|
الإيـمـان
والعـقـل والجـامـعـة ذكـريـات
وخـواطـر[1] سيداتي سادتي، إنها للحظة مؤثرة أن أقف من
جديد على منصة المحاضرات في الجامعة وأن
يُسمَح لي مرة أخرى بإلقاء محاضرة. في هذه الآونة، تسبح بي
ذكرياتي عائدةً إلى تلك الأعوام المنصرمة
التي باشرتُ فيها العملَ في جامعة بون كأستاذ
أكاديمي بعد أن قضيت فترةً جميلةً من حياتي في
معهد فرايزنغ. كان ذلك في العام 1959، أيام كانت
الجامعة هي جامعة للأساتذة فقط: فلم يكن ثمة
مساعدون ولا سكرتارية؛ ولهذا كانت لقاءات
الأساتذة، سواء مع الطلاب أو مع بعضهم بعضًا،
تحدث مباشرة، وكانت تنعقد في غرف المدرسين،
إما قبل مواعيد إلقاء المحاضرات وإما بعدها.
كانت الاتصالات واللقاءات بين المؤرخين
والفلاسفة وعلماء اللغة من الجامعة نفسها،
وبطبيعة الحال، بين كلتا الكلِّيتين
اللاهوتيتين أيضًا، حيةً ومتجددة إلى حدٍّ
كبير. وفي كلِّ فصل من الفصول الدراسية كان
يحدث مثل هذا التجمهر الأكاديمي الذي يقوم
فيه الأساتذة من جميع الكلِّيات بالتعريف
بأنفسهم أمام طلاب الجامعة كلِّها، فيتمكن
المرءُ من معايشة تجمُّع علمي موسوعي Universitas
حقيقي. وكان من الممكن رؤية أننا
استطعنا بناء فكرة عامة في كافة الاختصاصات
التي جعلتنا في الغالب نصغي في ذهول إلى بعضنا
بعضًا، وأن نعمل إجمالاً على بناء الحكمة
بكلِّ آفاقها وننحاز بمسؤولية جماعية إلى
جانب الاستخدام الصحيح للعقل. لا ريب أن كلتا الجامعتين
كانتا مزهوتين بكلِّيتي اللاهوت لديهما،
وكان جليًّا أن الجامعتين كلتيهما، من خلال
طرحهما التساؤلات عن عقلانية الإيمان،
تنجزان عملاً يرتبط بالضرورة بمجمل العلوم
الكونية، – حتى لو لم يكن بمقدور الجميع
تقاسُم المعتقد نفسه؛ – وهو عمل يجتهد علماءُ
اللاهوت في ربطه بالعقلانية العامة. هذا التماسك الداخلي في
فضاء العقل لم يتضرر عندما تناهى إلينا ذات
مرة أن أحد الزملاء قال: "إن ما يحدث في
جامعتنا يثير الاستغراب: فاثنتان من
الكلِّيات مهتمتان بما ليس موجودًا على
الإطلاق، ألا وهو الله!" أما الوقوف بضرورة
وحكمة في مواجهة هذا التشكيك المتطرف، والبحث
عن الله عن طريق العقل، والقيام بهذا
بالارتباط مع الموروث الإيماني المسيحي، فلم
يكن مثار خلاف في الجامعة بأسرها. توارَد ذلك كله إلى خاطري
عندما طالعتُ مؤخرًا جزءًا من الحوار الذي
نَشَرَه الأستاذ ثيودور خوري من جامعة مونستر
والذي عَقَدَه القيصر البيزنطي العالِم
مانويل الثاني في العام 1391 م في معسكره الشتوي
قرب أنقرة مع علاَّمة فارسي حول المسيحية
والإسلام وحقيقة كلٍّ منهما. وقد دوَّن
القيصر الحوار بنفسه في أثناء حصار
القسطنطينية بين العامين 1394-1402 م. ومن هنا
يفهم المرءُ لماذا نُقِلَتْ شروحُه بتفصيل
أكبر من إجابات مُحاوره الفارسي. امتد الحوار ليغطي كامل
مساحة التركيبة الإيمانية المعروضة في
القرآن والإنجيل وليدور، على وجه الخصوص، حول
صورة الله والإنسان، علاوة على المسألة
الأكثر إلحاحًا، أي العلاقة بين "الشرائع
الثلاث": العهد القديم والعهد الجديد
والقرآن. أرغب في هذه المحاضرة أن أعالج نقطةً
هامشية أثارت انبهاري وَرَدَتْ في سياق
الحوار فيما يتعلق بموضوعة الإيمان والعقل؛
وقد اعتبرتُها نقطة انطلاق لأفكاري وتأملاتي
حول هذا الموضوع. في الجولة السابعة من جولات
الحوار التي نَشَرَها الأستاذ خوري تحت اسم
"مسائل خلافية"، تطرَّق القيصر إلى
موضوع "الجهاد" [الحرب المقدسة]، وكان
يعلم قطعًا أن الآية 256 من سورة البقرة التي
تقول "لا إكراه في الدين" هي من الآيات
التي تعود إلى زمن مبكِّر كان محمد فيه لا
يزال مهددًا ولا حول له. وكان القيصر عارفًا
بطبيعة الحال بتلك التحديدات الأخرى الواردة
في القرآن عن الجهاد والتي نصَّ عليها
القرآنُ في مرحلة لاحقة. ودون إرخاء عنان
الدخول في التفاصيل، من قبيل التفرقة
والتمييز في معاملة أهل الكتاب والكفَّار،
تحوَّل القيصر بطريقة خشنة مستغرَبة نحو
محاوِرِه، موجهًا إليه السؤالَ المركزي عن
العلاقة بين الدين والعنف، فقال: أرِني
ما هو الجديد الذي أتى به محمد؟ لن تجد سوى
السيئ واللاإنساني، مثل فَرْضِه نَشْرَ
العقيدة التي يدعو إليها بحدِّ السيف. وقد تابع الإمبراطور مبررًا
قوله: لماذا
يُعَد نشرُ العقيدة بواسطة العنف مخالفًا
للعقل؟ [...] لأن ذلك يتعارض
مع جوهر الله وجوهر الروح. فالله لا تُطلَب
مرضاتُه بالدماء؛ وإن محاكمة الأمور بعيدًا
عن المنطق والعقل يتناقض مع طبيعة الله. [...]
إن الإيمان هو ثمرة الروح، وليس ثمرة الجسد.
ومَن يريد أن يهدي أحدَهم إلى الإيمان يحتاج
إلى المقدرة على الكلام الطيب والتفكير
السليم، وليس إلى العنف والوعيد. ولكي يتمكن
المرء من إقناع الروح العاقلة فإنه لا يحتاج
إلى ذراعه، ولا إلى طعنة سلاح يضرب به، ولا
إلى أية وسيلة من الوسائل التي تجعله يهدِّد
بها غيره بالموت. إن الجملة الفاصلة في هذه
المحاججة التي تعارض الهداية إلى العقيدة
باستخدام العنف هي: إن محاكمة الأمور بعيدًا
عن العقل والمنطق تتعارض مع الطبيعة الإلهية.
وقد أضاف الناشر ثيودور خوري معلقًا: إن
هذه الجملة واضحة بجلاء في نظر القيصر،
باعتباره بيزنطيًّا شبَّ على الفلسفة
الإغريقية. وعلى العكس من ذلك، فإن الله في
التعاليم الإسلامية عصيٌّ عصيانًا مطلقًا
على الإدراك، وإرادتُه لا ترتبط بأيٍّ من
مقولاتنا، حتى لو كان الأمر يدخل في باب رجاحة
العقل. ويستشهد خوري بأحد مؤلَّفات
مستشرق فرنسي يشتغل بالإسلاميات يدعى روجيه
أرنالديز R. Arnaldez،
أشار إلى أن ابن حزم ذهب بعيدًا في توضيحه أن
الله ليس ملتزمًا حتى بالمحافظة على كلامه
وأنه ليس ثمة ما يُلزِمه بأن يكشف لنا الحقيقة.
فحتى لو كانت مشيئته عبادة الأوثان لوجبتْ
على الإنسان طاعتُها. من هنا يتشكل بين فهم الله
وبين التحقيق الملموس للدين مسارٌ فاصل يقف
اليوم أمام أنوفنا متحديًا: هل الاعتقاد في أن
"التصرف إذا جافى العقل فإنه يخالف جوهر
الله وطبيعته" هو مجرد فكر يوناني فقط؟ أم
أن ذلك سائد باستمرار ومعروف من تلقاء ذاته؟
أعتقد أن ما يظهر في جلاء في هذا المقام هو
التناغم العميق بين ما هو يوناني وبين
الإيمان بالله الذي يجد مرتكزَه في الكتاب
المقدس. استهل يوحنا مقدمة إنجيله
بالآية الأولى في سفر التكوين: "في البدء
كان الكلمة Logos."
وهذه الكلمة هي بالتحديد ما كان يحتاجه
القيصر: فالرب يتعامل بالكلمة [اللوغوس]، واللوغوس
هو العقل والكلمة في آن معًا: العقل
المبدع الخلاق الذي يمكن تداوُله ونقلُه
كحكمة وكرشد. لقد أهدى إلينا يوحنا الكلمة
الفصل لمفهوم الرب في الكتاب المقدس الذي يصل
فيه الجميعُ إلى هدفهم عبر طُرُق الإيمان
المسيحي الشاقة والمتعرجة ويعثرون على
تكوينهم الروحي: "في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان لدن الله، والكلمة هو الله." (إنجيل
يوحنا 1: 1) – هذا ما يقوله لنا الكتاب المقدس. إن التلاقي بين رسالة
الكتاب المقدس وبين الفكر الإغريقي لم يكن
وليد المصادفة. فرؤيا القديس بولس – وهو الذي
سُدَّتْ في وجهه دروبُ آسيا، وظهر له "رجلٌ
مقدوني قائمٌ أمامه يتوسل إليه فيقول: "اعبُرْ
إلى مقدونية وأغِثْنا" (أعمال الرسل 16: 6-10)
– لا يمكن تفسيرُها إلا تثبيتًا لذلك
التراكُب الملحِّ الصادر عن القلب بين عقيدة
الكتاب المقدس والمسائل الإغريقية[2]. كان هذا المدخل موجودًا منذ
زمن طويل... إن الاسم المقدس الغامض في
العلَّيقة المشتعلة، الذي ميَّز الله عن
الآلهة الأخرى الكثيرة الأسماء وأخرجَه من
مصافها والذي يعبِّر في بساطة عن الوجود
الإلهي، يتعارض مع الأسطورة التي تقف بإزاءها
محاولةُ سقراط لقهرها والقفز من فوقها نوعًا
من الاتساق الداخلي. إن السيرورة التي ابتدأت
عند العليقة المشتعلة تبلغ في قلب العهد
القديم مرتبةً جديدة من النضج خلال مرحلة
النفي. فرب إسرائيل الذي أصبح دون أرض ودون
تقديس أعلن عن نفسه ربًّا للسماوات والأرض،
وقدَّم نفسه في صيغة بسيطة، مواصلاً كلمة
العليقة: "موسى، موسى [...] أنا إله أبيك، إله
إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" [سفر الخروج
3: 4-6]. بهذه المعرفة الجديدة عن الرب، يقودنا
ممسكًا بيدنا نوعٌ جديد من التنوير يعبِّر
تعبيرًا قاطعًا عن سخريته من الآلهة الأخرى
التي ليست أكثر من "مصنوعات بشرية" (انظر
المزمور 115/113 ب). وهكذا يتوجَّه إيمانُ
الكتاب المقدس في الحقبة الهلينستية بكلِّ
صرامة المواجهة نحو المعلِّمين الهلينستيين
الذين أرادوا فرضَ التقريب بين طريقة الحياة
الإغريقية وبين عبادة آلهتهم، أي مواجهة من
العمق لأفضل ما يملكه الفكر الإغريقي من أجل
التوصل إلى تلاقٍ ما فَرَضَ نفسه فيما بعد في
أسفار الحكمة. إننا اليوم على دراية بأن
الترجمة اليونانية للعهد القديم التي ظهرت في
الإسكندرية، المعروفة باسم "السبعينية" Septuagenta،
هي أكثر من مجرد ترجمة للنصِّ العبري (لو
قيَّمنا الأمر بشيء من الإيجابية) أو مجرد
شاهد نصيٍّ مستقل، بل هي خطوة هامة في تاريخ
الوحي الإلهي تحقَّق فيها هذا التلاقي بطريقة
حظيت بأهمية فائقة في نشوء المسيحية
وانتشارها. يتعلق الأمر عمقيًّا بالتلاقي
بين الإيمان والعقل، بين التنور الفعلي
والدين. كان مانويل الثاني يستطيع القول،
انطلاقًا من الجوهر الباطني للإيمان المسيحي
ومن جوهر الفكر الهلينستي المختلط بالإيمان
والمتمازج معه: "مَن لا يتعامل بالعقل فإنه
يخالف جوهر الرب وطبيعته." حسبنا القليل من النزاهة
لكي نلاحظ أن العصور الوسطى المتأخرة شهدت
ظهور ميول لاهوتية تتجاوز التركيبات
الإغريقية والمسيحية. ففي مقابل ما يُدعى "عقلانية"
أوغسطينوس وتوما الأكويني، بدأت عند يوهان
دَنْس سكوتوس نظريةُ الإرادة التي تدفعنا في
نهاية المطاف إلى القول: "إننا لا نعرف من
الرب إلا إرادته." من ناحية أخرى، فإن الرب
قادر، بموجب الحرية التي يملكها، أن يتصرف أو
يقوم بما يعاكس أفعاله السابقة ويناقضها.
وهنا تتمايز مواقف يمكن لها أن تتقارب مع
تصورات ابن حزم وتصل بنا إلى صورة الرب
المتعسف، غير المرتبط لا بالحق ولا بالخير. إن السمو والغيرية الإلهيين
هما في آفاق عليا لا يعود فيها عقلُنا أو
مفهومُنا عن الخير والشر مرآةً لله الذي تبقى
قدراتُه غير المحدودة، الكامنة خلف إرادته
الفعلية، مستورةً وغير مدرَكة في نظرنا. في
مقابل ذلك، أكَّد الإيمانُ المسيحي على
الدوام وجود تطابُق فعلي بين روح الخالق
وبين عقلنا المخلوق، ولكنه تطابُقٌ قياسي
ما فيه من المتخالفات أكبر إلى حدٍّ لانهائي
من المتشابهات، ولكن ليس إلى درجة إلغاء
التطابق ولغته. إن الرب لا يصبح أقدس إذا
غيَّبناه خلف إرادة مطلقة لا يمكن النفاذ
إليها. ولكن الرب القدوس الحقيقي هو الرب الذي
يُظهِر نفسه كـ"كلمة" [لوغوس]؛ وهو
يعاملنا بمحبة ويتعامل معنا باعتباره "اللوغوس".
يقينًا أن المحبة تسمو على المعرفة،
ولذلك فهي قادرة على الإدراك أكثر من التفكير
المجرد[3]؛
ولكنها تظل محبة لوغوس الرب لأن عبادة الله
تدخل في تناغم مع الكلمة الأبدية ومع عقلنا[4]. إن هذا التراكُب الداخلي
المشار إليه بين الإيمان في الكتاب المقدس
وبين المسائل الفلسفية الإغريقية هو حدث
حاسم، ليس فقط من ناحية تاريخية دينية، وإنما
من ناحية تاريخية عالمية. ولو تأملنا هذا
التلاقي لا نجد عجبًا في أن المسيحية، على
الرغم من منشئها في الشرق ومن انتشارها الهام
هناك، لاقت في أوروبا، في آخر المطاف،
طابعَها البارز تاريخيًّا. ويمكن لنا بالعكس
أن نقول إن هذا التلاقي، مضافًا إليه الإرث
الروماني، استطاع خلق أوروبا وبقي أساسًا لما
يمكن له أن يُسمَّى بحق "أوروبا". إن أطروحة تبعية الإرث
الإغريقي المنقَّى من الشوائب جوهريًّا إلى
الإيمان المسيحي يقف على النقيض من مطلب
تخليص المسيحية من "الهلينية" الذي هيمن
هيمنةً مضطردة على النزاعات اللاهوتية منذ
بداية التاريخ المعاصر. ولو تم تناول الموضوع
تناولاً أقرب لأمكنت ملاحظةُ ثلاث موجات
لبرنامج "نزع الهلينية" مترابطة فيما
بينها، ولكنها تتمايز تمايزًا واضحًا في
عللها وأهدافها. لقد ظهر "نزع الهلينية"
في البداية مترابطًا مع المطلب المبدئي في
الإصلاح خلال القرن السادس عشر، ووجد
الإصلاحيون أنفسهم، فيما يتعلق بالتقليد
المدرسي اللاهوتي، في مواجهة منظومة إيمانية
تحدِّدها الفلسفة، أي أمام إيمان تحدِّده
طريقةُ تفكير غريبة عنه ولا تنبع من ذاته.
وبذلك ظهر الإيمان ليس ككلمة تاريخية حية، بل
محصور ضمن نظام فلسفي مغلق. "وحده"
الكتاب المقدس Sola
Scriptura يبحث، في
المقابل، عن منشأ الإيمان النقي الطاهر كما
هو موجود أصلاً في "كلمة" الكتاب المقدس.
بدت الميتافيزيقا بذلك كمعطى سابق مأخوذ من
مكان آخر، على الإيمان أن يتحرَّر منه بحيث
يتمكن مجددًا من أن يكون هو نفسه وليس غيره. وبتطرف لم يكن ممكنًا
للإصلاحيين رؤيته، أخرج كانط نفسه من هذا
البرنامج بقوله إنه كان عليه "إزاحة
التفكير جانبًا ليفسح مكانًا للإيمان"،
وأرسى الإيمان إرساءً نهائيًّا في "العقل
العملي"، ثم أنكر عليه الدخول إلى الواقع
بشكل عام. جلب اللاهوت الليبرالي في
القرنين التاسع عشر والعشرين موجةً ثانية في
برنامج "نزع الهلينية"، كان ممثلها
الأبرز أدولف فون هارناك. وعندما كنت طالبًا
في السنوات المبكرة من عملي الأكاديمي، كان
هذا البرنامج يعمل بقوة في اللاهوت
الكاثوليكي. إن تمييز پاسكال ما بين "رب
الفلاسفة" و"رب إبراهيم واسحق ويعقوب"
كان نقطة الانطلاق. وقد حاولت أن أناقش ذلك
عِبْرَ محاضرتي الأولى في جامعة بون في العام
1959 – ولا أريد أن أتناوله من جديد، ولكنني على
الأقل أريد، بمنتهى الاختصار، استخراج
الجديد الذي ميَّز الموجةَ الثانية من موجات
التخلص من الهلينية عن سابقتها. كان لب الفكرة عند هارناك هو
العودة إلى يسوع الإنسان البسيط وإلى رسالته
الخالية من التعقيد التي تتفوق على جميع
اللاهوتيات والهلينيات: هذه الرسالة البسيطة
تعبِّر عن القمة الحقيقية لتطور البشرية
الديني. فالمسيح تنازَل عن لاهوت العبادة
لصالح الأخلاق، وهو في نهاية المطاف والد
الرسالة الأخلاقية المتصالحة مع الإنسان. وهكذا فإن الأمر في الأساس
هو وضع المسيحية في تناغُم مع العقل المتطور،
بحيث تتحرر من العناصر الفلسفية واللاهوتية،
وإدخالها في انسجام مع الإيمان بألوهية
المسيح ووحدة الثالوث الرباني. ومن هذه
الزاوية، قام التفسير النقدي التاريخي للعهد
الجديد بترتيب علم اللاهوت من جديد وإعادته
قشيبًا إلى رحاب الجامعة. فاللاهوت عند
هارناك تاريخي في الأساس، وعلمي إلى
هذا المستوى من الصرامة. أما ما كَشَفَه
وحقَّقه على طريق نقد المسيحية فهو مصطلح "العقل
العملي" وجعله مقبولاً وسائغًا في الوسط
الجامعي. على خلفية ذلك، يتوضَّع
التحديد العصري للعقل مثلما وَجَدَ تعبيره
الكلاسيكي في نقديات كانط. لكنه في غضون ذلك
صار أكثر تطرفًا، متأثرًا بتفكير علوم
الطبيعة. وباختصار، فإن هذا المفهوم الحديث
عن العقل يرتكز على تركيبة ما بين
الأفلاطونية والتجريبية أكَّدها النجاحُ
التقني. فمن ناحية أولى، افترض البناءُ
الرياضي للمادة عقلانيتَه الداخلية التي
تجعل فهمه واستخدامه ممكنين وفق الشكل الذي
يؤثر فيه – وهذا الافتراض المبدئي يمثل
العنصر الأفلاطوني في فهم الطبيعة المعاصر؛
ومن ناحية ثانية، يدور الموضوع حول إمكانية
توظيف الطبيعة في خدمة أغراضنا، حيث إن
الإثبات أو النفي في التجربة هو الذي يفرز
اليقين. إن التوازن بين كلا القطبين يمكن له
أن ينحرف: فقد يتركز الثقل في جهة واحدة أو في
الجهة الأخرى المقابلة لها. وإن أحد المفكرين
الوضعيين المتصلبين، وأعني به جاك مونود J. Monod،
كان يصف نفسه من أتباع الأفلاطونية أو من
أتباع التجريبية. ترتَّب على هذا التحليل
اتجاهان أساسيان حاسمان بخصوص مسألتنا: الأول
هو أن شكل اليقين الناتج عن الاتفاق بين
الرياضيات والتجريب هو فقط ما يسمح لنا
بالتكلم عن العلمية، والثاني أن ما يريده
العلم يجب أن يقع تحت هذا المقياس. وتحاول
العلوم الإنسانية، كالتاريخ وعلم النفس وعلم
الاجتماع والفلسفة، أن تتقارب مع قانون
العلمية هذا. لازال من المهم بالنسبة إلى
تفكيرنا أن نعلم أن طريقة كهذه في التفكير
تستبعد مسألة الله وتتركها تبدو وكأنها مسألة
لاعلمية أو ما قبل علمية. ونحن نقف بهذا أمام
تقليصٍ لدائرة العلم والمنطق لا بدَّ يكون
موضع نقاش – وسوف نعاود الحديث عن هذا
الموضوع. علينا أن نبين في غضون ذلك أن
المحاولة التي تتفرع عن وجهة النظر هذه والتي
تريد الحصول على اللاهوت بطريقة "علمية"
لن تُبقي فيه إلا على جزء زهيد مسكين من
الديانة المسيحية. بل علينا أن نقول أكثر من
ذلك: إن الإنسان نفسه سوف يُختزَل في هذه
الحالة، لأن المسائل الإنسانية البحتة التي
تدور حول أصلنا ومنتهانا، مسائل الدين
والأخلاق، لا يمكن لها أن تجد لنفسها مكانًا
في فضاء العقل المشترك المحدَّد بالعلم،
وعليها أن تُنقَل وتعود إلى الذات. تقرِّر الذات بخبرتها ما
الذي يبدو في الدين محمولا ًبالنسبة إليها.
وإن الوعي الذاتي يصبح في النهاية هو
الجهة المخولة أخلاقيًّا؛ ولكن قد يخسر الدين
والأخلاق قوتهما المشتركة ويسقطان في
المزاجية. تمثل هذه الحالة خطورةً على
الإنسانية: إننا نرى أن ما يهددنا من أمراض
الدين والعقل يجب إزالتها حيثما يكون العقل
ضيقًا، بحيث لا تعود مسائل الدين والأخلاق
تابعة له. أما ما يبقى من المحاولات الأخلاقية
لقواعد علم النشوء وعلم النفس وعلم الاجتماع
فهو، بكلِّ بساطة، غير كاف. قبل أن أصل إلى النتائج
النهائية التي أريد استخلاصها من ذلك كلِّه،
سوف أتطرق باختصار إلى الموجة الثالثة من
موجات "نزع الهلينية" التي لا تزال جارية
إلى يومنا هذا. فيما يتعلق بالتلاقي مع هذا
التعدد من الثقافات يمكن للمرء اليوم أن يقول
بطيبة خاطر: إن ما حدث في الكنيسة القديمة من
جَمْع بين المسيحية والإغريقية كان أول تطعيم
ثقافي للمسيحية – تمازُج لا تسمح الثقافات
الأخرى بتبنِّيه، ومن حقِّها علينا العودة
إلى ما وراء هذا التمازج، إلى سفارة العهد
الجديد البسيطة، لكي نتمكن من إعادة تطعيمها
مرة أخرى. لا يمكن ببساطة اعتبار هذه الفرضية
مغلوطة، وإنما تقريبية وغير دقيقة، لأن العهد
الجديد كُتِبَ بالإغريقية ويحمل في ذاته هذا
التلامس مع الروح الإغريقية التي نضجت في خضم
التطور المضطرد للعهد القديم. ثمة جزمًا
قطاعات في عملية نشوء الكنيسة القديمة يجب
تحاشي دمجها في الثقافات الأخرى، ولكن
القرارات المبدئية التي تمس العلاقة بين
الإيمان والبحث عن العقل الإنساني تلحق بهذا
الإيمان نفسه وبما يقتضيه من نموٍّ وانتشار. أصِلُ بهذا التفكير إلى
خاتمة المطاف. إن هذه المحاولة في نقد العقل
المعاصر نقدًا ذاتيًّا وفق خطوط عريضة لا
تتضمن مطلقًا مفهوم وجوب العودة إلى الوراء،
إلى ما قبل مرحلة التنوير، وإسقاط قناعات
الحضارة الحديثة. إن حجم التطور الروحي
الحديث ينبغي أن يُعترَف به، دون الغضِّ منه
أو الحط من قدره. فعلينا جميعًا أن نعترف بفضل
ما أُهدِيَ إلينا من الإمكانات التي أفادت
الإنسان ومن الارتقاءات التي طرأت على
البشرية. فالأخلاقية العلمية هي، فيما عدا
ذلك، إرادة الخضوع أمام الحقيقة، وهي من
هذا الجانب تعبير عن الفحوى التي تنتمي إلى
القرار المبدئي في الدين المسيحي. إن القصد ليس التراجع إلى
الوراء ولا النقد السلبي، وإنما توسيع
مصطلح العقل واستخدامه. ومع كلِّ حبورنا
بالإمكانات الجديدة المطروحة أمام الإنسان،
فإننا نستشرف أيضًا المخاطر التي تبرز من هذه
الإمكانات، وعلينا أن نتساءل كيف نستطيع أن
نمسك بزمامها ونكون أسيادها. ولن يقيض لنا
النجاح في هذا المسعى إلا إذا تلاقى العقل
والإيمان بأسلوب جديد، وإذا تخطينا الحد
الذي يفرضه العقل على ما تنفيه التجربة
واستطاع العقل من جديد الامتداد على كامل
مداه. ويكمن اللاهوت في هذا المعنى، ليس
باعتباره نظامًا تاريخيًّا بشريًّا، وإنما
كلاهوت حقيقي، أي كتساؤل عن عقلانية
الإيمان في الجامعة، يدخل في الحوار العلمي
الواسع. بهذا الشكل فقط سوف نكون أهلاً
لمباشرة حوار حقيقي نحتاجه بإلحاح بين
الثقافات والأديان. إن الاعتقاد السائد في
العالم الغربي هو اعتبار المنطق الوضعي
شموليًّا، وكذلك أشكاله الفلسفية الملحقة به.
ولكن ثقافات العالم المتعمقة في الدين تعتبر
أن هذا الاستبعاد للإلهيات من شمولية العقل
هو مجافاة لأكثر قناعاتها عمقًا وتجذرًا. إن
العقلانية التي تصم آذانها عن كلِّ ما هو
إلهي، فتطرد الدين خارج مجال الثقافات
الثانوية، هي عقلانية غير مؤهَّلة للدخول في
حوار الحضارات. ومع ذلك فإن المنطق العلمي
الحديث – كما حاولت تبيانه – يحمل في طياته،
مع عنصره الأفلاطوني المستوطن فيه، سؤالاً
يتجاوزه ويتجاوز إمكاناته المنهجية، وعليه
هو نفسه أن يتقبل ببساطة البنيةَ العقلية
للمادة والتخاطب بين روحنا وبين البنيات
العقلية السائدة في الطبيعة كمسلَّمة
مفروغ منها يرتكز عليها طريقُه المنهجي. لكن
السؤال هو: لماذا يوجد مثل هذا الواقع الذي
يجب على العلوم الطبيعية أن تَكِلَ المهمةَ
فيه إلى مستويات أو وسائل تفكير أخرى – أي إلى
اللاهوت والفلسفة؟ إن الاستماع إلى الخبرات
الكبيرة وإلى وجهات نظر المنقولات الدينية
للإنسانية – وأخص منها العقيدة المسيحية –
يشكل منبعًا معرفيًّا ثرًّا للفلسفة،
وبطريقة أخرى للاَّهوت أيضًا، منبعًا يأبى
أيَّ اختصار أو اختزال غير مقبول لاستماعنا
وإجابتنا. تحضرني هنا كلمة سقراط
لفيدون. ويلمس المرءُ في بداية حوارهما
كثيرًا من الآراء الفلسفية المغلوطة: من
اليسير أن نفهم أن أحدًا ما – بدافع من الغضب
والحنق على هذه الكثرة من المقولات المغلوطة
– قد يصرف ما تبقَّى من عمره في مقت كلِّ
المقولات عن الوجود البشري وهَجْوِها، ولكنه
سوف يحرم نفسه من حقيقة الموجودات، وعليه أن
يقاسي ضررًا كبيرًا. بقي الغرب زمنًا طويلاً
يهدِّده الانحرافُ عن المسائل الجوهرية في
العقل، ويمكن له أن يعاني "ضررًا كبيرًا"
من جراء ذلك. إن شجاعة توسيع العقل وعدم رفض
عظمته هو البرنامج الذي ينبغي أن يتبناه
اللاهوت الملتزم بإيمان الكتاب المقدس عندما
يخوض جدال واقعنا الراهن. "إن محاكمة الأمور بعيدًا
عن المنطق والعقل [اللوغوس] مخالفة لطبيعة
الله"، كما قال مانويل الثاني لمحاوِرِه
الفارسي، منطلقًا من تصوُّره المسيحي عن الله.
وإلى هذا اللوغوس العظيم، إلى هذه السَّعَة
من العقلانية، ندعو شركاءنا في حوار الثقافات.
وإن المهمة العظمى أمام الجامعة هي السعي
المستديم للعثور عليه من جديد. ***
*** *** الترجمة
عن الألمانية: د. منذر عمران [1]
ترجمة النص الكامل للمحاضرة
التي ألقاها الحَبْرُ الأعظم بنديكتوس
السادس عشر في جامعة ريغنسبورغ الألمانية،
ولاية بافاريا، بتاريخ 12/09/2006. [2]
ربما كان في ذلك أيضًا تفسير
لحادثة اليونانيين الذين صعدوا إلى
أورشليم وطلبوا من فيلپُس التلميذ رؤية
يسوع، فذهب هذا الأخير وأخبر أندراوس، وذهب
كلاهما فأخبرا يسوع الذي أوَّل الحادثة،
على ما يظهر من النص، كـ"علامة" على
مجيء الساعة التي "فيها يُمجَّد ابن
الإنسان" (إنجيل يوحنا 12: 20-23). فهل كان
يسوع يرتقب انتقال رسالته إلى اليونانيين،
الذين سوف يُحسِنون استقبالَها أكثر من بني
قومه، لكي يتمِّمها؟ سؤال يستحق التفكر فيه.
(المحرِّر) [3]
قارن بالرسالة إلى أهل إفسُس 3: 19: ["لهذا
أجثو على ركبتيَّ للآب – فمنه كل أبوة في
السماء والأرض – وأسأله أن يؤيِّدكم بروحه
على مقدار سَعَة مجده ليقوى فيكم الإنسانُ
الباطن، وأن يقيم المسيحُ في قلوبكم
بالإيمان، حتى إذا ما تأصَّلتُم في المحبة
وأُسِّستُم عليها أمكن لكم أن تدركوا
وجميعَ القديسين ما هو العرض والطول والعلو
والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق
كلَّ معرفة، وتتسعوا لكلِّ ما عند الله من
سَعَة." (إفسُس 3: 14-19)] [4]
قارن بالرسالة إلى أهل روما 12: 2: ["إني
أسألكم إذًا، أيها الإخوة، برأفة الله أن
تجعلوا من أنفسكم ذبيحةً حيةً مقدسةً
مَرْضيةً عند الله – فهذه هي عبادتكم
الروحية. ولا تتشبهوا بهذه الدنيا، بل
تبدَّلوا بتجدد عقولكم لتميزوا ما هي مشيئة
الله وما هو صالحٌ وما هو مَرْضي وما هو
كامل." (روما 12: 1-2)]
|
|
|