|
نحو
رؤيـة عربيَّـة لثقـافة السَّـلام ترى
هل من المشروع الحديث عن أهمية صياغة رؤية
عربية لـ"ثقافة السلام"؟ أم أن هذا
المصطلح – كما ظهر في صيغته الأولى، التي هي
"بحوث السلام" peace studies، في الدوائر الفكرية الغربية في أعقاب
الحرب العالمية الثانية، وكما تبنَّتْه من
بعدُ الأممُ المتحدة – مفهوم دولي متفَّق
عليه، ينبغي الالتزام به في الدول والمجتمعات
الإنسانية كافة، مهما تباينتْ ثقافاتُها؟ إذا استعرضنا التراثَ العلمي
في الموضوع استعراضًا دقيقًا لاكتشفنا
حقيقةً أساسية مُفادها أن مفهوم "ثقافة
السلام" تعددتْ مدلولاتُه بتعدد المدارس
العلمية، وأبعد من هذا، بتعدد الثقافات
الإنسانية، وخصوصًا ثقافات الشرق وثقافات
الغرب. ومن هنا فدعوتنا إلى صياغة رؤية
عربية لثقافة السلام[2]
لا تُعَد خارجةً عن السياق العالمي الذي
يسوده التعددُ والتنوعُ الخلاق في صياغة
تعريفات "ثقافة السلام". غير أننا توصلنا – من خلال
دراستنا الدقيقة للتراث العلمي – أنه، مع
الاعتراف بالتعدد في تعريفات ثقافة السلام،
هناك إجماع على ستِّ مراحل مرتْ بها
الصياغاتُ المتعددة لمفهوم السلام، وخاصة في
بحوث السلام الغربية (راجع آخر المقال). وقد
انتهت عمليةُ دراسة هذا التطور التاريخي إلى
إجماع آخر على خمسة نماذج أساسية للسلام
ينبغي اعتمادُها في كلِّ مكان، مع عدم
استبعاد أنه ينبغي، في التطبيق العملي،
إعطاءُ التأثيرات المحلِّية والإقليمية
حقَّها الكامل في إدخال عناصرها إدخالاً
فعالاً في صميم كلِّ نموذج من نماذج السلام
الخمسة. ويبرز في إطار المفكرين
الثقات، ممن أوَّلوا موضوع اختلاف مفاهيم
السلام بحسب الثقافات المختلفة في الشرق
والغرب، العالمُ الاجتماعي الياباني تاكيشي
إيشيدا الذي نَشَرَ دراسةً رائدة في العام 1969
بعنوان "ما بعد المفاهيم التقليدية للسلام
في مختلف الثقافات" في مجلة بحوث السلام،
فأصبحت المرجعَ الأساس في الموضوع منذ ذلك
الوقت. وفي مجال تعقُّب المراحل
المختلفة التي مرت بها الصياغاتُ المتعددة
لمفهوم السلام، لدينا دراسات موثَّقة لعدد من
الباحثين المرموقين، بالإضافة إلى دراسات
أخرى حددتْ نماذج السلام الخمسة التي يوجد
إجماعٌ دولي في شأنها، لم يلبث أن انعكس على
مقررات التدريس الجامعية في مجال بحوث السلام. عناصر مقترَحة لرؤية
عربية وأتصور – كتفكير مبدئي – أن
الرؤية العربية المقترَحة يمكن لها أن تصاغ
على أساس خمسة مفاهيم أساسية، لكلٍّ منها
تعريفات محددة تكون مختلفة – ما من شأنه أن
يثير إشكالياتٍ منهجيةً ونظريةً تقتضي
الإيضاح. وهذه المفاهيم الخمسة هي: الهوية
والقومية والذاكرة التاريخية ومفهوم الذات،
وأخيرًا، رؤية العالم. وقد سبق لنا، في
دراساتنا السابقة المنشورة في كتابنا إعادة
اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة[3]،
أن اهتممنا اهتمامًا خاصًّا بإشكالية "الهوية"
في عصر العولمة، وذلك في إطار فرضية أساسية
صغناها، ومبناها أن السرَّ العميق في
الارتباك الشديد الذي يسود دوائر السلطة
والحكم في الدولة العربية المعاصرة يعود إلى
أنه يطرح عليها في الوقت الحاضر ثلاثة أسئلة
حاسمة، تمثِّل لها تحدياتٍ خطيرة، وهي أسئلة التنمية
والحكم الرشيد والهوية. 1.
فيما يتعلق بـ"الهوية"
identity،
يمكن لنا القول إنها تثير إشكالياتٍ لا تنفرد
الدولة العربية المعاصرة بمواجهتها، بل إنها مشكلة
ثقافية وسياسية عالمية يدور حولها الجدل
وتحتدم في صددها المعاركُ السياسية والفكرية
في بلاد العالم جمعاء، لا فرق في ذلك بين دول
متقدمة ودول نامية أو متخلفة. من هنا قد يكون
من المناسب أن نثير السؤال المهم التالي:
لماذا الآن، ونحن في بدايات القرن الحادي
والعشرين، تثار قضيةُ "الهوية" في كلِّ
مكان؟ هنالك أسباب متعددة أدت إلى أن
تصبح مشكلات الهوية على أجندة هموم الدول
المعاصرة في كلِّ مكان. وربما كانت ظاهرة العولمة
globalization، التي أصبحت العملية التاريخية التي
تملأ الدنيا وتشغل الناس، على رأس هذه
الأسباب: فقد أدت هذه الظاهرة إلى تحركات
سكانية متعددة، تمثَّلتْ في هجرة أفراد
وافدين من الدول العربية والإسلامية إلى
البلاد الغربية؛ وهؤلاء المهاجرون كوَّنوا،
بمرور الزمن، مجموعاتٍ سكانيةً كبيرة لها
أسلوب مختلف في الحياة ودين مختلف وقيم
مختلفة. وهكذا خلقت إشكاليةُ الهوية لهؤلاء
البشر مشكلاتٍ متعددة لكلٍّ من الدول المضيفة
وجاليات المهاجرين على حدٍّ سواء. غير أنه، بالإضافة إلى تأثير
العولمة على الهوية، هناك تطورات داخلية
في كلٍّ من المجتمع العربي والمجتمعات
الإسلامية أدت إلى ظهور أزمة في الهوية: فهناك
مَن يتمسكون في العالم العربي بهويتهم العربية،
التي تنعكس على مفهوم السلام، محليًّا
وإقليميًا وعربيًّا؛ وهناك مَن يتمسكون
بهوية إسلامية متخيَّلة ترى أن المسلمين
جميعًا ينتمون إلى أمَّة واحدة تدين
بالإسلام، بما يفرض، بالتالي، انعكاساتٍ
مهمةً على مفهومهم للسلام، حيث يبرز مفهوم
"الجهاد" والحرب الدينية بين المسلمين
والكفار، مما ينعكس، سلبًا في كثير من
الأحيان، على مفهوم السلام وممارساته، سواء
محليًّا أو إقليميًّا أو عالميًّا. 2.
المفهوم
الثاني الذي يصلح أساسًا لرؤية عربية لثقافة
السلام هو مفهوم "القومية" nationalism،
وهو موضوع معقد للغاية: فالقومية تحوي
أفكارًا مختلطة حول العنصر والأمَّة
والطبقة، ولاسيما أننا نشهد عِبْرَ عالمنا
المعاصر إحياءً للقومية. ويرى العالم السياسي
فريد هاليداي أن القومية هي القوة المحركة
والدافعة للحركات الجديدة في أوروبا
الشرقية، وهي المسؤولة، في جانب لا يستهان
به، عن توحيد ألمانيا وعن انهيار الاتحاد
السوفييتي. وقد تكون في إحياء القومية جوانب
"إيجابية"، إلا أنها قد تؤدي إلى صراعات
خطيرة داخل الدولة ذاتها أو بين الدول. إن العنصرية
الجديدة ترتبط ارتباطًا عضويًّا بالتعبيرات
المفرطة عن القومية، كما يذهب بعض الباحثين
الثقات. 3.
أما عن
المفهوم الثالث الذي يصلح أساسًا من أسُس
صياغة رؤية عربية للسلام فهو "الذاكرة
التاريخية" historical memory. والذاكرة التاريخية، عمومًا، في نشأتها
التاريخية في خصوص شعب ما، كما في بنيتها وفي
الوظائف التي تقوم بها، تلعب دورًا حاسمًا في
صياغة اتجاهات كلٍّ من النخبة والجماهير في
إزاء الغير. ويمكن لنا القول إن الذاكرة
التاريخية العربية مازالت حية فيما يتعلق
بالاستعمار الذي مارستْه الدولُ الغربية ضد
بعض البلاد العربية، وكذلك الاحتلال الأجنبي.
وبعد زوال حقبة الاستعمار، بدأت هيمنة الدول
الكبرى على مقدَّرات الدول العربية، وظهر
تحيُّز بعضها للدولة العبرية في قهرها للشعب
الفلسطيني، مما يعكس آثارًا سلبية بالغة
الخطورة على مفاهيم الشعوب العربية للسلام في
المنطقة وفي العالم. 4.
ونصل إلى
المفهوم الرابع، وهو "مفهوم الذات" self-concept، وهو من المفاهيم الأساسية في علم النفس.
وتبرز أهميته، حين ينتقل من مجال علم النفس
الفردي إلى علم نفس العلاقات الدولية، لتفسير
الاتجاهات الأساسية لشعب ما، سواء في نظرته
إلى ذاته أو في إدراكه للآخر. 5.
وأخيرًا،
لدينا مفهوم "رؤية العالم" worldview، ويعني النظرة إلى الكون والمجتمع
والإنسان. هذا موجز مختصر للمفاهيم
الأساسية التي يمكن على أساسها صياغةُ رؤية
عربية لثقافة السلام. الرؤى العالمية للسلام ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن
صياغة رؤية عربية للسلام لا تتناقض بالضرورة
مع الرؤى والنماذج السائدة في الفكر العالمي
حول السلام. وفي هذا المجال، لدينا دراسات
موثَّقة تعكس الإجماع العالمي حول موضوعين:
أولهما، المراحل المختلفة التي مرت بها
محاولاتُ صياغة مفهوم السلام، والثاني،
الإجماع العالمي حول نماذج السلام الرئيسية.
وفيما يتعلق بالمراحل المختلفة التي مرت بها
عمليةُ صياغة مفهوم السلام، يرى بعض الباحثين
الثقات أنها تنقسم إلى ستِّ مراحل: 1.
أولاً: السلام باعتباره غيابًا للحرب
كممارسة وسلوك، وهو يطبَّق على الصراع
العنيف، سواء بين الدول أو داخل الدول ذاتها
في صورة الحروب الأهلية. وهذه الفكرة عن
السلام شائعة لدى الجماهير العادية ولدى
السياسيين في الوقت نفسه. 2.
المرحلة الثانية ركَّزت على السلام
باعتباره توازنًا للقوى في إطار النظام
الدولي. 3.
والمرحلة الثالثة هي التأكيد على كلٍّ من السلام
السلبي (أي الحيلولة دون نشوب الحرب) والسلام
الإيجابي (منع العنف البنيوي في المجتمع). 4.
والمرحلة الرابعة هي تلك التي ساد فيها مفهوم
نسوي للسلام feminist peace، حاول أن يربط بين المستوى الكلِّي
للسلام والمستوى الجزئي. ولذلك فهو لا يفرِّق
بين الحرب وبين العدوان على الأفراد، مثل
ممارسة العنف غير المنظم على النساء في
الحروب، كالاغتصاب، وبين سائر صور العنف ضد
الأشخاص. 5.
ولو انتقلنا إلى المرحلة الخامسة، لوجدنا
تركيزًا على فكرة السلام مع البيئة،
باعتبار أن الممارسات الرأسمالية قد اعتدت
اعتداءً وحشيًّا على البيئة الإنسانية. 6.
ونصل، أخيرًا، إلى مرحلة التركيز على السلام
الداخلي للإنسان، باعتباره يرتبط بالضرورة
بالسلام على المستوى الكلِّي. ومعنى ذلك أن مراحل تطور صياغة
مفاهيم السلام – لو أردنا اختزالَها في عبارة
واحدة – تتمثل في الانتقال من المفاهيم ذات
البُعد الواحد إلى المفاهيم المتعددة
الأبعاد، ومن المفاهيم السلبية إلى المفاهيم
الايجابية، ومن السلام الخارجي إلى كلٍّ من
السلام الداخلي والخارجي معًا. هذه، بالطبع، ملاحظات مبدئية
تحتاج إلى تفصيلات متعددة. القاهرة *** *** *** [1] كاتب مفكر وناقد مصري. [2] في إطار جهود "جمعية سوزان
مبارك الدولية من أجل السلام" وفي "معهد
دراسات السلام" الذي أنشأتْه بمكتبة
الإسكندرية. [3] نشرتْه دار ميريت بالقاهرة،
وهناك طبعة خاصة صدرت عن مكتبة الأسرة،
القاهرة 2006.
|
|
|