أزمة الإنسان المعاصر
خلاص الإنسانية بالوعي والمعرفة لا بالحروب والقتل

 

ديب علي حسن

 

أزمة الإنسان المعاصر: هل هي أزمات متعددة، أم أنها أزمة واحدة ذات مظاهر وأعراض مختلفة؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يبحث في أعماق هذه الأزمة (أو الأزمات) ويقدم سُبُل الخروج منها إلا أولئك الذين اختاروا الحكمة والمعرفة دربًا للخلاص؟ – ليس خلاص الفرد، بل خلاص الإنسانية ككل. هؤلاء الحكماء الفلاسفة، مهما تكن أسماؤهم، منتشرون في كلِّ زمان ومكان. والبشرية التي أغرقتْها – أو كادت أن تغرقها – فوضى اللامبالاة ليس أمامها للخلاص إلا أن تسلك الطريق التي يرسم معالمَها هؤلاء المفكرون الأحرار، الواعون، القادرون على إثارة الأسئلة المصيرية، ودفع البشر إلى التبصر في ما يُقدِمون عليه، واستشراف المستقبل في ضوء جديد.

ندره اليازجي واحد من هؤلاء المفكرين الحكماء الذين نذروا أنفسهم ونتاجهم الفكري لتوعية الإنسان بالمخاطر التي سبَّبها في حقِّ نفسه، أولاً، وفي حقِّ الكون والطبيعة من حوله، تاليًا. والأستاذ اليازجي، بما قدَّمه من دراسات فكرية وفلسفية قيِّمة، نال فكرُه اهتمامًا عالميًّا، في الشرق كما في الغرب: ففي الشرق، احتفت الهند بما أنجزه في الفكر الفلسفي، وبخاصة عندما ترجم إلى العربية كتاب الفكر الفلسفي الهندي الضخم للفيلسوف الهندي الكبير س. رادهاكرشنان؛ وكذلك في الغرب، حين قدَّم للقراء العرب خلاصة ما توصَّل إليه الفكرُ العلمي الحديث في مجالات الفيزياء والكونيات وفلسفة العلوم.

واليازجي، بما يقدِّمه من فكر نابع من صميم خبرته الروحية والإنسانية، ينحاز إلى مثال الجمال وإلى مقولة السلام والطمأنينة؛ لكنه، في الآن نفسه، لا يتجاهل الواقع، فيبحث في التقنيات العدوانية الناتجة عن التطبيق الأرعن للعلم الحديث. إنه يتوغل في الأسباب التي قادت الإنسان إلى أن يجعل من العلم سلاحًا ذا حدين، فيحلِّل هذه الأسباب ويعرِّي دوافعها العميقة. لقد أضحت تطبيقات العلم سلاحًا تقنيًّا يستخدمه الإنسان الجاهل للفتك بأخيه الإنسان ولتدمير منجزات الحضارة المعرفية والثقافية المتنوعة.

ففي محاضرة بعنوان "أزمة الإنسان المعاصر" ألقاها في المركز الثقافي العربي بالمزة يوم 30/01/2005، قدم الأستاذ ندره اليازجي الكثير من الإجابات الشافية حينًا والمفتوحة أحيانًا، أو لنقل الإجابات التي تجعل كلَّ إجابة تحرض سؤالاً جديدًا وتستثير قلقًا من نوع آخر، لكنه، على كل حال، قلق فعال قادر على أن يحرض العقل وأن يرسخ بُنًى معرفية تجعل الإنسان يجدِّد طرح السؤالين الملحَّين: لماذا "أزمة الإنسان المعاصر"؟ وكيف السبيل إلى الخروج منها؟

"حضارة" اليوم

يرى الأستاذ اليازجي أن "الحضارة" اليوم مختزلةٌ إلى "مدنية" القلق والجشع والخواء: انكفأ فيها الوجدان، وضَمُرَ الفكر، واندثرت الأصالة الحقيقية. لقد ملأ الفراغ كلَّ شيء، فأصيب الشباب بالملل والقنوط. ومعلوم أن الفراغ هو الذي يميت نفسَ الإنسان ويجعله مجرد ألعوبة بيد أصحاب المآرب الأنانية. لم يعد الإنسان يحيا ليحقق الهدف الأسمى والكلِّي، المتمثل في ممارسة التفكير الجدي الموصل إلى المعرفة. في مدنية كهذه، توارى فيها البُعد الحضاري الحقيقي، تُختزَل الثقافة والمعرفة لا محالة إلى معطيات استهلاكية بحتة. فالشباب الذين ينشؤون على الأنانية وعدم الاكتراث بالإنسانية والوصول إلى الهدف بلا مشقة والاستلاب للرغبات والملذات الآنية، لا عجب أن يعانوا من الضياع في العبث واللاجدوى، فلا يبالوا بالثقافة والعلم والمعرفة الحقيقية. في مناخ كهذا يبدو لنا مستقبلُ الإنسانية قاتمًا أشد القتامة.

أزمات بالجملة!

توقف الأستاذ اليازجي عند أزمات عدة مرت البشرية بها. فقد شهد القرن الماضي حروبًا طاحنة، وجاءت الأزمة الاقتصادية الخانقة في الثلاثينيات منه، إلخ. وقد عبَّر الفيلسوف ألكسي كاريل عن عمق هذه الأزمات التي صنعها الإنسان وبدأ يترنح تحت ضرباتها بقوله إن الإنسان قد بدأ يفقد عقله، وانهارت قيمُه الروحية. ويمكن لنا اختصار رأيه بالقول العامي: "فلت زمبرك العقل"! لقد فقد الإنسان رشده وهدر قيمه المعرفية.

وهذه الأزمات أقلقت عالم النفس كارل يونغ الذي رأى أن على الإنسان أن "يبحث عن نفسه" التي أضاعها في خضم الأحداث والأزمات. فالإنسان، نتيجة الإحباطات الفردية والجماعية وانهيار القيم الأخلاقية، انقطع عن جذوره الروحية العميقة، واختل توازُنه الداخلي، فبدأ يستغيث باحثًا عن خلاص. لكنه بدلاً من أن يفتش مُخلِصًا عن مخرج من هذه الأزمة الوجودية الخانقة، استسلم لتيارات فكرية أخرى ظهرت في تلك الفترة واستشرت وبدأت تسيطر، تيارات دعت إلى العبث واللاجدوى، فانتهت به إلى إحساس بالخواء واليأس وعدم الثقة بالمستقبل. وهذا ما دعا، بدوره، إلى ضرورة بروز تيار الحكمة والوعي الذي بدأ يعمل من أجل إنقاذ البشرية، من أجل أن ينبلج فجرٌ جديد تبزغ فيه شمسُ الأمل والمحبة والسلام. وربما كان على الإنسان أن يأمل حدوث ذلك في الألفية الثالثة.

العلم ومآسي البشرية

يرى اليازجي أن المآسي تشير إلى غياب الوعي. فالإنسان، أصلاً، كائن يبحث عن حقيقة المعرفة. لذا فقد تدرَّجت المعرفة العلمية، وصولاً إلى معرفة المبادئ والقوانين التي تنتظم الطبيعة والكون، وإلى معرفة المبادئ العقلية التي تمهِّد لهذه المعرفة. بدأ الإنسان يبحث في سرِّ العقل وجوهره، وعمل على سبر أنواع المعرفة، ووجَّه عقله لحلِّ الأمور المعرفية العالقة وتلبية الحاجات الملحة. هاهنا يبرز تاريخ المعرفة الإنسانية الذي حجبه تاريخ السياسات الأنانية الجمعية المؤدية إلى النزاعات والحروب. وهكذا تطور العقل العملي إلى عقل منطقي ومعرفي يبحث عن القوانين التي تُمِدُّه بالقدرة على معرفة العالم ومعرفة نفسه. وفي مقابل العقل المنطقي العلمي، نشأ العقل المتدنِّي الذي سبَّب، ولا يزال يسبِّب، الكوارث والحروب.

فالمعرفة الإنسانية تنقسم هي الأخرى عند اليازجي إلى نمطين: نمط المعرفة النظرية المجردة، حيث يبذل العقل المنطقي جهدًا كبيرًا لاستثمار المعطيات التي يستمدها من الطبيعة معرفيًّا ولترجمتها إلى شِفرات بلغة العلم، فيصوغها على شكل فرضيات، تصبح نظريات حين يتم التحقق منها بالتجربة، وتفتح بدورها الأفق لفرضيات جديدة، وهكذا دواليك، ليتابع العلم مسيرته التطورية إلى مزيد من المعرفة؛ أما النمط الثاني من المعرفة فهو الذي ينهض له العقل التحتي الذي يسعى إلى تطبيق التنظير ليستفيد الإنسان عمليًّا من نتائج بحثه العلمي. وهنا ينشأ نوعان من التطبيق: تطبيق خيِّر ينتج أدواتٍ تقنيةً تخدم الإنسان، وتطبيق شرير ينتج أدواتٍ تقنيةً تفتك بالإنسان وتدمِّره. (التقنية، في نظر اليازجي، صنفان: تقنية "ناعمة" تخدم الإنسان، كالطائرة المدنية والجرار الزراعي إلخ، وتقنية للفتك والتدمير، كالدبابة والصاروخ إلخ.) وبالتأكيد فإن الكثير من النتائج الشريرة تنشأ عن التطبيق الثاني: إذ إن الغلو في إعمال العقل التحتي يؤدي إلى استبعاد العقل المنطقي؛ ويؤدي هذا بدوره إلى سيطرة العقل المتدنِّي، سبب الكوارث والحروب.

تاريخ المعرفة

وبناءً على التقسيم السابق، فإن مسيرة التاريخ الإنساني قسمان أيضًا: تاريخ المعرفة والحكمة والوعي، حيث يسود عقل منطقي ومعرفي يحلِّل، يبحث، يعترف بالآخر ويسعى إلى إنسانية أسمى؛ وتاريخ عقل تحتي متدنٍّ، يجعل اليأس والقنوط يسيطران على الإنسان، يقمع الإشراقات الروحية الجميلة، يحارب الإنسانية، يزرع الأنانية، وفي اختصار، يفجِّر الأزمات والحروب المدمِّرة.

خلاص الإنسانية

أما خلاص الإنسانية فيكمن، بحسب اليازجي، في التفاعل الإنساني الخلاق، في الوعي والمعرفة والحكمة، وفي السعي إلى تحقيق إنسانية أسمى. فالعالم الأرضي، بحكم وجوده، حقل تجارب كونية؛ والوعي الكوني المحرِّر، بحكم وجوبه، يجب أن يتحقق فيه. فالحرية فكرة فاعلة، تنقذ الإنسان وتحرِّره بقوة الوعي والمعرفة، لا بسيطرة العقل المتدنِّي، مولِّد الحروب. ففي الحكمة يكمن الأمل، وبها يمكن للإنسان تحقيق أنْسَنَة سامية.

يبقى أن نشير إلى أن مؤلَّفات ندره اليازجي الكاملة صدرت في سبعة مجلدات تضم نتاجه الفكري الشخصي الذي نعتز به.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود