أحدُ دروس اللاَّعنف من عُمق التَّاريخ المُعَاصر

 

رشيد أوراز[1]

 

لماذا قُتِلَ عمر المختار؟

طرحتُ هذا السؤال على جماعة من الأصدقاء بعد أن شاهدنا الفيلم الرائع الذي أخرجَه الفنانُ السوري الراحل مصطفى العقاد. أجرؤهم على الجواب قال: أنت تعرف السبب!

كنت أعرف ما يعنيه بقوله. كان يقصد حتمًا أن الإيطاليين قتلوا عمر المختار لأنهم مستعمرون غزاة، ولأن عمر المختار مدافع شرس عن كرامة المواطن الليبي الأعزل. وهذا القصد فيه قدر ضئيل من الحقيقة، والبقية تصور خاطئ للأمر بسبب "ما لا يُرى" من القضية، بحسب قول الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا. لقد دافع عمر المختار حقًّا عن كرامة المواطن الليبي، عن شرفه، وعن وجوده – ولكن بأية وسيلة؟

قد أكون مخطئًا إن قلت لكم إن عمر المختار ساهم في مقتله على يد الإيطاليين. لكني أريد أن أكون لطيفًا مع شعورنا المرهف، نحن المسلمين هذه الأيام، وأن أشرح الأمور في ضوء تحليل تاريخ الحدث نفسه.

قبل أن يظهر المشهد المؤلم في الفيلم، حين سقط جواد عمر المختار أرضًا، كان قد مرَّ أمام أعيننا جميعًا مشهدٌ أكثر تعبيرًا، حيث كان عمر المختار شهمًا حقيقيًّا يفاوض الإيطاليين، في صورة نبيٍّ يدافع عن قيمة الإنسان. لكن مشهد الشنق، وانحناءة الطفل ليأخذ نظارة شيخه، وسخطنا العارم على الإيطاليين، أمور حجبتْ حقائق عن بصيرتنا، فحسمنا – بصفة مطلقة – أن الإيطاليين فعلاً هم مَن قتل عمر المختار!

نحن نعرف أن مقتل عمر المختار لم يحرِّر ليبيا من الاستعمار: لم تتحرر ليبيا إلا حين أمسى الإيطاليون أنفسهم مستعدين للرحيل. فعمر المختار خسر الاستقلال بأن قُتل.

ونعرف أيضًا – في صورة أخرى لتحرير بلد من الاستعمار – أن المهاتما غاندي قاد الشعب الهندي إلى ميدان التحرير دون أن تتمكن بريطانيا من شنقه، فحرَّر دولةً كبيرة كالهند يفوق تعدادُ سكانها سكان ليبيا أضعافًا، وهي بلد يسيل له لعابُ المستعمر، بمركزها الجغرافي وخيراتها الطبيعية وقوة سوقها الاستهلاكية. لكن على الرغم من تلك العوامل كلِّها، خرجت بريطانيا من الهند دون أن تتمكن من قتل مَن قاد تلك الأمة إلى ميدان التحرير.

وغاندي تعلَّم بعض دروس الكفاح في جنوب إفريقيا، البلد الذي اشتهر بمحرِّر آخر اسمه نيلسون مانديلا، محرِّر الأفارقة من العنصرية البيضاء، وهو الاستعمار الأكبر الذي عانى منه السود على مرِّ التاريخ... الاستعمار وفق الألوان! لكن نلسون مانديلا أيضًا لم يُقتَل، وهو اليوم يتمتع بسنوات عمره وسط بلده، حيث تساوى البشرُ أخيرًا، ويحظى بالتكريم في كلِّ أرض تطأها قدماه، اعترافًا بقيادته لشعب كامل إلى المساواة.

نماذج مثل غاندي ومانديلا قليلة جدًّا، وفريدة أيضًا. ونحن نريد أن نعرف السرَّ من وراء مقتل البعض، ونجاة البعض الآخر: هل هي معجزة أم مجرد مصادفة تصنعها الأحداث؟

لقد سال لعاب بريطانيا للهند أكثر مما سال لعاب إيطاليا لليبيا، البلد الصحراوي القاحل والسوق الاستهلاكية الضعيفة. لكن مَن قاد الكفاح من أجل التحرير في الهند نجا، فكان عبرةً، وسُمِّيَ حكيمًا، ومَن قاد كفاح الليبيين قُتِلَ، وتأسَّف الناس عليه، وترك وراءه شعبًا متهمًا يُذبَح جماعاتٍ جماعات.

إن مشهد المفاوضات، حيث يقابل عمر المختار الإيطاليين، مشهد معبِّر جدًّا. إذ لم يستطع أي إيطالي، مهمن كان، أن يمدَّ يده إلى زعيم التحرير. لكن متى صار مد اليد مشروعًا؟ كان ذلك حينما صنع عمر المختار لنفسه تهمة. والتهمة أحيانًا هي أنك تريد أن تنهي عدوك بقوة السلاح.

هذه هي التهمة التي صنعها عمر المختار لنفسه، وتجاوزها المهاتما غاندي بحكمته. ولو لم تكن تلك التهمة لما استطاعت أية قوة في الأرض أن تمدَّ يدها إلى شيخ يدافع عن كرامة أمته. ولكن عمر المختار باع نفسه في ميدان القوة، وقُتِلَ. والقتل عملية يتقنها المستعمر جيدًا، بآلاته العسكرية المتطورة. وكان ذلك كله من قلَّة حكمة الشيخ عمر المختار ليس غير.

ولكن المهاتما غاندي كان حكيمًا. ومولانا محمد علي، صاحب المرافعة الرائعة "أيها المحلفون، الله لا الملك!"، كان كذلك أيضًا، وهو هندي غير معروف كثيرًا. وقد كرَّم الشاعر هشام علي حافظ، والمفكر د. خالص جلبي، وداعية اللاعنف جودت سعيد هذه المرافعة بأن أخرجوها في كتاب ساهم فيه الأول بقصائد شعرية جميلة، والثاني بمقالاته غير المحصورة عن اللاعنف، والثالث بقراءة معاصرة للمرافعة وفق منطق القرن الذي ندخله. والكتاب الذي صدر عن دار الريس منذ بضع سنوات يحمل عنوان المرافعة: أيها المحلفون الله لا الملك. لكن هذه أمور لا ينتبه إليها العامة ولا الكتَّاب في الغالب من الأحيان.

شَدَّ مقتل عمر المختار انتباهي كثيرًا، فقلت إن الرجل قتل نفسه بخطأ يرتكبه الناس كلهم، وهو استباحة دم الآخرين. وهي فكرة ظل يردِّدها خالص جلبي وجودت سعيد منذ عقود؛ لكنهما اليوم كاتبان بدأنا ننساهما في زمن استنفد فيه العالمُ الإسلامي الحلولَ كلَّها، بما فيها حل الوصول إلى الهدف عن طريق العنف – وهو "ربع حل" كلَّفنا كثيرًا، وولَّد جماعات مفجِّرة، صدَّرناها – للأسف – في زمن غفلة إلى أرجاء العالم قاطبة. وهذا خطأ سنتحمل، نحن المسلمين، تبعاتِه كثيرًا. فاستباحة دم الآخرين فعل خطير؛ وإذا كان الآخر عدوًّا لك، كانت الاستباحة أخطر، لأنك تعطيه الفرصة ليقوم بتصفيتك عند أول غفلة.

وهذا باب كان في إمكان عمر المختار ألا يفتحه لو ظل مفاوضًا من أجل الكرامة، على طريقة المهاتما. ولكنه فتح باب القتل، فقُتِلَ هو، وقُتِلَ من بعده آلاف الليبيين، ما كان لهم أن يُقتلوا لولا ذلك.

وهذا خطأ يتكرر اليوم في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان. وهي أخطاء ترتاح إليها إمبراطوريات من حجم أمريكا، حيث تفضل السرية والتصفية الجسدية والحرب. وأشد أعدائها مَن يطالبها بالكرامة، محتجًّا، حاملاً وردة، لأنه يزرع على وجهها خجلاً حقيقيًّا، إذ يضعها في صورة إمبراطور يدوس على حديقة مملوءة بالزهور. لكن الأمور تنقلب رأسًا على عقب حينما تلجأ الزهورُ إلى العنف!

المؤسف أننا، في العالم الإسلامي، لم ننتبه بما يكفي إلى هاته الأخطاء، ولم نتشرب ثقافة اللاعنف. فأجرؤنا على الدفاع هو أجرؤنا على حمل السلاح، وأول الحلول اقتحام أبواب البيوت!

كانت رغبتي عارمة في أن أشرح للصديق أن عمر المختار ساهم في مقتله. لكن الأجواء النفسية المشحونة بالحقد تُعمي الأبصار وتُفقِد التركيز، وليس لي من وسيلة سوى التزام الصمت حتى تتلطف الأجواء.

وهذا الفيلم المشحون بالحقد، تلعب فيه الإمبراطورية الأمريكية دور البطل كلَّ يوم، ولا تترك لنا أية فرصة لنُقنِع السادةَ النبهاء أن الالتجاء إلى العنف من شأنه يضع القضية في كفِّ الشيطان، ويرسل صاحب القضية بطريقة مستعجلة إلى المقصلة بالتهمة الأبدية: تهمة القتل. وهذه التهمة أُلصِقَتْ بنبي الله موسى، حين وكز الرجلَ فقضى عليه، وهو في مواجهة علنية مع أخطر عدوٍّ للإنسانية على مرِّ التاريخ – "فرعون" الذي جمع بيده سلطة الربوبية والملك. ولم يشفع لموسى إلا الاعتراف والهجرة من تلك الأرض. ولو لم يكن ذلك الحل الذكي لقَتَلَه فرعون، ولما تمكَّن من تبليغ رسالة ربِّه وتحرير بني إسرائيل من الطاغوت.

أظن أنكم فهمتم الآن أن ما كان ينقص عمر المختار هي الـساتياغراها (أو "قوة الحق")، وليس الإرادة.

يزداد حماس الشباب المسلم اليوم، وتبلغ القلوبُ الحناجر، وتنغلق مسالكُ التنفس، ويضطرب القلب في ضرباته، ويتمنى المرء لو قُتِلَتْ أمريكا وإسرائيل والشيطان والمستشرقين والعَلمانيين كلهم دفعة واحدة! وتزداد جرعات التسمم العنفي، وينفجر الشباب هنا وهناك. وهذا تأزم خطير ودخول إلى نفق مظلم، حيث تختلط السرية بالعنف.

واليوم ليس لنا إلا أن نحمد الله أنه قد نجح على مرِّ التاريخ بعض الأفراد في تحقيق العدالة دون أن يفرضوها بقوة السلاح. ولو لم يكن أولئك الأفراد، وفي مقدمتهم الأنبياء ونماذج إنسانية أخرى، مثل غاندي ومانديلا، لما تمكنَّا من أن نفسِّر اللاعنف للبعض إلا كدعوة نظرية مجردة، ولكنَّا آنذاك "أفرادًا ينقصنا الوعي"، بحسب ادعاء بعضهم!

*** *** ***


[1] كاتب وباحث مغربي، إيميله: aourraz@maktoob.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود