|
"الرجل الذي أصبح العالم" الدخول
عليه كالدخول على أمير. أحنى رأسه قليلاً،
فيما رفع يديه وضمَّهما إلى صدره للسلام. نور
خفي تسلَّل إلى وجهه الملتحي. إنه سرُّه
الكبير! كان يجلس بردائه الأبيض الطويل على
كرسيه وسط ديكور شرقي ونقوش عربية زيَّنت
أثاث القاعة. شعره الأشعث الرمادي الطويل
تسلَّل من تحت عمامته البرتقالية، فيما
انسدلتْ لحيتُه الرمادية على صدره. ابتسامة
جميلة ارتسمت على شفتيه، وأطبق سحرٌ على
المكان والحاضرين. في عينيه السوداوين
بريق آخر، بريق الهند البعيدة. كأنه يغنِّي
عندما يضحك! وعندما حرَّك شفتيه متكلمًا فإن
"موسيقاه" اختلفت – اختلفت من دون شك.
سادغورو يوغي ڤاسوديڤ "أكثر من سعيد"،
وأكثر من رجل عادي. إنه الرجل الذي "أصبح
العالم" – وهو شعور رائع عجز عن وصفه
بكلمات! سادغورو استقطب
الضوء وآذانَ مستمعيه. كانوا تسعة من حوله "يتلذذون"
بكلماته، كأنها قطع حلوى. إنه "المعلِّم
المستنير، اليوغي، الحكيم والصوفي المتعمق". المعلِّم
الروحي... يحلو لبعضهم القول
إنه يحمل في جعبته أسرارًا كثيرة، أسرار
الحياة. "سادغورو، ما هو سر الحياة
السعيدة؟"، نسأله. "حسب المرء أن يختار
أن يكون سعيدًا"، يجيب بعد تفكير: في
كلِّ لحظة، يمكن لأيِّ إنسان أن يختار أن يكون
إما سعيدًا وإما تعيسًا. وإذا كان الاختيار
واعيًا، فالجميع سيختارون أن يكونوا سعداء،
أليس كذلك؟ ولكن لأن غالبية الناس ليسوا
واعين فإنهم يختارون، من حيث لا يعون، أن
يكونوا تعساء. ولأنني جعلت نفسي واعيًا
مئة بالمئة، أختار أن أكون سعيدًا – هذا كل ما
في الأمر، ولا سر فيه إطلاقًا. خبرته الصوفية تقوده
إلى الأعمق، إلى الباطن. يقول: إذا
نظرنا إلى البشر، يبدو أنهم هُمْ مَن يختلقون
هذه التعاسة في أنفسهم أكثر مما يفعل الآخرون
بهم. يقولون إن شيئًا ما على غير ما يرام. [...] هذا الجيل من أكثر الأجيال
رفاهية، ولكن لماذا لا نزال تعساء؟! لأننا لم
نقم بأيِّ شيء من أجل الباطن. لقد عالجنا
الخارج كثيرًا. إذًا، السعادة والتعاسة
تولدان معًا في باطن الإنسان، ولا تأتيان
إطلاقًا من الخارج. فكرته ترتكز أساسًا
على أمر جوهري: "هندسة الباطن". والكاتب... هو مُطلِقُها
وناشرُها في إطار برامج "إيشا يوغا" التي
أرساها في إطار علمي، مدفوعًا برغبة في
مشاركة العالم خبرتَه الذاتية وتجربتَه
ونظرتَه إلى الحياة: في
المجتمعات، نعمل على معالجة الخارج، ونأمل في
أن يكون كل شيء على ما يرام عَرَضًا. لكن
العالم برهن أن هذه المقاربة غير مجدية. إذًا،
حان الوقت لأن نقارب الباطن كما نقارب
الخارج. مع الخارج، نعرف أنه إذا لم نقم به كما
يجب فلن يعمل. ويتدارك: إذا
أردنا بناء مبنى، لا نتصل بواحد يجهل كيفية
البناء، بل نتصل بمهندس. كذلك الأمر إذا أردنا
بناء الداخل: نحتاج إلى هندسة. لذلك نقدِّم ما
نسمِّيه بـ"الهندسة الباطنية". ويسترسل في الشرح
والتوضيح. يحاور أحيانًا سائله ويحاجِجُه،
ويسأل: "أليس كذلك؟" عند كلِّ فكرة يريد
تأكيدها. يشرح: الهندسة
الباطنية هي أن نؤمِّن وصولاً إلى مصدر
الباطن، الذي هو مصدر الخلق لنفسك. ما في
داخلك هو أنت. والاتصال بنفسك، أبعد من حدود
الجسم والذهن، هو الهندسة الباطنية. "أردت
أن أُجَن" الهند أرض الصوفيين.
هناك ترعرع سادغورو ليصبح ذات يوم من أشهر
الصوفيين. في ميسور وُلد، وبدأ بممارسة
اليوغا وهو بعدُ في الثانية عشرة. وعندما أنجز
علومه الجامعية، تخرَّج من جامعة ميسور في
كَرناتَكا. "بدأت العمل، كنت مشغولاً،
ناجحًا جدًّا." كل يوم، كان يمارس اليوغا.
"لكني لم أفكر في إمكانات أخرى، لأني لم أكن
شخصًا تربَّى في ظلِّ تقليد معيَّن."
ويتدارك: إذا
كان هناك شخص غير روحاني على كوكب الأرض [آنذاك] فهو أنا، لأني كنت أشكك في
كلِّ شيء، كنت منطقيًّا. ولكن كل شيء تغير في
أحد الأيام. على تلَّة صغيرة، تلَّة شامندي
حيث كان يتأمل عادة، عاش خبرة حياته الحاسمة: حتى
تلك اللحظة، كنت أعتقد أن ما أنا عليه هو نفسي.
وفجأة، لم أعد أدرك أيَّهما أنا. كنت أجلس
هناك على الصخرة، متنفِّسًا الهواء – وكل
شيء أصبح أنا! لقد استمر ذلك بين 5 إلى 10
دقائق وفق ما اختبرت؛ لكن عمليًّا، وبالعودة
إلى وعيي، تبيَّن أن نحو خمس ساعات مرت. لقد
فقدتُ الإحساس بالزمن. وللمرة الأولى في
حياته، اغرورقت عيناه بالدموع: لم
تكن دموع ألم أو أيِّ شيء آخر، بل كنت أتفجَّر
وَجْدًا. [...] كان الأمر
جميلاً جدًّا، حتى إنني أردت أن أُجَن! كان
رائعًا بكلِّ معنى الكلمة. تكرر الأمر نفسه معه
لاحقًا. جلس هناك، ظانًّا أن دقيقتين مرتا، [...]
وإذ تبيَّن لي أن سبع أو ثماني ساعات مرت
فعليًّا. ومرة، ظننت أن 15 أو 20 دقيقة مرت، فإذا
قد مرَّ 13 يومًا! لم يخطر في بالي أن آكل أو أن
أشرب. كنت جالسًا هناك، بكلِّ بساطة، أنظر
حوالي، وقد مرَّ ثلاثون يومًا! كنت واعيًا
بالكامل، وكنت أعرف كلَّ ما يحصل من حولي. بعد ستة أسابيع، تغير
الكثير في سادغورو: "ما كان يحدث في داخلي
لا يمكن لي أن أصفه بكلمات!" حتى شكله
الخارجي تغيَّر جذريًّا: عيناه، صوته... وكان
الناس يرون أن شيئًا ما يحصل معه: "الإنسان
القديم الذي كان فيَّ تبخر كليًّا." كان
آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره. ومنذ تلك
اللحظة، بدأ يفتش عن طُرُق لنقل خبرته هذه إلى
آخرين. ولاعب
كرة اليد مع الشباب... يقول ضاحكًا: وجدت
طريقة فعلية للقيام بها، ولدي وسائلي الخاصة
لمباشرتها. لكني، عندما راجعت قليلاً التقليد
وعلم اليوغا، أدركت أنها كانت هناك دائمًا.
ليس الأمر أنِّي مَن اكتشفت ذلك، بل كانت هناك
دائمًا. كنت المغفل الذي اكتشف شيئًا كان
موجودًا أصلاً! العالم لم يتغير في
عيني سادغورو بعد هذه التجربة: "كذلك أنا،
لم أتغير، باستثناء أنني أصبحت العالم"،
يضحك. ويتابع: لقد
أصبحت العالم، بحيث إنه لم تعد هناك بعدُ
وسيلة للنظر إلى العالم. كنت أنا أنا، والعالم
عالم – في الوقت نفسه. إنه أقوى من شعور قوي. العالم
أصبح في داخلي. لا أستطيع أن أصف شعوري ذاك
بكلمات. كان الأمر رائعًا! تفاح
وجوز الهند! هذه التجربة أطلقت
الشرارة لحلم كبير: "مؤسسة إيشا". كانت
النبض الذي أراد سادغورو أن يزرعه في العالم،
وحقَّق ذلك. لقد أصبحت المؤسسة عالمية. "الحياة،
في نظري، مسعى لمساعدة الناس على اختبار
ألوهيتهم والتعبير عنها." فإلى جانب برامج
تعليم إيشا يوغا في أكثر من 100 مركز في
الهند ومختلف الدول، للجمعية أيضًا مشاريع
اجتماعية وبيئية وتثقيفية عدة، منها: "مستشفى
اليوغا للأمراض المستعصية"، "المشاركة
في السلام العالمي"، برنامج "الحرية
الداخلية للسجين"، "إحياء الريف"،
مركز "ڤاناشري" للعناية بالبيئة،
برامج صحية في الريف، أنشطة تنمية شبابية في
الريف، برنامج "المرأة والروحانية"...
وهي تضم نحو 25 ألف متطوع من مختلف دول العالم. وغارس
الشجر في "ماراثون 2006" لزراعة الأشجار
المكثفة (ضمن
برنامج "الأيدي الخضراء" الذي أطلقتْه
"مؤسسة إيشا"). وهو يجيب لدى سؤاله
عما يسعى إلى تحقيقه من خلال هذه المؤسسة: أريد
أن أجعل البشر يسكنون هذا العالم ليس بالكره
والغضب وسائر أنواع الجور؛ إنما إذا كانت
الإنسانية موجودة، فسيكون العطاء أمرًا
طبيعيًّا جدًّا. [...]
لو تصرَّف كل إنسان وفق إنسانيته فسيكون
طبيعيًّا عنده أن يعطي الخبز لمن ليس لديه خبز.
العطاء عملية طبيعية. ولأن معظم الناس لا
يشغِّلون إنسانيتهم [...] فهم يشغِّلون
جورهم. فعندما يعطي أحدهم مما لديه يظنون أنها
خدمة كبيرة وعدم أنانية منه. إنها إنسانية
– بكلِّ بساطة. ويتعجب لدى سؤاله عما
إذا كان تحقيق ذلك ممكنًا في ظل العنف والحروب
السائدة في العالم: أنت
تسألين عما إذا كانت شجرة التفاح تعطي تفاحًا!
لا أعرف ما هذا السؤال. شجرة التفاح تعطي
تفاحًا؛ وإذا كانت لا تعطي تفاحًا فهذا يعني
أننا لم نوجِد الظروف الملائمة لذلك. ليست
معجزة إذا أعطت شجرة تفاح تفاحًا؛ أما إذا
أعطت جوز الهند، إذ ذاك تكون معجزة! ويضحك مجددًا. بكلامه
هذا أراد أن يثبت واقعًا أكيدًا في نظره: إذا
كان الإنسان إنسانيًّا فليس في ذلك معجزة.
نعم، ممكن جدًّا تحقيق ذلك. ليس الأمر أن
عليَّ أن أجعله ممكنًا، بل يجب ألا أفسِدَه.
نحن نُفسِد الإنسانية بمذاهبنا الغبية
وعقائدنا المغلقة وجورنا. لكن إذا تركنا
الإنسان من دون أن نفسده بهذا كلِّه، فسينشأ
على أن يكون إنسانًا، وليس شيئًا آخر. على أجندة سادغورو
لقاءات بالعديد من القادة الاقتصاديين
والأشخاص القادرين على التغيير ليشرح لهم
فكرته هذه – "الاقتصاد الشامل" من خلال
الهندسة الباطنية: أقول
لهم: اتركوا الأعمال الخيرية، واشملوا
المحرومين والمحتاجين [من
شعوب العالم] في عملياتكم الاقتصادية. [...]
إذ إن ترك نصف الشعوب تجوع مع محاولة إدارة
أعمال لا معنى له. أقول لهم: استثمروا على
المدى الطويل في رفاهية البشر. [...] والناس
يسمعون، وقد باشرتْ شركاتٌ كبيرة هذا الأمر،
وبدأ الناس يفكرون بهذه الطريقة. نضع
الاقتصاد الشامل كطريقة أساسية في إدارة
الأعمال. "الانفعالات
القديمة في لبنان" لبنان كان محطة بين
محطات عدة في برنامج سفر سادغورو. فهو يسافر
كثيرًا، وهو دائم الانشغال، والمواعيد كثيرة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يشعر بـ [...]
الضغط وعبء المشاغل، لأنني لا أشغِّل ذهني.
أشغِّله عندما أريد استخدامه – وإلا فيكون
مجرد فضاء فارغ. وفي الليل، لا يحلم،
"لأني ليست لدي رغبات غير محقَّقة"! أيام
حياته "تؤخذ منه"، على ما يقول مازحًا.
"فالمؤسَّسة أصبحت عالمية [...] وتنفِّذ
برامج مهمة." هذا الواقع استوجب سعيًا
متواصلاً إلى الدعاية: "نسعى إلى دعاية
واسعة، لأننا أخذنا على عاتقنا برامج
اجتماعية مهمة تحتاج إلى مساعدة كبيرة من
الناس." هكذا أصبحت عليه الحال إبان
الأعوام الأربعة الأخيرة. وكان هذا الأمر
جديدًا على سادغورو الذي لم يكن يبالي
بمقابلة الصحافيين أو الظهور على التلفزيون
إبان أعوام طويلة: "كلمة من فم إلى أذُن
كانت آنذاك تكفي." سادغورو يعرف جيدًا
لبنان وقصصه وناسه: "إنه طاقة مهدورة،
وسيبقى كذلك، لأن كثيرين يواصلون العيش في
الماضي"، يقول في حزم. والأمر واضح في نظره: إذا
لم نضع انفعالات الماضي جانبًا، لا يمكن لنا
أن نؤسِّس لمستقبل أفضل. لبنان أرض جميلة،
رائعة، والشعب رائع! لكن الطاقات غير محقَّقة.
الانفعالات القديمة ما تزال موجودة في قوة،
وقد تؤدي إلى كارثة أكبر. يجب إبقاء المشاعر
جانبًا والبحث عن حلول. لكلِّ مشكلة حل – على
أن نبقي مشاعرنا جانبًا. ويرفع الرجاء: أناشد
جميع اللبنانيين، شعبًا ومسئولين، أنه أيًّا
ما كان السبب وراء المشكلة، لا تعودوا إلى
المشكلات القديمة لتشرِّحوها، بل اتركوا
انفعالاتكم جانبًا. ماذا الذي تريدونه
لأنفسكم ولأبنائكم؟ تريدون بلدًا يعمُّ فيه
السلام والازدهار [...].
انظروا كيف يمكن لكم تحقيق ذلك، ولا تنجروا
للتكلم على ترَّهات لن تحصل. سادغورو هو أيضًا
مندوب للأمم المتحدة في "قمة الألفية
للسلام"، وعضو في "المجلس العالمي
للقادة الروحيين"، وعضو مشارك في اللقاء
السنوي لمؤتمر الاقتصاد العالمي في داڤوس
2006، وله كتب عدة[*]. ***
*** *** التقت
به: هالة
حمصي [*]
لمزيد من المعلومات،
يمكن للقارئ زيارة الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة
إيشا": www.ishafoundation.org. |
|
|