أدونيـس ومقـام الحـيرة

قراءة في أغاني مهيار الدمشقي

 

وفيـق سـليـطـين

 

ينطوي مفهومُ "الحيرة" في المدوَّنة الصوفية على كثير من الغنى والتعقيد والتشابك الدلالي. ويمكن القول إنه يتشبع بدلالة إيجابية فاعلة، مركَّزة، ذات قدرة عالية على الدفع والتحويل: فهو يتكشف عن ضرورة نقد الخبرة الذاتية المتكونة داخل التجربة الصوفية، بما يسهِّل انعكاسَها على نفسها لمبارَحة فضائها المتشكِّل، وتخطِّي حدودها المتملَّكة، والانفتاح على أفق المطلق، في تعدُّده وشموله ولانهائيَّته. وذلك ما يؤسِّس للمعرفة/الحيرة في أفق التجاوز، لا في واقع التملك والثبات. ولكن هذه المعرفة المتوثبة دائمًا هي وقفٌ على أهل الاختصاص، يتمثل أنموذجُها الأعلى في "القطب" و"الإنسان الكامل". فكيف مَخَضَ أدونيس الكلام الصوفي في هذا المنحنى وأعاد تركيبَ عناصره في أغاني مهيار الدمشقي؟

من الملاحَظ، على العموم، استخدامُ أدونيس المتواتر للحيرة بلفظها، أو بمرادفاتها التي تنتسب إلى الحقل الدلالي نفسه أو التي تقترب منه وتتقاطع معه؛ ويتم حضورها أيضًا بظلالها المعنوية التي ترشح بها علاقاتُ التشكيل، دونما ذكر لها بلفظها أو بما يرادفه ويوازيه. وبناءً على ذلك، يمكن لنا أن نتناول توظيف النصِّ الأدونيسي لها في الأغاني وفق المستويات المشار إليها.

فعلى المستوى الذي يصرَّح فيه بدالِّ "الحيرة" ويتوالى ذكرُه وحضورُه في التركيب الذي يستدعي سياقاتِه السابقةَ في الكتابة الصوفية، نقرأ مثال المقطوعة التي تتخذ من مفردة "الحيرة" عنوانًا لها في قوله:

لأنه يحار

علَّمنا أن نقرأ الغبار

لأنه يحار

مرَّتْ على بحارنا سحابهْ

من ناره، من عطش الأجيال

لأنه يحار

أعطى لنا الخيال

أقلامه، أعطى لنا كتابهْ

في العنوان الذي يَسِمُ النصَّ بـ"الحيرة"، نجد أن الإشارة تنصرف إلى إفادة معنى الكمال والإطلاق: فهي ليست مجرد "حيرة"، وإنما هي الحيرة الكاملة في صفتها. وفيها يَرِدُ الفعلُ "يحار" ثلاث مرات، ويتكرر التركيبُ في ثلاث جمل، على شكل علاقة سببية تعليلية يَثبُتُ حدُّها الأول – وهو الحيرة – ويتغيَّر الثاني – وهو النتيجة المسبَّبة عن الأول – لكنه التغير الذي يقوم داخل الحقل الدلالي نفسه. فهو، في المحصلة، تغيُّر يرتد إلى ثبات ضمن الإطار العام المشترك.

ويلاحَظ، من جهة أخرى، في نظام تشكيل العبارة، أن العلاقة بين الفرد والجماعة تتقرر على نحو يعلو فيه الفردُ ويغدو مصدر استلهام، في حين تبقى الجماعةُ على سلبية الانتظار، لا تُجاوِز حدَّ الانفعال والاستمداد. وفي ذلك ما يصل ضمير الفرد المتفوق بـ"الولي" و"القطب" الذي تتخطَّى فاعليتُه إطار الجماعة الإنسانية، لتغدو فاعليةً تشحن الطبيعةَ الكونيةَ وتؤثر فيها.

ولما كانت الأحداث النصِّية، في المثال الذي أوردناه، تتعرَّف بنسبتها إلى الفرد المختار ذي الفاعلية المطلقة، تعيَّن أن الفرد هنا يتخذ منزلةَ "العلة الأولى" التي يتوقف عليها مصيرُ الجماعة. نتيجة ذلك أن الحيرة المنسوبة إلى الفرد المختار هي التي تشحن الحياة، وتصنع التاريخ، وتضيء العالم. وإذا كانت تبدو هي التي توسع حدود المعرفة وتفتحُها على اللانهاية، فإنها، في الوقت نفسه، تظهر بوصفها مستعليةً على التاريخ والبشر، تدور في حلقة نفسها، ولا تتحدد بأية أُطُر مرجعية.

مستويات الحيرة

إن الحيرة الأدونيسية، إذن، تتناتج بمقتضى حركتها الداخلية – ذلك أنها مسكونة بنزوعها إلى المطلق ودورانها عليه. والشاعر، كما يتبدى فيها، هو صوت هذا المطلق وحضورُه في التاريخ؛ ولذلك فهي غير معنيَّة بالكائن النسبي الذي لا يحضر إلا بوصفه متكأً هشًّا، آلةً لتكشُّف المطلق، وإشارةً لحظية عابرة إليه. وهذا الدوران في فلك المطلق يجعل المعرفة تنغلق على ذاتها داخل مدارها الخاص، في الوقت الذي تبدو فيه جامحةً كلَّ الجموح. ويعني ذلك أن لحظة التحول تُرَدُّ إلى المسار الثابت المتصل، لأن منطق الحركة محسوم، مقرَّر، ومؤمَّن عليه، قبل المباشرة وفي معزل عن التجربة التي يتقدَّمها وينطوي على تعيين منحنياتها. وفي هذا السياق، نجد أن حيرة الأغاني تعيد إنتاج الحيرة بالمعنى الصوفي في نظام المعرفة الذي تنتسب إليه. وكما أنتجت هناك "القطب" و"الإنسان الكامل"، مركز الكون، كذلك هي تنتج هنا الشاعر الفرد، الذي يحول النسبية إلى الإطلاق، في صورة العارف والنبي والشَّمَني Shaman. فهو، إذن، جماع المطلق والمقيَّد، الكلِّي والجزئي: الإنسان–الإله.

أما في المستوى الذي تحضر فيه "الحيرة" بما يرادفها ويُشعِر بظلالها ومعانيها الحافة، فيمكن أن نشير إلى مفردات مثل: "الدهشة"، "التيه"، "المتاه"، "الذهول"، "الضياع"، إلخ، كما في المثال التالي:

الضياعُ الضياعْ...

الضياعُ يخلِّصنا ويقود خُطانا

والضياعْ...

ألقٌ وسواه القناعْ.

ومن ذلك أيضًا ما نقرأه في مكان آخر:

لأنني أبْحرُ في عينيّ

قلتُ لكم رأيتُ كلَّ شيّ

في الخطوة الأولى من المسافة.

يتقدَّم "الضياع" في الشاهد بوصفه مستوى من مستويات "الحيرة": فهو انخلاعٌ من يقين المنجَز والمتحقق ومغامرةٌ بالماهية لمعانقتها معانقةً أكمل وتحقيق امتلائها. ولهذا كان "الضياع" الأدونيسي قرين الألق والإشعاع ومؤشِّر الانعتاق من جحيم الواقعة التي تضرب سياجَها حول الذات والعالم. لكننا إذا ما قرأنا هذا "الضياع" في ضوء الشاهد الآخر، تبيَّن لنا أنه "الضياع" المرتسم داخل فضاء المعرفة بالكلِّ الثابت وفي أفق الصيرورة المقيَّدة بحركتها الدورية، التي تتحدد معها النهاية في لحظة الابتداء.

على أية حال، فإن هذا المستوى من القول يعاد فيه امتصاصُ الحقل الدلالي للحيرة، ويظهر فيه من جديد التقابلُ بين الفرد الرأي وركام المجموع أو الحشد في كتلته المتجانسة، بينما يجري التشديد الأسلوبي على "الضياع" في نحو التكرار الذي يركز قوة التوليد المعرفي للحيرة بالمفهوم الصوفي. والحق أن أدونيس – "ساحر الغبار" و"فارس الكلمات الغريبة" – لا يني يتحرك في أفق الإدهاش والغرابة والفرادة الصوفية، وإنْ كان يصوغ عالمًا مغويًا من الأزواج المتضادة والثنائيات الساكنة تحت ضغط السياق الصوفي في انشغاله بالمطلق ولوذانه به. وهو، في هذا المستوى، يبدي مقدرةً عالية على تطويع السياق القديم، بحيث يتوارى مفهومُ "الحيرة"، بينما يبقى إشعاعُه في مفاصل القول وفي ارتطام ذراته وتحوُّلها في شتى المستويات المكوِّنة للحقل الدلالي بطيفه الواسع.

في تتبُّع مستويات توظيف "الحيرة" في نصِّ الأغاني، يبدو واضحًا أن النصَّ الأدونيسي يتكون من امتصاص أنساق وتشكيلات نصِّية سابقة، يتشرَّبها ويعمل على تحويلها وإنتاجها من جديد في سياق رؤيته الخاصة، بحيث يغدو النص الحاضر هو الذي يتكلم ويبني موقعه المتميز عِبْرَ إعادة تنظيمه للعناصر التي يجري استثمارُها فيه. وذلك كله ينتج في لحمة نصِّية مركَّبة، متقنة، لا يستطيع الكشفَ عن عناصرها التكوينية والوقوف على تحولاتها إلا القارئ الخبير – ذلك أننا أمام نصٍّ لا يمنح نفسه إلاَّ للمكابدة الفنية والتبصُّر النقدي الذي يغوص في لجة "الحيرة" ويُقيم نفسَه في موطن السؤال.

خلاصة الأمر أن أدونيس استقدم مفهوم "الحيرة" من حقل التصوف، فأعاد توظيفَه في نصوص الأغاني بمستويات تناصِّية مختلفة، مستخدمًا قناع "مهيار" الذي يغدو بؤرةَ التشكُّل الشعري، ومركزَ البناء النصِّي، ومنطلَق الصرف والتحويل والتشابك الدلالي.

والذي يعنينا هنا أن موضوعة "الحيرة" تتركب على خاصية الخروج والانشقاق الفردي في شخصية مهيار. وذلك ما يعيد، على نحو ما، خاصية التفرُّد الصوفي – خروجًا، ومعارضةً، وتمردًا، وانشقاقًا – ويعمل على تفعيل أثَرِها في النصِّ الجديد بشحنِه وتخصيبِه بها، في الوقت الذي يردُّ فيه أثر التشكيل النصي الحادث عليها، ليحرِّض طاقتَها الإضافية الممكنة بفعل الاحتكاك الحواري المتعدد الجوانب والمتغاير الخواص، الذي يعيد بناء "الحيرة" من حيث هي طاقة إبداع وتجاوُز، تجبه الكتلة بالفرادة، وتنقض المؤسَّسة بالفرد، وتَكِلُ إليه، في تميُّزه الفائق وقوة حضوره الهدامة، شقَّ مجرى التاريخ، تاريخ الإبداع والاختلاف والمغايرة، المنوطَ بالحضور الريادي للفرد الأعلى، الذي تكون الحيرةُ المتأصلة فيه تأسيسًا للمعرفة النافية وتعيينًا لقوة السلب المتفرد جوهرًا لكلِّ إبداع.

اللاذقية، سورية

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود