رسَـالةٌ في الوَجْـه

علي جـازو

 

للحديث عن الوجه ينبغي وضعُه ضمن إطار. وما ذاك إلا لنحدِّد ملامحَه في دقة أكثر. أنْ نستضيف الوجهَ في بيت نفسه هو أن نمتلك الاستعدادَ الكافيَ لقراءة المتن ونقيضه. وقراءة وجه ما تأمُّلٌ طويلٌ في رحلة هذا الوجه حتى غدا وجهًا. كلَّما كان كلامٌ عن الوجه – وفي الوجه – استدعى ذلك بروزَ قناع. كأن الوجه وُجِدَ وارتحل ليعثر على قناعه الأصلح للوجه عينه والأشبه به والأطوع له. الوجهُ حفيظُ الحكاية، مدوِّنها بالإبر على جلد النظر، ومُعدِمها بالنسيان. ونحن لا نرحلُ إلا لنبحث ونرى، فنحظى بما نرحل لأجله. كل وجهٍ يرحل عثورًا على ما يكوِّن وجهَهُ – ملامحَ في دقةٍ مسنونةٍ تميِّزه لتحميه من سواه. لكنَّ بروز القناع – حظوة الوجه وجهًا – ضرورةٌ تكشف عن حاجةٍ إلى التستر والاختباء. نحن لا نتقنع إلا تخفِّيًا؛ وما نخفيه هو تمامًا ما نبحث عنه! هكذا يكون القناع "قلبًا" للوجه، وجهةً لحضوره الأبسط كمالاً والأعمق امتلاءً، الأرهف نفوذًا والأدق إلغازًا!

لا يكف الأدباء عن استعارة الأقنعة واستحضارها، مدحها وتسخيفها. استجلاء وجهٍ لا يكف عن استبعاده: شبيه نداء هَيدغِّر الذي يدعو إلى القرب، دون أن ينزع "مُناداه" من البعد! الغاية مختبئةٌ في عِرْق الغاية، والوجهُ، قناعًا، هو الخوف الأنقى والمرح الأرقى لقراءة القناع وجهًا. طموح ييتس إلى الوجه الذي كان له قبل أن يُخلَق العالمُ – في هذا السَّوْق – جديرٌ بالاقتناء كدليلٍ مربك. فالوجه–الغايةُ لم يتحقق بعدُ، وهو السابقُ الخَلْقَ نفسه، في انتظارٍ حيَّرَهُ قلقُ وكسلُ انتظارٍ مؤبَّد. لكن الوجه حافةٌ أيضًا، مرآةُ حبورٍ وحَدُّ آلام: منه الجفاءُ، وبه اللقاءُ، وعليه البكاءُ. جسرٌ–جرحٌ هو مسيرُ الوجه، عليه يُتبادَل – في اختلاطٍ شائكٍ – الوصلُ بالفصل.

نقول عادةً: كيف دارت أوجُه الحديث؛ ويقال: للحديث أكثر من وجه. الحديث، كلامًا، يفتح كلامًا آخر، يدور عِبْرَ "أوجُه" هي الأطراف التي شَمَلَها الكلامُ واحتواها في دوائره. يستوعب الوجهُ كلماتٍ ومعانيَ تطوف لتُستوضَح وتُدرَك. "وجوه الحديث" هي النوافذ التي تمكِّننا من النظر إلى منطق المحادثة وفحواها. النظر حاجةُ الوجه إلى الرؤية، والكتابة عبور الحرف – من حيث كونُه وجهًا تقصَّف في شكلٍ – إلى الكلام. الوجه يجمع الرؤيةَ إلى النطق (وهو مصاغٌ عضويًّا على هذا النحو؛ فبه آلتا العين والفم). وبتمديد التحديد الآنف وتوسيعه، يكون تألُّق الوجه في مدى قدرته على كتابة الأحلام. والحلم حاجة الشعر، كتدوين صمتٍ مراوغ، إلى الأقنعة. الكتابة هي وجه القناع الذي رأيناه ولم ندرك ما تستَّر خلفه. كلما كانت أقنعة – أي وجوه باترة – كانت كتابة. يؤدي القناع إلى خلاص الوجه عِبْرَ تلخيصه وحَصْره ضمن وجه واحد فقط. لكن القناع يمنح الوجهَ فرصةً ليكون غيره. القناع احتمالٌ فارِهٌ للتحول، لنزع الوجه وتبديله. والشعر هنا، احتمالاً فقيرًا لكنزٍ تالف، يوائم القناعَ في ضرورة التحول وسخاء التبديل. لذلك، ربما، يكون الشعر مكثفًا ومختصرًا، ملخصًا ومحصورًا داخل الغموض، سافرًا كقناع تلو قناع!

* * *

وُجِدَ القناعُ ليحضَّ الوجهَ على الحضور، لا لإخفائه، كما نفهم بديهيًّا عمل القناع؛ فالبديهي، في قول هيغل، أمرٌ غامض، والغامض صنو المغري. والحاجة إلى الأقنعة، على تنوعها العاهر، تصاعُد من ضرورة الوجه على الرغم من وحدته المنفردة. إن القناع امتناع للقراءة وحبسٌ، من جهة، حافزٌ ودافعٌ فضولَها، من جهة أخرى. لكن المقنَّع، باستتاره خلف أمان القناع وسكينته، يحوز على امتيازٍ أقدر لقراءة ما هو خارج وجهه. يفتح القناعُ مكانًا أرحب وأجرأ، محوِّلاً القناع نفسه – الذي هو حجاب – إلى جسر سريٍّ، خفيٍّ وظاهر، "عين ثالثة" ترى في الوقت الذي تمنع المقروءَ من رؤيتها. القناع – الفصل العابر –، عِبْرَ عينه، يتعرَّف في تحررٍ أكمل، بلا عبء كَشْفِ نفسه، حابسًا الآخرَ المقروءَ في سماته المتجمدة الثابتة. غير أن الوجه يخسر تحوُّله الخاص لحَبْسه في ثبات القناع وجموده. تتحرر العين – عين القناع – بتسلط الأخير على الوجه، جاعلاً من ملامحه صفةً واحدة، ومن رغبته في أن يرى ويحضن تجاوزًا لما هو بصدده إلى ما يتعلق بما هو خارج إطاره. والقناع، على الرغم من سلطانه، لا ينقذ الوجه بقدر ما يختبره في إجبارٍ غافر. فالوجه أداة رضوخ، عفَّة إسدالٍ مقيم، سؤالٌ في روحٍ راحلة – وكل رضوخ هو اتصال خامد مع الماضي الخامل. أما القناع – بكونه تحوُّلاً في الأساس – فأداة نشطة، حركةٌ واعدة إلى الأمام. القناع سلامُ وجودٍ حسيٍّ، وكل سلامٍ حسيٍّ رغبةٌ في نوالِ غدٍ آمن، ثمرة تعقب تحوُّلَ الوجه إلى سكينة خالصة، مع عدم إغفال حقيقة الوجه كحدثٍ مستمر، دون تأبيد الوجه في نهايته، أي جعل كلِّ ما للوجه حكايةً تعني الوجه، تحدِّده وتعرِّيه، توسِّع خفاياه وتمنحه الدفء، ليكون نفسه في نفسه، بذرةً تكتَّمتْ على ثمرةٍ خرجتْ من بذرتها. سمات الوجه، إذا ما انتبهنا في حذرٍ وحبٍّ، هي حيوان رحلة الوجه ذاتها. الوجه من الحسِّ إلى العاطفة، ومن الانفعال إلى توهُّج المصير، بتنقلاته الداخلية المحفورة بعمق، "يسجل الزمن تسجيلاً نوعيًّا". يملك الوجه طاقةً كامنة، بذرةَ فعلٍ في صيرورةٍ مرئية؛ وهو، إذ يتلقَّى أو يقدم قبلة، كلمة، إشارة ما، فإنما ليُدخِل إحساسَه إلى الفعل، وصورتَه إلى الفكر، وإشارتَه إلى وعي حسيٍّ يجسد الإشارة. من رغبة الوجه في الوجه إلى لحم الفناء في القلب، تتحرك الصورُ عِبْرَ أقنعةٍ شتى، لكنْ دائمًا بشهادةٍ هي الوجه! وإذا كان الوجه شجرةً – بل أصل كلِّ شجرة – فإن لاتناهي الثمار من لاتناهي الأقنعة. الوجه، بالنسبة إلى كامل الجسد، مساحةٌ قليلة. وهذه القلة الباهرة تصلح لإقامة أفضل التظاهرات التي يمكن لنا تحقيقها، وأسرع طريقة للاختباء – كعمل معاكس – خلف ما لا نجرؤ على فعله عادة. تنتهي الحياة بنفاد احتمالات الوجه، أي بتحوُّله إلى قناع أبدي. هكذا يكون الموتُ–القناعُ أكثر سطوةً وأقوى شعلةً في إطفاء ظلام كلِّ وجه. إنه يخفي، مرة واحدة وأخيرة، كلَّ ما كان وجهًا. فالموت قناعٌ مطلق على وجهٍ كان احتمالَ حياة مطلقة. ليس قناعًا ما لا يمكن أن يكون بعد الآن، بل قناع ما لا يمكن العودة إليه.

* * *

الوجه قمر الكائن، والقناع شمسه المهيمنة، لا تتأجل ولا ترحم! الموت–القناع سلطةُ المحو الكلِّية، القضاءُ المبرم على نوعية الوجه الظامئة وفرادته المُهانة. بالموت، ينعدم الفرق بين الوجه والقناع: فالأخير هو المعنى الحرفي للحياة، وكل معنى حرفي – بحسب قراءة لـهارولد بلوم – هو بالضرورة معنى ميت. الوجه، لا القناع، ذو خصوبة فعالة لاستعارات متوالية؛ وهو، كمرآةِ أرضية حيَّة ومهددة، يتواتر استعمالُها الجمالي رقمًا بلا عدٍّ، حينونة قناعٍ يُستعمَل مرة واحدة فحسب. فالقناع صلاحيةٌ متقدمة للتلف المتقدم، فيما الوجه استعدادٌ أثير ومذعور للفناء الحاكم. الوجه ينفعل، القناع لا ينفعل: لدى الأول قوةُ جذبٍ ونفور، وفي الثاني – شقيقًا كشكلٍ ملموس – عناءُ تحجُّرٍ وسكون. الموت في الوجه حركةٌ ضمن الوجه، والموت داخل القناع سقوطٌ خارج حدود القناع. يأخذ القناع صفاتِ الثبات والجمودية الساكنة من حيوية الوجه اليائسة؛ إنه يصدِّر الموت فيما يظل محتفظًا – على اقتدار شنيع – بِسِماتِه الثابتة دون تبديل. يتحمل الوجه – كترس في هيئة القمر – وجعَ التحوُّل، ومتعةَ التبدُّل، وصفاءَ التحرُّر الجوال. مغذيًا الموت، يفاتحه المسكن ومحل الإقامة. الوجه يغطي الموت، يكفره كستار حماية. خلاصًا في الجحيم، يتغذى الموت من صُلب أرض الوجه. وحالما يكتمل نموُّ الموت، ينضج الوجه متحوِّلاً إلى قناع!

* * *

ثمة حتمية فيزيائية في الوجه، بخضوعه الآنيِّ المباشر لكلِّ انفعال، لوحة ترسم دائمًا تبدلاتِها الدائمة. لكن الوجه، أيضًا، محلُّ تناقُضٍ ملتهب، مسحوبًا، على وتيرة عبء مرور الوقت، جهةَ اختفائه الفارغة. الوجه، على الرغم من سخاء تبدلاته، – وهو سخاء تائه، – يحمل اختفاءه. كأن الاختفاء (الزوال ضمنًا) هو نفاد طاقة الوجه منفردًا على تحمُّل حياته مجتمعة. والاختفاء تثبيت حاسمٌ للتخلص من الانفعال؛ إنه ادعاء يبرِّر انعدام الانفعال، لكنه ادعاءٌ ينجح في تقديم القناع – بدلاً من الوجه – كصورة تمتص كلَّ انفعال محتمل، ضدَّ كلِّ انفعال محتمل. القناع، من جهته، يتغذى من طاقة مستمرة مشغولة بعدم الانفعال، في أبدية قائمة على نَسْخ التماثل، على النقيض من التكرار النامي، في استعادة براءة الأبدي. والتساؤل المرتفع هنا: أليس انسجامًا إذا كانت بداهةُ حتميةِ الاختفاءِ من قوة ضرورة الانفعال؟! السؤال محيِّر، وفي الإجابة جلاءُ فقدان الوجه!

إن مقدرة القناع، في هذا المنح الجامد لعدم الانفعال، تبدو مقدرةً فذةً ومحرجة؛ ذلك أنه لا يخفي الوجه فحسب، بل يحوِّل "وجه الوجه" إلى خلود. القناع نورٌ مزدوج، والوجه مرآة ملاك. الوجه مسلوب، محتكَر، ومباح – عاهرة روحية –، فيما القناع سلطانٌ شَرِه، قوس ضرير في ظل غواية ضارية. من هذه الناحية – سلطة الإغواء الشَّبِقَة – يتلاقى القناعُ مع الغريزة تلاقيَ التكرار في الوجه. إن حاجة الوجه إلى قناع، تحت تأثير حاجته الأساسية إلى التستر والاختفاء، تعكس خضوعَ الجسد – القاهر الجميل – لشراسة الغريزة وطُهرها. ما يدعو إلى الريبة والقلق كامنٌ في الوجه، كنار في الخشب؛ بينما سلطة القناع تصدر من الأصل المباح، غير المنسوب سوى إلى براءته من كلِّ نَسَب. تبدو الأقنعة، لأول وهلة، على الرغم من جمودها وظاهر لافعاليتها، مرنةً في غرابة لا تخضع لغير التسلية؛ ذلك أنها متنقلةٌ دون قيد أو إملاء، ولا تتأثر بأيِّ شرط أو تأثير سوى كونها ذاتها تمامًا. إن كون القناع قناعًا فحسب لهو أنقى وأجمل من كون الوجه قناعًا. الوجه – نذكِّر مرة أخرى – بستانُ رضوخ؛ وكلُّ رضوخ هو نموٌّ نحو الماضي، أو بقول معكوس، جزئيًّا، لـموريس بلانشو: "القناع أداة عدوان، وكل عدوان هو حركة نحو المستقبل."

* * *

لا يدافع القناعُ عن الوجه بقدر ما يثبت كلَّ ما ليس وجهًا! يبقى القناع دون تغيير، مقدمًا أفضل الفرص لحدوثه، مغلقًا وحصينًا مثل دائرة زمنية. إنه لا يوجد مرة واحدة فحسب، بل يؤكد، في برهة التقنع ذاتها، ما يحدث دائمًا: الموت. مراقبًا من الداخل، يمكث الوجه – خفيًّا في حِمَى القناع – ناظرًا عِبْرَه إلى لوحة زواله الساطعة! يختفي الوجه لكي تكتمل الدلالةُ عليه في اختفائه؛ إنه هناك خلف القناع، مشعًّا كخريف صامت. للوجه حاضرٌ وماضٍ، مغطًّى بفسحة انتظارٍ للزمن الآتي (شبيه بطل سيدهارتا لـهيرمان هيسِّه، صاحب فنِّ القدرة على الانتظار!). فالوجه يتبدد في عكس ما يوحي به عادةً، في الوقت الذي يدرك فيه أنه ليس سوى وجه! هو ذا الوجه يتكلم، والقناع ينزع عن الكلمات صوتَها العاري، مختزنًا دلالتِها في جسم حنينه المتكتِّم. وتتجلَّى أهم قدرات القناع في قدرته على إسكات ثرثرة المرئي، محولاً شتاتَه إلى شعلة من الإصغاء العميق. أن تمنح هو أن تعطي الناظرَ قلبَ منظوره، بتمليكك إياه ما لا يمتلكه وحده. والقناع، بقدراته المزدوجة على التأثير، – في مقام صداقة مخلصة ومزعجة، – يعينُك بجعل المرئي صواب الكلام غير المنطوق؛ لكن المتكلم كلَّ حين، بشهادة الشيخ العارف محيي الدين بن العربي، "سواء نطقتَ أم سكتتَ فأنتَ متكلمٌ". بسيادة نزيهة – دون خمول العفَّة الشائعة كالوباء – يصفو المرئي (القناع نفسه) حاجبًا اللامرئيَّ (الوجه)، وينقلب الحَجْبُ إلى عطاء، والإخفاءُ إلى إظهار، وغير المرئي (الوجه خلف القناع) تكلُّمًا فريدًا! ذلك أننا – كلامًا لا يدقُّ ولا يرقُّ – لا نستطيع تطويعَ الكلام ونَسْلَه حرفًا من جرح حرفٍ دون قدرة على الإصغاء؛ والإصغاء لا يحدث ولا يحرث سوى في أرض صامتة بعد تجاوُز عتبة متوهجة هي القناع!

* * *

يستكمل الوجه أوجُهًا عديدة، يتبدل، ينمو، يسافر، مستبدلاً بالذهن الصورةَ، وبالتذكر الخوفَ، وبالظلِّ الفعل. حائزًا وحائرًا في انعكاسات بلا حماية، ينجز الوجهُ ما تفعله المرآة: الإظهارَ المباشر والآنيَّ لما يَعْبُر ولا يقيم، لما يمضي تاركًا وهجَه ينحلُّ في الوجه–المرآة الحيادية، كشجرة من صور لا تنتهي ولا تثبت. أما القناع، على الرغم من ثباته المعتاد، – شبيه تعاليم ديانة صارمة، – فيستولد القناعَ ذاته، ناجحًا في استعادة الحَجْب ومتعة الإضمار الخاصة؛ والخاص والمضمر هما ما يجدر بالعناية والتأليف. يعكس الوجهُ ما يحوطه من عبور هشٍّ، ويخزِّن القناع مداه الحاكم، مؤبِّدًا المنسيَّ والمتروكَ والمهمل، موحِّدًا ما لا يبحث عن توحُّدٍ قط! القناع من نسيج الوقت، والوقت سلطان أعمى على حدود عمياء!

القناع نوم الوجه. لا ينام إلا الكامل، مثلما لا يسقط سوى الناضج. إن النوم – دون حَبْسِه في معناه الشائع – هو التورد الأنضر والتجدد الحليم. أن ننام هو أن ندخل في غياب الوجه، راحلين من وجهنا إلى وجهنا نفسه، بعد أن سُلِّم إلى قوة القناع الآمنة الحارسة وحيطته. "النوم وردة"، يقول الفرس. و"الوردة" هنا هي كمال الحضور المنبثق من فداحة الغياب الكلِّي. "لا لذَّة للحضور إنْ لم يكن الغياب." والقناع، كأثرٍ مؤوَّلٍ عن الوجه، يختصر الغيابَ كفتنةٍ تحكم الحضور. فقوة الغياب – الحافظِ كثافةَ الحضور اللذيذ ومانحِها – من قوة القناع الحاجب، المُظهِرِ تحوُّلاتِ نديمه المختبئ فيه، حالمًا بالوجه الآتي، مثل أمٍّ تهدهد حلمَ جسدها بعد أن غدا طفلاً بين يديها! ذلك أن الحضور، كجوهرٍ غضٍّ، هو خاصية النفس دون انقسام (أو بقول النفَّري في "موقف الأدب": "... وقال لي: رأس المعرفة حفظُ حالِكَ التي لا تقسمك"). إنه نومها الخالص، متوحدًا في النضوج الكريم، ساقطًا مثل وجه داخل عين القناع!

في حيادٍ فعالٍ، كحيوية لامرئية، يحيا القناع، مثله كَمَثَلِ ملاك. والملاك نظامٌ قاسٍ من إشاراتٍ خافقة، دون اعتبار، هنا، لموضع ألفته الدينية المنقذة من كلِّ خيال. فجلالُ الملاك من جماله، وجمالُه من ثرائه الطيفي الرقيق، وثراؤه من فقدان قدرتنا على رَسْمِه ضمن تصنيفٍ حابس. يشترك القناع مع الملاك من حيث كونهما بلا "وجه". وافتقارُهما إلى الوجه بحثٌ عن الوجه في الوجه. وحدهم "الفقراء" – وجوهًا بلا ملائكة، وأقنعةً دون وجوه – قادرون على حيازة فكرة جديدة عن الوجه، كملاكٍ خائف خلف قناع مرتجف!

عندما يفكر الشاعر من منظور القناع، بدلاً من رؤية الوجه، فإن جهد تذكُّر الوجه يصبح رغبةً لإرادة الكشف، وينحرف عملُ الشاعر متحولاً إلى استبطان وحدس. وبدلاً من تكرار قراءة الوجه، يؤوِّل الشاعرُ فكرةَ القناع كوجه! إن الشاعر ذا الطبيعة الوجهية محاصرٌ بلعنة التكرار البليد. ولئلا يسقط الشعرُ في فخاخ التشابه السهلة، على "روح الجمال" أن تؤمن بالقناع إيمانَها بالكلمة، مستقلةً عن شكلها وصوتها، تلقي قناعًا على براءة شكلها وسحر صوتها!

* * *

القناعُ ذكاءٌ كالنهار. صحْوُه، مآلاً فاتنًا، من جسد أضناه العشقُ فكَشَفَه، وحالُه حالُ الفصل الثكل بالنور. وجهًا، يبدو عبور الوقت قياسًا إلى صوابه النشوان مرورًا بلا عبءٍ! فالقناع ازدحام الخلق المتراكم، القناعُ ندُّ التعاقب المحتال، وكتمُ سرِّ الخلق المستمر – بلا معنًى يناقض التعاقبَ وينفيه – هو الكَتْمُ الجدير بفنِّ الشعر! للقناع صمتُ آلهة جبارة، والصمتُ – بين شقيقاته الستِّ من ليل ونهار – نظامُ احتفال فريد! الله قناع الله. وبكونه عديم الحاجة إلى الوجه، يعادل إلغاءَ رَدْمِهِ بالتذكُّر. فضرورة الوجه الجمالية من شجاعة ضرورة النسيان! الله لا يخفي وجهَه: فهو ليس في حاجة إلى التستر والاختباء؛ إذ اللطف الشديد أداره وجهًا بلا وجه. فالحياء المقدام من مادة اللطف ذاتها، واللطف عين التستُّر. إن حضور الله، في كماله الباهظ، يجلو كلَّ قناع. وفضحُ القناع هو النظر دنوًّا ساطعًا في الوجه: خزانة الموت، عبَّارة الخوف والحب، كون النظرة، وفداحة الأبدي العابر "بنعالٍ من ريح"!

إن الوجه، محميًّا بالقناع ومخفيًّا به، هو التحقق الأنضج لما لا يمكن إخفاؤه بعد الآن، وما ينبغي حيازته شيوعًا مباحًا، كالهواء يتنفَّسه الحيُّ الجامدُ، قناعًا ذا رغبة متفتقة من نزع الظاهر إلى زواله، وحرز المأمول من خفائه إلى بيانه حتفًا رضاءَ حتف! الثمرة مزدوجةُ الوصف، لأن النشيد مزدوجُ التكوين!

يسرِّع القناعُ من فعالية الزمن، يلمُّه جارفًا ومكتملاً في لحظٍ واقفٍ شبيهِ حاضرٍ أبديٍّ. منه يتغذى الفردوس بجلاله الهالك! وَقْفُ الزمن هنا ذو قيمةٍ تراكمية، ومقياسٍ كمِّيٍّ عنيف، مرصوصًا كجثة في هيأة جنين. لا عودة. بذا يكون الموتُ الحاجةَ الانفعالية والخاتمَ الجوهريَّ لحياة القناع. آنُ الوجه، كلَّ حين، نظرةٌ في الموت. نظرة متوحدة، لكنْ ليست جامدة. يملك الوجهُ قدرةً على تحمُّل نفاذ الموت منه وإليه، ساكنًا قناعَه الأثير. يا لها من قدرة! – بل اشتهاءٌ لا يُرْجأ، كتفجُّر إغراءٍ قهَّار، كلحظةٍ فحسب، لا لنهاية الوجه في الخوف – فالوجه امتدادٌ لا ينفد. يسافر، ينأى، يغيب، يظهر، يختفي، يعود، في تحوُّلٍ معمار، في ترقُّبٍ جديد. يقدم الوجه فرصةً نادرةً لرقَّة حياةٍ وضَّاءة: عِبْرَ تأمُّل الموت كقناع، ثم عِبْرَ حيازته كطاقةٍ حاجبةٍ للوجه نفسه. الوجه يختبئ، ينستر. لذا يكون وجودُ القناع ضرورةً حياتيةً أكثر من كونه ترفًا رمزيًّا هاذيًا. وحده القناع ليس رمزًا، بل انتهاكٌ طروب لاعتياد الوجه وجهًا فحسب!

آب/أيلول 2006

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود