|
راينر
ماريا ريلكه: مختارات شعرية يُعتبَر
الشاعرُ الألماني راينر
ماريا ريلكه أحدَ أبرز الشعراء الألمان
وأكثرهم تعبيرًا عن نوازع الإنسان وتناقضاته
الداخلية وبحثه عن الخلاص عبر الحب والشعر
والاندماج في روح العالم. وإذا كان ريلكه،
كغيره من شعراء بلاده، يهتم بالفلسفة والفكر
ويصغي إلى صوت العقل فهو، خلافًا للكثيرين
غيره، استطاع أن ينجو من البرودة الذهنية
ووطأة الأفكار المجردة وأن يُكسِبَ شعرَه
الكثيرَ من الحرارة والدفء والتوهج العاطفي.
وقد يكون لهذا الدمج المتفرد بين الطبيعتين
الفلسفية والوجدانية في شعره أبلغ الأثر في
شيوع هذا الشعر وانتشاره وملامسته لسائر
الطبائع والأجناس. ولأنه شاعر الحيرة والقلق
والبحث عن الحرية بامتياز، فقد اعتبره بعضُ
الفلاسفة أحد الينابيع الأهم للفلسفة
الوجودية، حيث رأى مارتن هيدغِّر أنه لم
يُضِفْ في فلسفته عمقًا جديدًا إلى ما عبَّر
عنه ريلكه في صور شعره. لم تكن المختارات
الشعرية[1]
لراينر ماريا ريلكه التي ترجمَها مباشرة عن
الألمانية الكاتبُ السوري سليمان حاج علي هي
الأولى من نوعها في هذا المجال. فلقد سبق
للشاعر اللبناني فؤاد رفقة أن نقل بعض أعمال
ريلكه وقصائده إلى العربية[2]،
مركِّزًا، بحُكْم حساسيته الشعرية، على
العناية بالجانب الجمالي من الترجمة،
مختارًا من الصيغ والمفردات ما يحتفظ بجَرْسِ
اللغة ونكهتها. أما المترجم حاج علي، فهو يقدم
صورةً أشمل عن نتاج الشاعر الألماني ويُظهِر
حرصًا بالغًا على نقل صورة وافية عن هذا
النتاج، بدءًا من البواكير وكتاب الصور وكتاب
الساعات، وصولاً إلى القصائد الجديدة وأغنيات
[سونيتات] لأورفيوس. ولما كانت
الترجمةُ صورةً عن صاحبها، لا عن المؤلِّف
الأصلي وحسب، فإن كلَّ مترجم يضفي على النصوص
التي يقوم بترجمتها الكثيرَ من روحه ونفسه
وحساسيته اللغوية – وهو ما يمكن لنا دعمُه
بعشرات الأدلة والشواهد في هذا الباب. فترجمة
الشعراء تختلف عن ترجمة النقَّاد الأدبيين،
كما تختلف عن ترجمة الأكاديميين والمتخصصين.
وإذا اتسمت ترجمة فؤاد رفقة بالنضارة
الجمالية المتأتية من الشعر، فإن ترجمة حاج
علي تبدو أقل احتفاءً باللغة السيَّالة وأقل
تصرفًا بمفرداتها وتراكيبها، لكنها أكثر
ميلاً إلى الدقة والأمانة في نقل المفردة أو
المعنى. والفرق بين الاثنين ليس فرقًا في
الجودة أو القيمة، بل هو تبايُن في المدرسة
والأسلوب وفي مفهوم الترجمة لدى كلٍّ منهما. الحب في العتمة تنتمي القصائد
المائة التي قام سليمان حاج علي بترجمتها إلى
مختلف المراحل التي مرَّ بها ريلكه في مسيرته
الشعرية القصيرة نسبيًّا، حيث إن عمر الشاعر
لم يتجاوز الخمسين عامًا إلا بقليل. وهو،
بوضعه النصوص الألمانية الأصلية قبالة
ترجماتها إلى العربية، إنما يهدف إلى وضع
التجربة برمَّتها أمام القارئ الذي يتقن
اللغتين معًا أو يُلِمُّ بهما، كنوع من
الأمانة أو "الشجاعة الأدبية" أو إتاحة
الفرصة للقراء الذواقة العارفين للمشاركة
الشخصية وإجراء المقارنات وفقًا لآرائهم
وأمزجتهم. أما القراء الآخرون الذين لا
يعرفون اللغة الأصلية – وهم الكثرة الكاثرة
من القراء – فيتيح المترجمُ لهم أن يتتبَّعوا
مسيرة الشاعر منذ بداياته وأن يتلمسوا مقدار
ما أصابه من تبدل وتطور، على الرغم من الخسائر
الفادحة التي تصيب الشعر لدى نقله إلى لغة
أخرى! لا تحمل قصائد
الشاعر الأولى أية عناوين محددة، بل تأتي
مسبوقةً بمجموعة من النقاط، كما لو أن ريلكه
يريد لها أن تظلَّ مبهمة، مفتوحةً على
التأويل. والقصائد، في معظمها، تدور حول فكرة
الحب وانبثاقها المفاجئ من العتمة وقدرتها
على إصابة القلب بالشلل والروح بالانخطاف.
وعلى الرغم من الطابع "الرومانسي"
الواضح لهذه القصائد التي أهداها ريلكه إلى
المرأة الوحيدة التي أحبَّها، فإنها تبدو
مترعةً بالأسئلة الحائرة والقلق الوجودي،
كما تبدو المرأة عنده نوعًا من اللغز الذي
يصعب على الرجل فكُّ رموزه.
كانت حبيبته لو
أندرياس سالومي تكبره بأربعة عشر عامًا، ولكن
هذا الفارق في السن لم يقلِّل من تعلُّقه بها،
حيث يقول لها في إحدى رسائله إليها: "إن
شخصك كان الباب الحقيقي الذي وصلت من خلاله."
ويخبرنا المترجم، في مقدمته القصيرة التي
عقدها على المختارات، أن الفيلسوف الألماني
نيتشه لم يستطع تجنُّب الوقوع في حبِّ لو التي
قال حين التقى بها: "من أية نجوم التقينا
لنلتقي أخيرًا." لكنه – وهو الذي اعتبر
جمال المرأة خطرًا محدقًا بالرجل – ما لبث أن
كتب بعد صدِّها له مرتين اثنتين: "إذا ذهبتَ
إلى المرأة فخذ معك السوط." أما مقاربة
ريلكه لذلك الحب فكانت مختلفة تمامًا، حيث ظل
الانبهارُ رفيقَه طوال الرحلة. كما أن قصائده
الأولى تكرِّر دائمًا صورة الزلزال الصغير
الذي تُحدِثُه المرأةُ في النفس، حيث يخاطبها
في إحدى القصائد: كيف
تبدَّى لك الحب؟/ هل تألَّق مثل الشمس/ مثلما
الأزهار/ أم بدا مثل التضرع للإله؟/ قُصِّي
علي:/ سعادة وهَّاجة شعَّت من السماء/ ثم حطَّت
تتأرجح عاثرة/ ملامسةً روحي المتفتحة. في كتاب الصور
تحتفظ لغة ريلكه بتوهجها المتزامن مع اندفاعة
الشباب وحيويته المتدفقة. ولكن الرؤية تتسع
لتصبح أكثر شمولاً، ويصبح الحب نفسه حافزًا
إلى معرفة الطبيعة والعالم ولتقصِّي الباطن
الإنساني، في ظلاله وأبعاده كلِّها. يتحدث
ريلكه في هذه المرحلة عن "العزلة التي لا
تجد مَن يسترق السمع إليها"، وعن "الإثارة
الرفيقة على ستار الغربة المتوتر"، وعن "ترجيع
الأنفاس الذي تعلو معه النجوم وتهبط". ثمة
نزوع واضح في هذه المرحلة إلى استنفار الحواس
الخمس والإفادة منها إلى أقصى حدٍّ ممكن في
التقاط الإشارات الآتية من العالم. يقترب
ريلكه هاهنا من الانطباعيين الذين يرمون
أنفسهم في الطبيعة، مصغين إلى هسيسها الخفي
وإشاراتها الجمالية المفتوحة على حدَّي
المتعة والوحشة، محاولين أن ينقلوا إلى
ذواتهم بالذات حوار الضوء والظل أو الداخل
والخارج. وذلك ما يظهر جليًّا في قصيدته
اللافتة "في شهر نيسان"، التي تنهض فيها
القُبَّرات المجنَّحة لتبدِّد ما يثقل
كواهلنا المتعبة، حيث نستطيع، من خلال
الفسحات بين الأغصان، أن نشعر بالفراغ
المتروك في قلب النهار. سكيتش
"ريلكه" بقلم ليونيد پاسترناك. لكن القصيدة
اللافتة في هذه المرحلة هي تلك المؤرخة في
العام 1900 التي يتنبأ ريلكه من خلالها بإمكان
وجود مخلوقات أخرى تحدِّق بنا من كواكبها
البعيدة أو بإمكان كوننا صورًا وظلالاً لتلك
المخلوقات. وإذا كنتُ ممَّن لا يؤمنون كثيرًا
بفكرة الشاعر–النبي أو "المتنبئ" فإني
لا أملك سوى شعور عارم بالدهشة حيال ذلك البعد
الإشراقي في قول ريلكه: غير
بعيد أن نكون هناك في الأعالي/ في السماء/
منسوجين على صورة مخلوقات أخرى/ تنظر بإعجاب
إلينا في المساء/ ربما يمدحنا شعراؤهم/ وقد
يسجد لنا الكثير منهم ويصلِّي/ وقد نكون
أهدافًا لِلَعنات غريبة لا تصل إلينا أبدًا. وفي المرحلة
نفسها أيضًا، يقدِّم ريلكه قصيدةً جميلةً
أخرى عن الطفولة، تمتد مَشاهدُها من الخوف
المستمر من المدرسة وانتظارها الطويل،
وصولاً إلى الوجه الشاحب الصغير الذي يرتفع
من بحيرة غارقة، لتنتهي القصيدة بسؤال الشاعر
المثخن بالمرارة: أيتها
الطفولة/ أيتها المقارنة الهاربة/ إلى أين؟/
إلى أين؟ وطأة الزمن يلح سؤالُ
الزمن كثيرًا في قصائد كتاب الساعات التي
يقدِّم فيها ريلكه مقاربته العميقة لإحساس
الإنسان بوطأة الزمن وثقله وقوة تأثيره في
الكائنات والأشياء. وما يلفت في القصائد هو أن
الشاعر كَتَبَها في عمر مبكر لا يتجاوز النصف
الأول من العشرينيات، في حين أن المعرفة
والإدراك اللذين تختزنهما في داخلها لا
يتأتيان عادة إلا بعد هذه السنِّ بزمن طويل.
لكن إحساس الشاعر بالزمن لا يقتصر على البعد
المأساوي فحسب، بل يحمل أيضًا إشاراتٍ
معاكسةً تتصل بالتحول والنماء وتوفير الفرص
الأكثر ملاءمة لتحقيق الذات. لذلك لا عجب أن
يصف الشاعر الرنين المعدني لرقاص الساعة بـ"الرنين
الودود"، أو أن يرى في الحياة "حلقات
متصلة" تتيح، لصاحبها على الأقل، أن يشرع
في تحقيق الأحلام، حتى لو لم يصل مشروعُه ذاك
إلى نهاياته. وهو في قصيدة أخرى ينحاز حتى إلى
الأوقات العصيبة والسوداء باعتبارها جزءًا
من تجربة الحياة الثمينة: أحب
ساعات وجودي المظلمة/ ففيها تزداد بصيرتي
عمقًا/ وبها وجدت كما في الرسائل القديمة/ أن
حياتي قد عشتُها/ مثل أسطورة قديمة طُوِيَت. على أن الأمر
الأكثر لفتًا في تجربة ريلكه هو تفلُّتها من
الرتابة والنمطية وقدرة صاحبها الفائقة على
النظر إلى العالم من غير زاوية ومكان: فهو
ينزع تارةً إلى الرومانسية المفرطة؛ ثم ما
يلبث أن يغادرها إلى الواقعية أو الرمزية؛
وهو يميل حينًا إلى العاطفة السيَّالة وحينًا
آخر إلى التأمل الهادئ والحيادي؛ وهو يقترب
آونةً من التجريد فيما يقترب آونةً أخرى من
الحسِّية والتصوير الدقيق والمعاينة
المباشرة. وقد تكون قصيدته "الراقصة
الإسبانية"، التي تنتمي إلى المرحلة
الثانية من شعره، إحدى أجمل القصائد التي
تضمُّها المختارات. ففي هذه القصيدة يبدو
الجانب المتعلق بالحياة في شعر ريلكه، كما
تبدو قدرتُه الفائقة على الوصف ومتابعة
التفاصيل والإحاطة الدقيقة بالصورة، بما
يجمع بين فن الپورتريه وبين التقصِّي العميق
والولوج إلى سريرة النفس البشرية: كعود
ثقاب فضيٍّ في اليد/ يمتد قبل اشتعاله في كلِّ
صوب/ بلهب جافل/ تدور الراقصة/ وتلاحقها
بالقرب منها نظراتٌ لاهبة/ وتنداح دائرةُ
رقصها المحموم [...]/
وعندما تغدو الحماسة فاترة/ ترسم البسمة في
محياها تحيَّة/ وتدق الأرض بقدمها الصغيرة
المحنَّكة. باطِّراد واضح
تعمَّقت تجربةُ ريلكه، كتابًا بعد كتاب،
ومرحلة تلو مرحلة. ودائمًا ثمة هذا السجال
الدائم بين الحضور والعدم في شعره، حيث الحياة
والموت يتبادلان الأدوار. وإذا كان ريلكه
قد أعلن في مقتبل عمره: "إنني أحمل قطعة من
الأبدية في صدري"، فإنه ظل يحمل هذه الرؤية
إلى الوجود حتى نهاية حياته. ذلك أن الموت
الذي يؤذن إذ ذاك بالاقتراب لن يكون في نظره
نهاية المطاف، بل محطة جديدة في طريق التحول
وتبادل الأدوار بين الكائنات: كم
من مقامات هذا الكون قد أقامت في داخلي/ بعض
الأعاصير أشعر بها وكأنها ولد لي/ أتعرفني
أيها الهواء/ يا مَن سوف تحلُّ مكاني ذات يوم؟/
يا مَن سوف تكون لي حاجزًا زلقًا/ أو وعاءً
وديوانًا لأشعاري. ***
*** *** عن
السفير، 16/06/2006 [1]
راينر ماريا
ريلكه، مختارات شعرية، بترجمة سليمان
حاج علي، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2004. [2]
راينر ماريا
ريلكه، مختارات شعرية، بترجمة فؤاد
رفقة، دار النهار، بيروت، 1969.
|
|
|