|
كمـال
جنبـلاط والإسـلام مركزيَّة
التَّأويل لئن
تصور بعضُ الباحثين في فكر كمال جنبلاط أن
التدين لديه هو اندراج "إيماني" في مسلك
طقسي أو اندماج "عرفاني" في مسرًى وجداني
وحسب، فإن تصورهم هذا ينطلق من رؤية جدلية غير
مكتملة، هي أقرب إلى المادية المحض منها إلى
دينامية الجدل الجنبلاطي للتجاذب الديمومي
بين قطبَي الحقيقة الظاهرة – العقل واللاعقل
– المتضادين في فسحات تجلِّي المطلق. والحق أن رؤية جنبلاط إلى
الدين تأخذ في الاعتبار أن الإنسان بدأ على
وجه الأرض في مرحلة ما من عمر الكون ولم يكن
منذ الأزل؛ وهذا ما يفسِّر تبدُّل شخصيته
وتغيُّرها بحكم موقعها في هذا المدار أو ذاك
من مدارات وجوده بين قطبَي الحقيقة: العقل
واللاعقل؛ كما يفسِّر ذهابَه إلى ما وراء هذه
القطبية المزدوجة، إلى المرآة الثابتة التي
تتمرأى عليها، بتحقُّقه بالمصدر الأولي
لحركات الوجود كلِّها. انطلاقًا من هذه
الرؤية، يرى كمال جنبلاط أن [...]
الإسلام يتبنَّى، برحابة صدر، جميعَ الكتب
المُنزَلة، ولم يحصر نفسه بكتاب واحد، كما
يتبنَّى جميعَ الأنبياء، ممَّن يسميهم ولا
يسميهم. فيمكن له أن يدخل على نهج محمد عبده،
بوذا، وغيره من الأنبياء.[1] إن في هذا مواجهةً لنذير
العولمة فيما تقضمه من أنسنة العيش عندما
تجنح إلى "صِدام الحضارات" – مواجهةً
ترتكز إلى جذرية شرقية، ليس آخرها فكرة وحدة
الأديان التي تحمس لها ثلاثةٌ من أعلام
الشرق هم: جمال الدين الأفغاني وميرنا باقر
ومحمد عبده، فأسسوا، في نهاية القرن التاسع
عشر وبداية القرن العشرين، "جمعية التأليف
والتقريب"[2]
التي انضم إليها عددٌ من المفكرين الإيرانيين
والهنود والإنكليز واليهود، ودَعَتْ إلى الحرية
الدينية. وهذه الجذرية الشرقية لوحدة
الأديان إنما تجد صورتَها، من وجهة نظر كمال
جنبلاط، في ما أرساه الإسلام كمعتقد من تراث
قُدِّر له أن ينبني على إنجازات مادية حضارية
ممتزجة بالقيم الأخلاقية والمعنوية التي
ترتبط بأصل واحد يتجلَّى في شخص النبي (ص)
وأفعاله؛ وهو تراث يشترك مع وجوه التراث
الشرقي الكبرى في كونه يتمتع بخاصية مزدوجة
كمعتقد وكحضارة في آنٍ واحد: إن نظرة كمال
جنبلاط إلى الإسلام كمعتقد تجعله
متمظهرًا في "أعمال الرسول وسلوكه، وآل
بيته وصحبه، وتجاربه الروحية الحية"[3]؛
أما نظرته إليه كحضارة فتجد فيه "تجسيدًا
لعلاقات تبادُل مثمرة مع بيئته الطبيعية
والتاريخ"[4]. أما وأن الحال كذلك، ماذا
ينتج عن هذه النظرة من مفاهيم جنبلاطية
كمالية للانتماء والهوية بالمعنى الإسلامي؟
يرى كمال جنبلاط أن تابعية الشكل ليست مهمة
في تحديد الانتماء الإسلامي أو الهوية
الإسلامية: أن
تكون مسلمًا لا يعني أن تكون تابعًا في الشكل
للطائفة الدينية الإسلامية بقدر ما يعني
الانتماء إلى التراث الإسلامي وقيمه
المتوارَثة وإنجازاته الحضارية.[5] إن التراث الإسلامي هو
خلاصة النفحة الكونية، في معناها وفي
قصديتها، التي أسُّها إنسانية الإسلام
واسترفاع أوليائه وإشراقييه ومستوعبي مضمون
وحيه وإيمانه، "مما لا يدركه ولا يستوعبه
نفرٌ كبير من المسلمين"[6]. من هنا يرى جنبلاط أن كلَّ
شيء في فهمنا للإسلام ينبغي أن يرتكز على موقع
الإنسان على موازاة التطور الحضاري لهذه
الحضارة أو تلك، فتتسع إمكانية التأويل
من أجل حلِّ مسألة الكفر والتكفير، [...]
بدءًا من تفسير الإسلام السلطوي، الذي يشكل
الركن الأول في بناء الفهم الظاهري للتنزيل،
المرتكز على نبوة محمد (ص) والقرآن الكريم،
مرورًا بالفهم العميق للإيمان الثوري الذي
يمثل الركن الثاني للإسلام، المستند إلى
الإمام علي بن أبي طالب، والذي تبدأ معه حلقةٌ
ثانية من التأويل الباطني والاجتهاد
العقلاني، وصولاً إلى المسلك التوحيدي
المتحدِّر من الإسلام الحنيف، الذي يمثل
الطريق الثالث العامل في سبيل إسلام متحرر في
منهج روحاني متميز.[7] في هذا المستوى من التأويل،
يرى كمال جنبلاط أن "أسلمة" الإنسان إنما
تقوم على تقديس شعاب ثلاثة في مكامن الإنسان،
وهي: -
أولاً:
النفس، من خلال صيانتها بالرياضات
الروحية والمعاشرة الفاضلة والدراسة
المتعمقة، ناهيك عن شعائر الصوم المؤدية إلى
ضبط الغضب وممارسة الحلم. -
ثانيًا:
النية، التي تؤذن بإنفاق الحزم والعزم في
خير الناس دون استثناء، "مما يرفع الأعمال
إلى المستوى الذي يجعلها بابًا للسماء
ومدخلاً للجنة"[8]. -
ثالثًا:
الكلمة، بالحفاظ على نقاوتها من دنس
المرامي الدنيئة للضعف البشري. ويرى جنبلاط أن إشكاليةً
كبرى تواجه إسلامَنا المعاصر تكمن في مدى ما
يمكن استكشافه من مسرًى لحركة التاريخ التي
أخذت، من قبلُ، بإسلام سامٍ بدوي إلى الفتح
والانفتاح، ومن بعدُ إلى حضارة متنوعة، لتعود
فتأخذ هذا كلَّه إلى مسارب الانغلاق والتضييق
"على فسحة نزهة العقل في مجلاه الطبيعي"[9]،
على حدِّ قوله. ففي هذا المنحى لا يجد جنبلاط
بُدًّا من الأخذ بمقولة الاختصاصي الكبير في
أديان الشرق ماكس مولر، الذي يعتبر أن [...]
التاريخ الحقيقي للإنسان هو تاريخ الدين،
بمفهومه الواسع الشامل للمفاهيم العقلية
والروحية والفلسفية والمعنوية والخُلُقية
والاجتماعية التي أبدعها الإنسان وحده، دون
سواه من سائر الكائنات الحية، منذ فجر
التاريخ.[10] فمن هذا المنطلق، يجد
جنبلاط أن حركة التاريخ إنما ترتكز على
العلاقة الجدلية بين الإنسان والدين، وأن
فهم هذه العلاقة يقود إلى معرفة الانعكاس
الناتج عنها في كلِّ مرحلة من مراحل الحياة
البشرية على الأرض، وبالتالي، إلى رصد آلية
التقدم الحضاري أو انكفائه. وهنا وجد كمال
جنبلاط في "إسلام" عبد الناصر ملامح من
هذه الأنسنة للإسلام، [...]
فيما أوْلاه من حيِّز أوسع للتراث الإسلامي
قياسًا إلى المعتقد، وفي ما أسبغه من شعور
قومي في القصد الجامع لمختلف الأديان
والمعتقدات والمذاهب والفِرَق، وفي ما أزاله
من حواجز بين العلم والإيمان، وفي ما أرساه من
فكر حول دور الإسلام التراثي، كطاقة حضارية
جامعة لا بدَّ أن تتفاعل مع تيارات العلم
والحضارة الشاملة.[11] إن الإسلام، في ظلِّ ما
توارى من العقل، افتقد إلى فعالية التسامح
والانفتاح والانسجام الاجتماعي الثقافي مع
الحضارات والتيارات الفكرية الأخرى، مما
يجعله على النقيض مما كان محققًا، في أكمل
صورة له، في أثناء حياة النبي (ص) والأجيال
الأولى التي أعقبت وفاته. لذا فان إعادة أنسنة
الإسلام (العربي منه خاصة) تتطلب، أولاً، الإخصاب
الحضاري الذي بيَّنتْ مفاعيلَه
الاختباراتُ التاريخية [...]
مع الفكر اليوناني والتراث الإيراني والمصري
القديم، من جهة، ومع الديانات اليهودية
والمسيحية والصابئية، من جهة أخرى، مما رفع
التراث الإسلامي إلى مستوى الحضارة
الإنسانية المشرقية المتكاملة.[12] ويتطلب، ثانيًا، فتح
أبواب العقل من جديد على ما يسوِّغه
التطويرُ المستمر لشؤون الدنيا، لأن حرية
العقل هي الأساس الذي ينبغي أن تنبني عليه
أنسنة الإسلام في مواجهة الواقع المعيش،
"حيث تتعين المعاملات والعلاقات بين
الإنسان وبيئته"[13].
وهذا ما يفترض قيام "ثورة ثقافية"
تحتضنها دارُ الإسلام كـ"جامعة ديموقراطية"،
أبرز مزاياها الشورى والحرية الدينية،
حيث ينطلق هذا الإسلام الديموقراطي والثوري
من تصور شمولي للدولة، بما هي مُصهِر عقلاني
للمضامين الروحية المشتركة في بوتقة القيم
العالمية والمبادئ الإنسانية للإسلام، من
جهة، وفي مجالات الامتثال السلوكي
المتجلِّية في احترام الحياة واحترام
الآخرين، من جهة ثانية. ويتطلب، ثالثًا، إفعام
الهوية، بما يعني توسيع التابعية بالنسبة
للهوية عن طريق إدراك الجوهر الواحد
للأديان، على اختلافها وتنوعها، من خلال انفتاح
آفاق التأنس الديني المؤدي إلى استرواد
السعادة في انتشار الوعي: فهذا
هو حلم الناصري وهذا هو حلم محمد، لو أدرك
معظم أتباعهما ماذا تبغي الحياة في انعكاسها
في الوجود.[14] ويتطلب، رابعًا، الوصول إلى
تلطيف العصبية الدينية (عند العرب خصوصًا)،
التي أقصت الثقافةَ الإنسانية من حيث ارتقت
إليها تقاليدُ هؤلاء وحضارتهم الشرقية
العربية الأصيلة، بما كانت ترمي إليه من "تهذيب
للسلوك الإنساني ومن صياغة لفكرة أخلاقية
عقلانية"[15]. إن رؤية جنبلاط التي أزاحت
التهجئة، حرفيةً كانت أم طقسية، إنما تلتمس
الوعي الإنساني في جميع منحنياته ومرتقياته،
كي تتحقق من استيعابه للدين وفقًا للمؤهلات
التي تفرضها الظروفُ المكانية والزمانية،
معتبرًا أن الدين لا يعدو أن يكون فكرًا تصدى
لحلِّ مشكلات عصر ما كان ولد فيه نبي من
الأنبياء أو جيل كان عايشه رسولٌ من الرسل.
لذا فإن التأكيد – بتعصب – أن هذا الدين أو
ذاك ينطبق على جميع البشر، في الأزمنة
كلِّها، لهو أمر يجانب المرتقيات التطورية
للإنسان في مناحٍ كثيرة من معارفه وإنجازاته.
فاعتبار الإنسان، من هذه الوجهة، "غاية"
لا يتفق مع المرامي المرتهنة للتعصب الديني
أو "التطقيس" الإيماني. لذا حاول كمال
جنبلاط "معالجة التمايز الديني وانعكاساته
على جميع المستويات"[16]، لأن الهدف
الأخير للأديان، مُزاحةً منها التهجئات
الخاصة، هو قيادة البشر إلى التحرر من كل
ارتهان يحجب الإنسان عن التحقق من كونه وعيًا
حرًّا، فيغيب عنه منطقُ المساواة الروحية
التي ترسِّخها فكرةُ التوحيد. فذلك المنطق
الذي "لا يقر التسليم بحق أيِّ فريق دينيٍّ
بتكفير فريق آخر بسبب اختلاف في المذهب أو
العرق"[17]
إنما هو نقيض ادعاء جماعة من الجماعات، أو
مذهب من المذاهب، أو فرقة من الفِرَق،
امتلاكَ حقيقة الإسلام، بما يؤدي بها إلى
مصادرة شمولية الدين في قوقعة الاعتقاد
المسيَّس التي تعوق مسيرتَه الشمولية في بناء
رابطة جامعة موحدة بين الشعوب، فتحوِّله إلى
"أداة تجزئة وفرقة، وفي أحيان كثيرة، إلى
عامل اقتتال دموي فيها"[18].
وإن هذا يؤدي، في جملة ما يؤدي إليه، إلى تناقُض
بين [النظري
العام]، وهو الإيمان بدعوة الإسلام، وبين
الواقع، وهو المعبَّر عنه بممارسة هذا الشكل
التاريخي من الإسلام دون سواه.[19] هنا تتراءى لكمال جنبلاط
"آفاق نورانية" تبشر بتلاويح الصهر
العرفاني للإنسان وترتكز حضاريًّا إلى
الانعتاق من السلاسل، حيث يتنقَّى الوعي، وقد
بلغ الإنسانُ مرحلةً قصوى من التقدم المادي،
من شوائب الانغراس في المحسوس، [...]
لأنه يستحيل أن يعبَّر عن المطلق، غير
المقيَّد بالشروط، بلغة مفهومية، نسبية أو
شرطية، أو أن يوصف اللامتناهي بلغة المتناهي.[20] وفي هذا الصدد، لا بدَّ لنا
أن نخلص إلى ذكر الانشداه الجنبلاطي الكمالي
بالفكرة "المهدية" التي لا تنعزل في
نفحتها "المسكونية" – إذا ما فهمناها
بإزاحة التهجئة – عن كونها دربًا إلى الشمول
أو تجليًّا لـ"روح عظيمة" (مهاتما)، حيث
تنجلي في اكتمالها وظهورها إرادةُ التطور
والروحُ الكونية، إذ تتشخَّص هذه الروح في
النفحة الشمولية للمُثُل العليا والمدرَكات
المستعلية، كي تتلبس الإنسانَ وتُشاغِلَه
عند بزوغها وانشراح مداها، لـ"يتأسلم"
في مدى قد يكون هندوسيًّا أو مسيحيًّا أو
فاطميًّا إسماعيليًّا أو شيعيًّا إلخ. ***
*** *** [1]
نبيل هادي، كمال جنبلاط: التحدي الكبير،
دار الفارابي، بيروت، طب 1: 1977؛ ص 286. [2]
بدري يونس، مزالق العولمة الحديثة، دار
الفارابي، بيروت، طب 1: 1999؛ ص 35. [3]
برناديت شينك، كمال جنبلاط والتراث
العربي الإسلامي، دار النهار، بيروت، طب
1: 1999؛ ص 131. [4]
المصدر نفسه، الصفحة نفسها. [5]
المصدر نفسه، ص 135. [6]
نبيل هادي، مرجع سابق. [7]
أحمد خليل خليل، كمال جنبلاط: ثورة الأمير
الحديث، دار المطبوعات الشرقية، بيروت،
طب 1: 1984؛ ص 387. [8]
كمال أبو مصلح، كمال جنبلاط، بيروت، 1979؛
ص 204. [9]
كمال جنبلاط، أحاديث عن الحرية، الدار
التقدمية، المختارة، طب 2: 1987؛ ص 180. [10]
المصدر نفسه، ص 130. [11]
المصدر نفسه، ص 182-183. [12]
برناديت شينك، مرجع سابق، ص 131. [13]
أحمد خليل خليل، مرجع سابق، ص 421. [14]
كمال جنبلاط، ثورة في عالم الإنسان،
لجنة تراث القائد الشهيد، بيروت، 1978؛ ص 297. [15]
أحمد خليل خليل، مرجع سابق، ص 422. [16]
عفيف فراج، جدلية المثالي والواقعي،
دار ابن خلدون، بيروت، طب 1: 1977؛ ص 148. [17]
المصدر نفسه، ص 48. [18]
فؤاد خليل، المثقف والهوية في لبنان،
دار الفارابي، بيروت، طب 1: 2005؛ ص 92. [19]
المصدر نفسه، الصفحة نفسها. [20]
جنبلاط كمال، آفاق نورانية، الدار
التقدمية، المختارة، طب 1: 2003؛ ص 44.
|
|
|