، بتوقيت أحفير دائمًا.

4.     وجبهة في مواجهة المستضعَفين والساكتين، مثلك ومثلي، يا صديقي، كمستنقع آسِنٍ يفرِّخ فيه فرعون وهامان وقارون مجتمعين، فيرسب عنفُ الأوضاع الظالمة طوبةً فوق طوبة، مثل الصخور الرسوبية؛ وإذ ذاك ينفجر «العنف المضاد» تحت ضغط «عنف الأوضاع الظالمة»، فينكسر السلَّم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي، مثل الفالق الجيولوجي، في قانون لا يخلف الميعاد. والحال أن بداية «القارعة» كانت كباقي البدايات مع انقلاب معاوية، ثم نبتت كشجرة خبيثة هائلة «اجتُُثَّتْ من فوق الأرض» [سورة إبراهيم 26] وأثمرت عن جماعة الملائكة، في أحفير وفي باقي العالم ومن الأحزاب كلِّها، زوجين في كلمة خبيثة «ما لهم ولها من قرار».

ثم ماذا، يا صديقي من أحفير الذي يقايض لقمة الخبز الحلال والحرام من عند الكفَّار بصكوك الغفران من مطابع أحفير؟!

إنك، في قناعتي، لا تحمل أنفًا طويلاً، ولكنك تحمل لسانًا من زريعة أحفير أطول من قامتك القصيرة! ويبدو أنك تحتزم حدبةً من الإيمان الكاذب تعلِّمك أن تلعن «الكفار»، «قيامًا وقعودًا وعلى جنبك»، وتلعنني معهم، ثم لا تتردد في التمرغ في رغد العيش عندهم ملفوفًا، كعادة الملائكة، في نيَّة حافلة بالنفاق وخالية من أخلاق العدل وشيمة الشجاعة والشجعان.

فهل أثرتُ انتباهك وغضبك، يا صديقي الذي يحتزم حدبةً تسيل إيمانًا؟!

فمهمة عُروضي ونقاشاتي كاملة غير منقوصة، ومهمة هذه الرسائل نفسها في اللاعنف، هي أن تعلن بصوت عالٍ جدًّا أن ضمانة الحرية والعدالة والسلام، في أحفير وفي باقي العالم، تستلزم أن يعي الناس، وتعي أنت، وأعي أنا أيضًا، يا صديقي، مبدأ اللاعنف وإستراتيجية العمل السياسي اللاعنفي في المقاومة ضد الجبت والطاغوت، الداخليين والخارجيين معًا على حدٍّ سواء.

والحال أن أبناء أحفير وأبناء المستضعَفين، وأقصد أبناء العرب والمسلمين في رأس المستضعَفين في الأرض، لا يستطيعون أن يمتلكوا هذا السلاح اللاعنفي الحاد من متون مواعظ وُعَّاظ العصرين الأموي والعباسي وأحاجيهم، ولا من متون رجال السياسة من حفدة مسيلمة الكذاب وأحاجيهم – والسبب؟ السبب لأن كلا الفريقين يفتقر إلى مبدأ هذا السلاح في أصل متنه الفلسفي من الداخل.

والحال أن هذا ليس كل ما حدث. فالذي حدث، لمَّا كنت أعرض أفكاري في تعانُق اللاعنف والعمل السياسي اللاعنفي على أبناء أحفير التي أغضبتْك وأغضبتْهم، حتى همَّ أحد الأصدقاء بمغادرة القاعة فرجوتُه أن يبقى وسحبت علنًا ما أغاظه، أنني كنت في الواقع أكدح بأظافري وبأسناني لأهدم سورًا شاهقًا شُيِّدَ ما بين الدين والسياسة فأبني جسرًا متينًا يصل بينهما. وإذا كنَّا نختلف على مَن كان السبب في هذا الطلاق البائن بينونةً كبرى، بين خيانة الفلاسفة وخيانة العلماء وخيانة رجال الدين وخيانة رجال السياسة وخيانة رجال الفن وخيانتك وخيانتي أنا أيضًا، فإننا نتفق، عبر الوقائع المعيشة، الحافلة بالبؤس والبؤساء، على عزل متعمَّد ومشبوه لـ«مبدأ التوحيد» عن «مبدأ السياسة»، وعلى عزل هذين الأخيرين عن «مبدأ اللاعنف»، وعلى عزل هذه المبادئ كلها عن «مبدأ الجهاد». بذا عُزِلَتِ «الغايات» عن «وسائلها»: حاصرنا كتاب الله، ككتاب للمقاومة السياسية اللاعنفية العالمية، وراء كتاب للبركة الخاصة وصَرْع العفاريت المحلِّيين فقط، واستعضنا حتى عن هذه البركة الخاصة والصراع المحلِّي مع العفاريت المحلِّيين ببركة كتب الحديث وخططها؛ وحاصرنا مؤسَّسة الجامع السياسية وراء قاعة عامرة بالكسالى والمتثائبين والعاطلين عن العمل؛ وحاصرنا مؤتمر الجمعة السياسي للعصيان المدني الأسبوعي خلف موعظة يلقيها واعظ يتعمَّد أن ينسى حقَّ الأحياء في الحرية والعدل والعمل والجنس، ويقرِّعهم على بعض الذنوب البسيطة، ويَعِدُهم، عبر وصفة فقهية حافلة بالسحر وبالسحرة، بجنَّة أبدية ينالها المتثائبون والعاطلون عن العمل والساكتون خلف جدار الموت؛ وحاصرنا مؤتمر الحج العالمي في مكة للسياسة العالمية وقضايا الصراع العالمي خلف شعائر نؤدِّيها سنويًّا عبر مجزرة طاحنة!

فأين تريدني أن أناقش من هنا، يا صديقي الغاضب جدًّا؟!

والحاصل أن في نيَّتي الحسنة أن أشرح لك وجهة نظري بالتفصيل، كما حاولت أن أفعل ذلك مع أبناء أحفير، وسأعمل جهدي على أن أنقل لك حصيلة النقاش الصاعق كما جرت في أحفير عبر سلسلة من الرسائل الصاعقة. وإذا كنتَ قاضيًّا عند شجاعة العدل، على غير عادة قضاة أحفير المقسِّطين «الذين إذا اكتالُوا على الناس يَستوفُون وإذا كالُوهُم أو وَزَنُوهُم يُخسِرُون» [سورة المطففين 2-3]، فإنني أنتظر أن ندفع معًا النقاش «بالتي هي أحسن» لنا ولباقي الناس، من غير نذالة وجبن ومن غير عنف وجريمة، «فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميمٌ» – وتلك شجاعة أخلاقية «ما يلقاها إلا الَّذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم» [سورة فصلت 34-35].

فكن بخير، يا صديقي، وتذكَّر دائمًا أن «العاقبة للمتَّقين» [سورة هود 49].

إدريس
صديق اللاعنفيين

باريس، 19/08/2007

 

اللاَّعنف: سيِّد الأسلحة

السيد خ.، يا صديقي الأحفيري،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، ففي الواقع أن المرء لا بدَّ أن يتعلم كيف يجد منفذًا مناسبًا يقول به للآخرين ما تعلَّمه في المدرسة وفي الكتب ومن خلال بعض التجارب التي عاشها بطريقة ما. وإنني في الواقع اخترت طريقة الرسائل لممارسة هذه الحرفة. وإذا كنت قد أفرغت جهدي كاملاً في شرح أفكاري حول «اللاعنف والعمل السياسي» شرحًا مباشرًا لثلَّة من الشباب من أبناء أحفير خلال هذه العطلة الصيفية – وكان النقاش ساخنًا وحضاريًّا – فإنني أفرغ جهدًا مضاعفًا لرصِّها لك على صفحة من الورق. والحال أن علينا جميعًا أن نبذل جهدًا مكثفًا ومركَّزًا لفهم مبدأ اللاعنف في جدله الحتمي بمبدأ التوحيد وبمبدأ السياسة وبمبدأ الجهاد وبباقي المبادئ، من خلال استقراء النصوص المطلقة في كتاب الله المطلق؛ ثم نعود ونسلِّط «مصباح» مبدأ اللاعنف، بعدما نحبسه في «زجاجة»، على النصِّ المقدس نفسه ونحاول أن نقدم تفسيرًا لاعنفيًّا عمليًّا لكتاب الله اللاعنفي والعملي يليق بروح العصر ويليق بكتاب الله المعاصر.

وعلى الرغم من أنه عادةً ما يُخيَّل إلى المرء أنه يقف على طريق سليم وسريع نحو الحقيقة أو يُخيَّل إليه، كما يُخيَّل إلى أبناء أحفير المؤمنين، أنه يقف عليها هي عينها بالذات، فإن على المرء دائمًا أن يؤْثِر التريث حتى ينال فرصة كافية من البحث وصداع الرأس، وتأخذ بضاعتُه حقَّها الكافي من التشميس حتى تنضج وتأخذ طريقها إلى السوق البلدي كسلعة مسجَّلة يقلِّبها المواطنُ ذات اليمين وذات الشمال، ثم يضعها ويشتري بضاعة مسجَّلة أخرى بجانبها!

وإذا أردت أن أشرح لك، يا صديقي الغاضب، جدلية مبدأ اللاعنف ومبدأ العمل السياسي من زاويتي التي تقابل زاويتك، فإنني سأكون مضطرًّا في الرسائل المقبلة أن أختصر لك مفهوم مبدأ اللاعنف ومفهوم مبدأ العمل السياسي وأن أضغطهما في حجم أقراص سهلة البلع وفعالة في تليين عاداتنا السيئة في النقاش ورفع الأصوات وتوزيع الاتهامات، ثم أشرح هذا التزاوج الحتمي بين المبدأين – وهي زاوية حادة جدًّا من عشرات الزوايا الحادة جدًّا التي سأقترحها لفهم «إستراتيجية الردع المدني اللاعنفي» في مقاومة «عنف الأوضاع الظالمة» و«العنف المباشر» و«حالة السلبية» التي تسكن عظامنا. وإذ ذاك قد نأمل في بناء حدٍّ أدنى من نعمة الحرية والعدالة والسلام.

إننا شعب كسول. ومن عادة الكسول أن يكون ساكتًا ونائمًا في الزاوية. وإن هذا في الواقع، يا صديقي الأحفيري، كل ما أعتزم شرحه لك ولغيرك في أثناء كلِّ نقاش؛ وهذه هي رسالتي لك ورسالتي لباقي الساكتين في أحفير.

فلماذا سوَّلت لك نفسُك «الأمَّارة بالسوء» سوء الظنِّ وظنَّ السوء بأنني أقبض، على أفكاري التي تَخِزُك، المالَ من أعدائك، كما يفعل س. ون. في ظنِّك. والحاصل، يا صديقي، أنه قد صارت لي عشرُ سنوات عجاف، قد تتبعهن عشرٌ أخريات في فرنسا، من غير حساب بنكي أصلاً، وأعيش على قوت يومي الحافي فقط، وعلى عرق جبيني الحلال، منذ الولادة وإلى هذا الأسبوع بالذات، ومنذ عشر سنوات لم أرسل فيها لوالدي الفقيرين درهما مغربيًّا بئيسًا واحدًا، فيما أحلم أن أقدم لهما أعظم هدية، ومؤداها أن أكون صالحًا، أدعو لهما بما يُغضِبك ويُغضِب أبناءَ أحفير الساكتين! – وجيراني وجيرانك بالجنب، وربما أنت أيضًا، نهبوا فرنسا وغيرها، وضايقوا أهلها في قوت عيالهم، واشتروا المنازل والسيارات، وقتلوا والدتي العجوز بالغيرة، ودفنوها أيضًا، حتى صارت تعتبرني مفلسًا لا درهم لي ولا دينار!

إنني في الواقع، يا صديقي، لا أحتاج لهذه المبررات كلِّها؛ وهي علامة ظاهرة على أنك أصبت منِّي ما تريد. ولكننا – وللذكرى فقط – سنأتي يومًا وكلٌّ منا يحتزم ما قدَّمت يداه، وربي وربك «هو أعلمُ بِمَن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تُطِعِ المكذِّبين ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدهِنُونَ ولا تُطِعْ كلَّ حلاَّفٍ مَهينٍ همَّازٍ مشَّاء بنميمٍ منَّاعٍ للخير مُعتَدٍ أثيمٍ» [سورة القلم 7-12]. و«إذا تُتلى عليه» أسلحةُ اللاعنف في كسب الحرية وردِّ ماء الوجه المهدور «قال أساطير الغربيين»! وإنني، يا صديقي، لأتوق لذلك اليوم، كما تتوق أنت لتذهب عند والديك في أحفير. وإنني قد شبعت من أحفير وشبعت من باريس ومن هذه الأرض الحافلة بالأنذال وبالجبناء وبالساكتين، والناس تموت يومًا بيوم في العراق وفي فلسطين وفي كلِّ مكان! أفرأيت، يا صديقي، «إنْ أهلكنيَ الله ومَن معي أو رَحِمَنا فمَن يُجير "الساجدين الساكتين" من عذاب أليم» [سورة الملك 28]؟!

فماذا أردت أن أقول لك؟

إننا في الواقع محتاجون لأن نشقَّ طُرُق النضال عندنا على نحو خلاق وجديد، ومحتاجون لأن نكتب عن مبدأ اللاعنف في شجاعة حادة، ونعمل به في شجاعة حادة أيضًا، من خلال كلِّ الزحام والمنافسة التي تفرضها ثقافةُ الجبن والخيانة والسكوت وثقافة العنف المضاد، مبتكرين تفصيل العمل اللاعنفي وإستراتيجية الردع المدني اللاعنفي بما يناسب حجم قضيتنا العادلة ويناسب حجم عنف أوضاعنا الظالمة، المكرَّس من الداخل ومن الخارج على حدٍّ سواء.

وإذا كان علينا أن نشقَّ دربنا في جبالنا الوعرة وفي تربتنا المالحة ونزرع من زريعة آبائنا ونحصد من حصاد سلفنا، فعلينا أن ننتبه أيضًا ونمدَّ أيدينا عبر البحر المتوسط والأطلسي والهادي، ونغرف من رؤوس الغربيين والشرقيين، ونفتش فيها بغربال ضيق العيون عمَّا يناسبنا مما أنتجوه في فلسفة مبدأ اللاعنف وإستراتيجية العمل اللاعنفي بدلاً من إهدار المال العام في استيراد أكوام الأسلحة البالية وإهدار جيش من العقول في البحث عن أسرار السلاح النووي عبر فجٍّ صار مغلقًا في إحكام.

والحال، يا صديقي، أن اللاعنف سلاح غير قابل للهزيمة بأيِّ سلاح، لأنه، بميكانيزم يوجد في أصل بنائه الداخلي، محصَّن ضد أنواع الأسلحة كلِّها وضد أنواع الهزائم كلِّها. واللاعنف أخطر سلاح على الإطلاق سيعرفه تاريخُ الصراع الإنساني. وكلُّ أمَّة نجحت في بناء قاعدتيه الأخلاقية والسياسية عند أبنائها تصير أمَّةً محصنةً ضد أنواع الهزائم كلِّها وضد أنواع الموت كلِّها، وتتضخم قدرتُها على الردع المدني وتمسي قوتها هائلة، غير قابلة للحصر والحبس – وإلى هذا الحد.

وإذا كان يهمك، يا صديقي، كما يهمني، أن يعرف المستضعَفون في الأرض أنهم غير قادرين على امتلاك السلاح النووي لقهر أعدائهم لأن منابعه صارت مغلقة في إحكام ولأنه سلاح لا ينتصر لروح العدالة بقدر ما ينتصر لروح الانتقام تحت قانون شمشون الجبار «عليَّ وعلى أعدائي»، فإن سلاح اللاعنف، سواء عندما يكون مقاومةً موجهةً إلى الداخل وإلى الخارج أو عندما يصل إلى نظام الحكم، يصير حتمية تاريخية لا مناص منها في الصراع الإنساني الحتمي. وإذا لم يرتقِ تعاملُنا مع هذا السلاح من المستوى التكتيكي إلى المستوى الإستراتيجي، فإننا معرَّضون لمزيد من الاستضعاف، أقصد لأربعة عشر قرنًا أخرى من المحنة تحت رحمة الجبت والطاغوت، الداخليين والخارجيين على حدٍّ سواء. وحتى إذا كان تعامُلُنا مع هذا السلاح الحاد إستراتيجيًّا، وكان تعامُلنا معه خاطئًا – وأقصد من خارج مؤسَّساته المنحازة التي تضمن عدم انفلاته علينا وعلى أعدائنا وتضمن انحيازه للقضايا العادلة –، فإننا معرَّضون لجحيم من الفتن الداخلية لا تُبقي ولا تذر.

«ويقولون متى هذا الوعد إنْ كنتم صادقين قُلْ إنَّما العلمُ عند الله وإنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ» [سورة الملك 25-26].

وأكياس عامرة بالدعاء وبالفهم لي ولك.

إدريس
صديق اللاعنفيين

باريس، 23/08/2007

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود