|
سُـجُـون
عقَـائـديَّـة إنَّ
الكثيرين من العرب قد لا
يستحقون سوى طاغية كصدام حسين، لأنهم في
النهاية صنيعته بقدر ما ساهموا في صنع
ديكتاتوريته؛ إنهم "وجهه الآخر" بقدر ما
يتفجَّعون على سقوطه وانهيار نظامه. والأمثلة
كثيرة وفاضحة كما نقرأ أو نسمع الأحاديث
والتعليقات في الصحافة المكتوبة أو على
القنوات الفضائية. 1 ولنبدأ من رغد،
ابنة صدام التي ظهرت على الشاشة [...] بعد مصرع
شقيقيها عُدَي وقُصَي. فهذا الحدث لم يردعها
عن الظهور، بل هي أطلَّت وتحدثت وكأن شيئًا لم
يحدث! ولا غرابة في ذلك مادامت العائلة، أو
"العشيرة" كما تذكر هي نفسها، مصابة
بالتفسخ والتمزق، ومادام القانون الذي يحكم
العلاقات بين أفرادها هو الغدر والخيانة.
ومَن حالُه كذلك يكون شعاره: أنا أو لا أحد،
ومن بعدي الطوفان! ورغد تحدثت عن
أبيها لكي تقول إنه حنون وتؤكد إنه لم يكن
شريرًا، متهِمةً علي حسن المجيد الملقَّب بـ"علي
الكيماوي" بما كان يُتَّهَم به والدُها من
ارتكاب المظالم والفظائع، مع أن "الكيماوي"
ما كان ليجرؤ على قتل زوجها وشقيقه، الذي هو
زوج أختها، وبقية مَن قتل معهم، دونما إيعاز
من والدها؛ إذ إن "الكيماوي" هو في
النهاية على صورة الطاغية بقدر ما هو صنيعته.
وهكذا، بدلاً من أن تعتذر ابنة صدام للناس
وللعراقيين عما فعلتْه أسرتُها بهم، برَّأتْ
ساحةَ والدها كما هي شيمة العرب الذين
يتهربون من المحاسبة وحمل المسؤولية لإلقاء
التهمة على غيرهم. 2 أنتقل من رغد
إلى نوال السعداوي، التي تحمل منذ عقود لواء
الدفاع عن حقوق المرأة العربية. فقد كتبت
السعداوي في جريدة الحياة [...] عن المرأة
العراقية، مقارِنةً بين وضعها بعد انهيار
النظام ووضعها قبله. والمقارنة بين الحالين
قادت "المناضلة الأولى في العالم العربي"
إلى رفع الصوت عاليًا لكي تتحدث عن هَوْل ما
تتعرض له النساء في العراق من القهر
والاضطهاد والإذلال في ظل الاحتلال، في حين
أنها لم تكتب إلا على خجل عما كنَّ يتعرضن له
تحت حُكم صدام، بل هي كادت أن تنفي ذلك لكي
تلقي بالتبعة على الحصار قبل أن تلقيها على
النظام الجائر. قد لا تُلام رغد
في ما قالته لأنها ابنة صدام بقدر ما هي
صنيعته؛ ولكن السؤال يوجَّه إلى زعيمة حركة
تحرير المرأة التي سكتت طويلاً لكي تشهد
زورًا: ذلك أن وضع المرأة العراقية بعد صدام
هو، على الأقل، أقل سوءًا من وضعها في عهده.
فأين كانت السعداوي عندما كانت المرأة
العراقية تُختطَف لكي تُغتصَب في قصور النظام
ومخادعه؟! ولكنه العمى الإيديولوجي الذي
يُصاب به دعاةُ التحرر من الاحتلال والتبعية
والذي يقف وراء ما لاقتْه دعواتُهم
ومشاريعُهم من الإخفاق، سواء تعلَّق الأمر
بتحرر المرأة أم بالتحرير السياسي
والاجتماعي – الأمر الذي يفسِّر لنا التراجع
في قضايا الأمَّة بعد طول الحراسة والمناضلة. وتلك هي
المفارقة الفاضحة: إننا لا نريد للناس ولا
للنساء أن يتحرروا بقدر ما نريد ممارسة
الوصاية عليهم والاستبداد بهم من خلال
شعاراتنا وتهويماتنا وهواجسنا حول الحرية
والعدالة أو حول العروبة والإسلام. والشاهد
أن النساء الشهيرات عندنا، من فنانات
وكاتبات، ما كانت تهمهنَّ عذابات الأمَّهات
في العراق بقدر ما كان يهمهنَّ الذهابُ إلى
هناك لتحسين سمعة النظام وتلميع صورته. ومع
ذلك، نجد، بعد هذا الأداء السيئ والانتهاك
الفاضح كلِّه، مَن يستاء لاستخدام أحدنا
عبارة "الرجعيين الجدد"، مع أن أقل ما
يمكن أن توصف به أفكارُنا وأعمالُنا هو
الرجعية والتخلف بعد هذا الإخفاق والتراجع
كلِّه. 3 من الشواهد
الفاضحة أيضًا حديث الأكثرين من الدعاة
والمناضلين، تراثيين وحداثيين، بعد سقوط
بغداد، عن عمليات السطو والنهب التي تعرضت
لها المتاحف والمعابد والآثار. فقد وصف بعضهم
ذلك بالهول والكارثة. هنا أيضًا نطقوا زورًا
وبهتانًا بعد أن صمتوا دهرًا عن نظام تأسَّس
على المقابر كما بُنِيَ بجماجم البشر. وما
يفضحه مثل هذا التصرف هو أننا نصدر عن العقلية
البربرية نفسها التي كان يصدر عنها الذين
حكموا العراق طوال عقود بالبطش والفتك أو
بالخطف والتعذيب والتصفية في "قصور
النهاية" – وإلا كيف نفسِّر أن لا يدور
حوار جدي وعقلاني في العالم العربي حول مسألة
المقابر الجماعية؟! التفسير هو أن نزواتنا
وهُواماتنا وأساطيرنا الدينية أو القومية هي
عندنا أهم من ظلم البشر وتعذيبهم وقتلهم! تلك
هي بربريتنا بامتياز التي نتقنها، سواء
بممارستها أو بالدفاع عمَّن يمارسها
وبالتستر عليه. هذا ما يفعله
كتَّاب عرب "كبار" لا يتوقفون الآن عن
الحديث عن أعمال السطو والنهب الذي تعرضت له
المتاحف في بغداد بعد الاجتياح الأمريكي،
فيما هم سكتوا، على سبيل المثال لا الحصر،
عندما تمَّ نهب المكتبة الوطنية في بيروت
إبان الحرب الأهلية، حيث ازدهرت أعمال السطو
على البيوت والدور العامرة لسرقة أجمل ما
فيها من الأشياء الشخصية والتذكارات
الحميمة، بما فيها الكتب التي تحمل إهداءات
الأصدقاء أو المحبين. فهل كنا يومئذٍ مصابين
بعمى البصيرة والخرس الشيطاني – مع أن
الشيطان، على العكس مما تنطق به العبارة، قد
ثار واعترض وجاهَر في وجه خالقه! ولكنها
بربريتنا التي تولِّدها بشريتنا: فهي التي
تجعلنا نولي أهميةً للأثر والحجر فوق أهمية
الإنسان والبشر، على ما يفكر ويتصرف
المثقفون، من عرب وغير عرب. والمثال الفاضح
يجسِّمه الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا
ماتييْ الذي يمتدح السلوك "الحضاري"
لأحد خلفاء الإسكندر المقدوني – وكان الأخير
على وشك حرق مدينة رودس، ولكنه عدل عن ذلك بعد
أن تذكَّر أن في المدينة لوحات فنية أراد
إنقاذها، ولولا ذلك لكان اجتاح المدينة وفتك
بأهلها. فيا لها من قيم "حضارية" ندافع
عنها! فلنعترف، بعد
هذه الانتهاكات كلِّها، أن جذر المشكلة يكمن
في القيم "الإنسانية" التي ندافع عنها،
وأننا نحن أيضًا "طغاة" نساهم في تخريب
المعنى بقدر ما نتستَّر بالدفاع عن الإنسان
وحريته أو عن الشعوب وحقوقها. فما عادت تُجدي
لغة التبشير والندب، قديمة كانت أم حديثة،
لأن العلَّة تكمن في المبادئ عندما لا نحسن
سوى انتهاكها أو إساءة استخدامها – مما يعني
ضرورة رفع "وصايتنا" عن القيم التي
نتشبَّث بها والعمل على إعادة ابتكار نماذج
ومهمَّات جديدة لإدارة العمل الحضاري
والتنمية البشرية. 4 مثال آخر فاضح
يجسِّده موقفُنا من قضية أسلحة الدمار الشامل.
فنحن نجد عندنا المعلِّقين والكتَّاب
والساسة لا يكلون عن التأكيد على أن هذه
القضية هي دعوى كاذبة، إذ لم يصدِّقها
أصحابها أنفسهم – ونحن نظن أن ذلك يهبنا
الصدقية والشرعية. غير أننا نشهد بهذا،
أولاً، على غبائنا، لأن الأمريكيين ما كانوا
ليدخلوا العراق لولا تأكدهم من خلوِّه من
أسلحة الدمار الشامل؛ ونتناسى، ثانيًا، ما
تحفل به حياتُنا السياسية والخُلُقية
والعقائدية والاجتماعية من الأكاذيب
والفضائح أو الدجل والنفاق والرياء. وهكذا لا
نرى دومًا سوى عيوب غيرنا، متغافلين عن
عيوبنا وآفاتنا – الأمر الذي يجعلنا لا نرى
الوجه الآخر، أي لا نرى كيف أن البريطانيين
والأمريكيين ينبرون لمحاسبة ساستهم على
أكاذيبهم، وكيف أننا نكابر ونعاند لكي نقوم
بالتستر على فضائحنا وتبرير أكاذيبنا. 5 مثال أخير
تمثَّل في المداخلات خلال الحلقة المتلفزة
التي أدارها مع الشاعر العراقي شوقي عبد
الأمير الإعلامي زاهي وهبي في برنامجه
الأسبوعي "خليك بالبيت". فالأكثرون
صدروا عن عقلية الطاغية في أسئلتهم
وتعليقاتهم. أحدهم يسأل الضيف عن رأيه في دماء
الفتى الذي بُتِرَتْ أطرافُه بأسلحة القوى
الغازية، متناسيًا أنهار الدماء التي روَّت
أديم العراق بأسلحة صدام اليدوية والآلية
والكيميائية، متناسيًا أيضًا أن هذا العمل
الفظيع هو أيضًا ثمرة سيئة لما سبقه من سياسات
هوجاء ومُهلِكَة. والأعجب أن إحدى السيدات
تدخلت مُدافعةً عن صدام بصفته حاول بناء دولة
عربية "قوية"، في حين أن الوقائع تشهد
بأن الأمر لم يكن أمر دولة، بل أمر أسرة
تحكَّمت في رقاب العراقيين تحكمًا وحشيًّا،
وبأن آخر ما كان يعني أفرادَها هو الشأن العام
أو الشأن القومي، لأن ما كان يحركهم فعلاً هو
ممارسة العربدة وشهوة التكالب على جمع الثروة
والحطام أو إرادة الاستعباد والتجبُّر
والانتقام. وكان أن تأسست مملكةٌ للرعب
والفساد تحول فيها كل عراقي إلى متهم هو مشروع
سجين أو قتيل، الأمر الذي جعله يتمنى زوالها،
ولو على يد الشيطان! والأكثر
فضائحية هم أولئك العراقيون والعرب الذين
يتدخلون عبر الشاشة، من هذه العاصمة العربية
أو الغربية، حيث يقيمون منذ عقود، يعملون
وينجحون، أو حيث يتعلم أبناؤهم وينبغون.
فهؤلاء ما انفكوا يمارسون الوصاية الفاشلة أو
القاتلة إياها على الشعب العراقي أو على
الشأن القومي. ولذلك نراهم يتحدثون، غباءً أو
رياء، عن الاحتلال ووحشيته، متناسين أن من
حسن حظهم أنهم يقيمون خارج العراق، لأنهم لو
كانوا داخله إبان حكم صدام لكانت عظامهم
رميمًا؛ بل الأحرى القول: لكان أقاربهم
يفتشون الآن عن بقايا جثثهم لجمعها ودفنها! هذه أمثلة
ساخرة على الأكذوبة والفضيحة، تشهد على أن
"حُماة الأمَّة" و"حراس الحقوق
والمصالح" هم أعداؤها بالذات. فالكل لا
يرون، وسط الرؤية، الفرصة التي لا تعوَّض
التي فتحتْها الحربُ أمام العراقيين، إذ هي
أتاحت للعراقي الخروج من بلده أو العودة
إليه، كما أتاحت له إمكان التعبير والتظاهر
والاحتجاج عبر وسائل الإعلام، بل أتاحت
للعراقيين أن "يقاوموا" الأمريكيين، على
نحو يزيد من "ورطة" أمريكا كما تشهد
التطورات. ولذا يبدو أن الأخيرة تتراجع عن
مواقفها الانفرادية لكي تقبل بمشاركة قوى
أخرى في إدارة العراق، عربية أو أوروبية أو
تابعة للأمم المتحدة. وهذه وقائع لا يراها
الأوصياء والوكلاء على شؤون الأمة ممَّن
يرفضون المشاركة بحجَّة أن المجلس الوطني في
العراق غير شرعي، شاهدين بذلك على أنهم لا
يُحسنون سوى هدر الفرص لصنع الهزائم
والكوارث، من حيث تعامُلهم مع الملف العراقي:
هذا ما فعلوه إبان النظام السابق، حيث تماهوا
معه ودافعوا عن "شرعيته" الديكتاتورية
والدموية؛ وهذا ما يفعلونه الآن بالعقلية
نفسها التي تولِّد الاستبداد ولا تستدعي سوى
الاحتلال. فيا للمفارقة: مَن يفتقر إلى
الشرعية يطالب بها أو يدافع عنها! 6 خلاصة ذلك، في
نظري، أنه ما عاد يجدي معرفة، أو يصنع قوة، أن
ندعم أبناء جلدتنا أو عقيدتنا لكي ندافع عن
طغاتنا في الداخل بحجَّة "مقاومة"
المحتل من الخارج، خاصة إذا كان طغاتنا أسوأ
بكثير ممَّن ندَّعي مقاومتهم. فهذه أكذوبة لم
تعد تنطلي على الناس، بقدر ما هي،
إستراتيجيًّا، عقيمة ومدمرة. وهذا حفيد
الخميني شاهد كبير: ما يتمناه هو تدخل
الولايات المتحدة لتحرير الإيرانيين من سطوة
رجال الدين! ولعل هذا ما يتمنَّاه الكثيرون في
البلدان العربية والإسلامية، حيث تسود
إرادةُ التأله والاستعباد، أو عقليةُ
المُحاصَصة والغنيمة، أو شهوة التكاثر
المُفقِر والتكالب القاتل، أو استباحة
الأموال العامة، أو سيادة المكايدة
وإستراتيجيا نصب الفخاخ والكمائن بين
الرؤساء والمسئولين، أو الممارسات المُعتمة
التي تُفضي إلى نشر الظلمات في البيوت أو إلى
التعتيم على العقول والقلوب. وحسين الخميني
هو شاهد بليغ، ليس فقط لقيمته "الرمزية"،
كونه حفيد الإمام الخميني، ولا لأن هناك
شريحة إيرانية واسعة تُعَد بالملايين يتمنى
أفرادُها ما يتمنَّى، بل أيضًا وخاصةً لأنه
أثار اعتراضًا وتحديًا في وجه السلطة الدينية:
الاعتراض هو فقهي شرعي، قوامه مخالفة "ولاية
الفقيه العامة" للنظرية السياسية الشيعية؛
وأما التحدي الأهم فهو عقلاني ديموقراطي،
قوامه مطالبة السلطة القائمة في إيران
بالرضوخ للاقتراع العام حول مسألة "ولاية
الفقيه": فإن أتت النتيجة لمصلحة رجال
الدين ظلوا في الحكم، وإلا عادوا إلى
حوزاتهم، إلى مواقعهم السابقة، لكي يمارسوا
سلطتهم الرمزية ممارسةً مشروعةً وفعالة. وفي
أية حال، إن الجمع بين السلطتين هو استكبار
مضاعف: ديني وسياسي. لنتصرف على
أساس كوننا بشرًا بالدرجة الأولى لكي
نُحْسِنَ مخاطبةَ العالم، لأن الدفاع عن
الطغيان في مواجهة ما نسمِّيه الاحتلال لا
يفعل سوى أن يزيد في تشويه سمعتنا في الخارج.
ولا يعني ذلك التخلِّي عن خصوصيتنا، كما
يهوِّلون جهلاً وزيفًا منذ عقود طوال، بقدر
ما يعني تغيير طريقة تعامُلنا مع ذواتنا ومع
غيرنا، أو مع العالم والواقع، بحيث نسعى إلى
ممارسة هويتنا ممارسةً مثمرةً وبنَّاءةً لكي
نشارك في صناعة العالم ومستقبل الكوكب عبر
إتقان لغة الخلق والابتكار الخارقة والمدهشة. هذا هو الفضاء
الكوني الذي ينفتح اليوم، حيث تتأكد وحدة
المصير العالمي بقدر ما تتسع مجالات
التبادل والتداخل بين الجماعات البشرية
والهويات الثقافية. بل هذا ما يشهد به التاريخ
والتراث من بعض الوجوه. فالعرب ازدهروا بقدر
ما مارسوا "عالميتهم" عبر فتوحاتهم
الفكرية قبل العسكرية. والقرآن هو الشاهد
الأول: إذ هو يخاطب الناس، جميع الناس. وكان
الخوارج يقولون: يمكن للخليفة أن يكون "عبدًا
حبشيًّا" شرط أن يكون عادلاً، مادام "لا
فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". هذا دون
أن ننسى أن ما نتفاخر به في كثير من الأحيان من
المجد الغابر لا يختلف كثيرًا عما ندَّعي
محاربته، وأعني عصر الازدهار الذي أقمنا
خلاله في بغداد إمپريالية مالية وإمبراطورية
للجواري. 7 لا ينسى المرء
الذين يعملون بمنطق الصِّدام والتسلط والعنف
والإبادة، وعلى رأسهم حراس العقيدة
الصهيونية أو شرطة الأصولية اليهودية، وما
تشكَّل على غرارها وضدها من الأصوليات
الدينية والقومية، الإسلامية أو الإنجيلية
الپروتستانتية التي ظهرت أخيرًا على المسرح
العالمي، بتهويماتها الأُخْرَوية
وخُرافاتها الاصطفائية التي تؤسِّس للتطرف
والاستئصال والخراب، شأنها بذلك شأن سواها.
وفي أية حال، إن الأصوليات تعمل في النهاية ضد
نظام الأشياء وضد منطق الخلق الجديد، كما
تجسَّد مع الثورة الرقمية والتقنية التي تخلف
عوالم سيبرية رحبة ومركَّبة تتيح إمكان
التفاعل المثمر بين الخصوصيات الثقافية
والجماعات البشرية تفاعلاً لا سابق له. لذا فالخروج من
المأزق يحتاج إلى التمرس بقيم الحوار
والتضامن والشراكة والاعتراف المتبادل في
عصر التواكل والاتصال العالميين، بالتعامل
مع الأفكار والوقائع بعقل منتج للصيغ
التركيبية والوحدات البنائية والمنظومات
المفتوحة والقيم التداوُلية، بعيدًا عن
عقلية الاتهام والتخوين والإدانة وعن لغة
التماهيات الذاتية الخاوية ومنطق الحلول
القصوى المستحيلة والمدمِّرة. فالمرء يمكن له
أن يولد اليوم في بغداد وأن يتابع تخصُّصه في
لندن أو في ستانفورد، لكي يتكلم أكثر من لغة
ويحمل أكثر من جنسية ويقيم أو يعمل في أيِّ
بلد من بلدان العالم. هذا شاهد على الأفق
الكوكبي الواسع الذي لا نراه أمام أعيننا
من فرط العمى والجهل والفقر. والانخراط في
تشكيل هذا الأفق هو الذي يتيح الخروج من
سجوننا، التي هي أوطاننا أو عقائدنا
المسيَّجة بالتعصب القاتل، نحو الأرض،
مهدنا ووطننا الأكبر الذي ينبغي الحفاظ عليه
في مواجهة الأخطار التي تتهدده من غير جانب.
ولذا أُوثر استخدام عبارة "الأفق الكوكبي"،
تحاشيًا لمصطلح "العولمة" الذي بات
يُدِبُّ الذعرَ بين المثقفين الخائفين على
أفكارهم وهوياتهم من التحولات والمتغيرات،
وتجاوزًا للأطوار والعهود العالمية أو
الأممية الآفلة أو الفاشلة، بأشكالها
ونماذجها الإنسانية المستهلَكة أو القاتلة،
سواء تمثَّلت في نمط الإنسان الديني
واللاهوتي أو في نمط الإنسان العَلماني
والدهري، حيث سادت العقيدة التي تجعل الإنسان
مالك الطبيعة وسيدها الذي يسخَّر لخدمته
جميعُ الكائنات. الأرض هي، في
هذه اللحظة الحرجة والحاسمة من حياة البشرية،
القيمة الأولى التي يجدر العمل للحفاظ عليها،
بعناصرها وكائناتها وخرائطها الحية وبيئاتها
الطبيعية والبشرية. وتلك هي "الأمانة"
الكبرى التي يتناساها الإنسان بقدر ما ينتهك
دومًا ما يدعو إليه. ***
*** *** عن
النهار، الخميس 21 آب 2003 [*]
مفكر وكاتب لبناني. |
|
|