محـاولةٌ للتفكُّـر في الأخـلاق

ومَا يحدِّدها من مفاهيم وقِيَم

 

أكـرم أنـطـاكـي

 

"مَن أراد الوصول إلى قيم طاهرة لا عيب فيها، فليطلب من خلال القول الحق والفعل المستقيم، من خلال مساعدة المحتاج، حيثما وأينما يدعوه الواقعُ إلى ذلك... لأن الفرد، في هذه الحالة فقط، يصبح مضاهيًا لجيش بأكمله..."

– پيير كاردينال (حوالى العام 1230 م)

 

للتوضيح أقول، منذ البداية، إن هذا المقال الافتتاحي ليس عِظَةً، ولا يبغي تقديم حلول، بل هو مجرد محاولة متواضعة للتفكر في موضوع كان، ومازال، وسيبقى، شغلنا الشاغل: ألا وهو موضوع الأخلاق والخير والشر وعلاقتها بالإنسان وبالمجتمع. لذا لن يجد القارئ في هذه "المحاولة" أية حلول لمشكلاته، ولا أية توجهات كان يريدها، أو يتوقعها ربما. ما سيجده هو مجرد أفكار وتأملات قد تساعده – والله أعلم! – على تلمُّس طريقه في هذه الحياة، حيث الأمور في منتهى البساطة والتعقيد معًا.

وأبدأ من ذلك التصور – الذي قد لا توافقني غالبيتُكم عليه – القائل بأن الإنسان الطبيعي – "الإنسان البيولوجي" – هو، كالبهيمة، ذاك الذي يسعى إلى سعادته، بكلِّ صدق وعفوية، عن طريق إشباع رغباته الحسِّية المباشرة، وأنه، في حال كهذه، وبخصوص هذا الإنسان الذي هو في النهاية، إلى حدٍّ كبير ومتفاوت، كل واحد منَّا، تأتي القيم السائدة، المتجسدة في كلمات تعبِّر عن مبادئ خالدة، كالخير والشر، لتربكه في بعض سلوكه و/أو في أعماق نفسه. فهذا الإنسان الطبيعي يود، بكلِّ بساطة، الاستفادة من كلِّ ما تقدِّمه له الحياة دون تنبيه أو توجيه من أحد – وأقصد: دون أن يقول له أحدٌ إن ما يفعله هو خير أو شر، أو لنقل، صحيح أو غير صحيح – لأنه، بكلِّ عفوية، يريد التحرر من قيوده التي هي، غالبًا، تلك المفاهيم والقيم "الأخلاقية" التي تقيِّدنا جميعًا.

لكنْ... هل في مقدور الإنسان العيش دون أية مراعاة لتلك المفاهيم والقيم التي تعيقه وتحدُّ من عفوية رغباته وسلوكه؟ – وأقصد هنا مباشرة، وبكلِّ صراحة، مفهومَي الخير والشر. فتجاهُل الإنسان للأمر، عن وعي منه أو عن غير وعي، قد يقوده في النهاية إلى تصرفات مدمِّرة بحق نفسه وبحق الآخرين. فالحياة والعلاقات – الاجتماعية والإنسانية – بين البشر تفرض علينا دائمًا اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، سواء فيما يتعلق بأنفسنا و/أو بهؤلاء الآخرين – ما يعني أن على الإنسان الطبيعي الحسِّي، الكامن في أعماق كلٍّ منَّا، أن يتجاوز "عفويته" هذه وأن يتفكر بـ...

الأخلاق وعلاقتها بالإنسان وبالمجتمع...

لأن الأخلاق هي مجرد مفاهيم في نهاية المطاف؛ ولأن المفاهيم – جميع المفاهيم، كما قد يتفكر البعض محقًّا – لا وجود لها على أرضية الواقع الحسِّي للمخلوقات وللأشياء – ما يعني بأن تحديدها وتقديرها، على أهمِّيته، خاضع دومًا لتقويماتنا الذاتية و/أو الاجتماعية ولوجهات نظرنا الخاصة و/أو العامة. لهذا سأحاول، معكم، بكلِّ سذاجة، من خلال ما قد يبدو أنه جدول رياضي، تحديد...

علاقة الأخلاق بـ...

شخصية الإنسان

الحس الأخلاقي

الضمير

وكيف يؤثر المجتمع على...

من خلال الأهل والعائلة إبان مرحلة الطفولة.

من خلال الدين والمحرمات والعادات والتقاليد.

من خلال السلطة والقوانين والتربية الاجتماعية.

وكيف تؤثر الدوافع النفسية على...

من خلال اللاوعي، حيث البواعث والغرائز.

من خلال المحيط الاجتماعي، خاصة وأن الإنسان يخاف رفض الآخرين.

من خلال الذهن وملَكة التفكير.

وكيف تفعل الحوافز الأخلاقية في...

من خلال طباع الإنسان ونفسيته.

لأن الإنسان يخاف من العقاب في الآخرة و/أو خاصةً من عذاب الضمير.

لأن الإنسان حذر في النهاية، لذا فإنه يسعى دائمًا للتكيف مع الوسط المحيط.

فالحياة شاءت عبر مسيرتها – لحسن حظِّنا أو لسوئه – أن تُخرِجَ الإنسان من بيئته البهيمية الفطرية والبدائية وأن تجعل منه "كائنًا اجتماعيًّا". ومن هذه الاجتماعية تحديدًا انبثقت فعلاً، كما يقول بعضهم، جميع قيمنا الإنسانية والأخلاقية. وهذه القيم غالبًا ما تتجسد على أرض الواقع من خلال العادات والتقاليد. لكن التراث والعادات والتقاليد، إن تفكَّرنا بها جيدًا، ليست هي الأخلاق في نهاية المطاف، وإن كانت تفترض الانطلاق من قواعد تحدد ماهية "الخير" وماهية "الشر".

وهنا نلاحظ، خاصةً في مجتمعاتنا المحافظة، كيف يلجأ معظم الناس إلى التراث لتحديد فهمهم لما هو خير و/أو لما هو شر؛ كيف يلجئون إلى كبار السن التماسًا لتجربتهم وحكمتهم؛ كيف يلجئون إلى العادات والتقاليد بسبب رسوخها في أذهانهم ونفوسهم؛ كيف يلجئون – خاصةً – إلى الأديان وكُتُبها بسبب اعتقادهم بقدسيتها؛ وكيف يلجئون إلى مثال العظماء تأسيًا بهم. ولكن...

ماذا حين نلحظ، بكلِّ هدوء وموضوعية، واقع الخلافات والتناقضات العميقة بين المفاهيم والقيم والعادات والأديان الإنسانية المختلفة؟ وكذلك بينها جميعًا وبين الحياة؟

ماذا حين لا نلاحظ في مناقب العظماء وسلوكياتهم حالاتٍ تشبه ما نعيش اليوم وبات يتطلب حلُّه منا اتخاذَ موقف حاسم؟

ماذا حين لا يملك أكثرُنا، بالخبرة، الجواب–الحل الشافي للمشكلات التي تواجهنا؟

ماذا حين لا يقدم لنا الماضي حلاًّ؟

هنا لا مناص لنا من التفكر واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية انطلاقًا من الذات ومن الواقع الذي نعيش.

هنا، وانطلاقًا مما تعنيه مصلحة الحياة واستمرارها، قد يصبح التعارض واردًا – لا بل واجب أحيانًا – مع تلك المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وأديانها وقوانينها.

هنا، وانطلاقًا من ضرورات الحياة ومسيرتها، قد يصبح تطبيق العادات والتقاليد والقوانين والأعراف السائدة هو المسيء الأساسي إلى مسيرتنا الإنسانية.

ما يعني، كنتيجة ومحصلة، أن على الإنسان الحر أن يتفكر جيدًا وأن يكون مسؤولاً، عن وعي كامل، عن كلِّ قرار يتخذه ويتعلق بحياته وشخصه و/أو بحياة سواه وشخصه. لذا فإن أول ما يجب عليه أن يحدد، بكلِّ إرادة، انطلاقًا من قلبه وعقله وضميره، هو تلك القيم التي تبيِّن له، كما وللآخرين، ماهية...

الخير والشر...

لأن الموضوع معقد جدًّا، وليس حتمًا بالبساطة التي يتصورها بعضهم. فالرغبة الطبيعية في الخير والتطلع الصادق إليه لا تعني معرفة ماهيته. وهذا ما يبيِّنه لنا الواقع الذي يؤكد دائمًا بأن السير وراء انفعالاتنا وأمزجتنا لا يضعنا، في معظم الأحوال، مهما بلغ صدقُ النوايا، في الخانة الصحيحة.

لأن مفاهيم الخير والشر تختلط في كلِّ شيء، كما أنها نسبية في كلِّ شيء، وليست مطلقة.

ولأننا، إنْ تأمَّلنا بكلِّ صدق في الطبيعة وفي عالمنا، فإننا نجد أن لا شيء في هذا العالم جيد بالمطلق، كما أن لا شيء فيه، في المقابل، سيء بالمطلق.

فنحن في وسعنا – طبعًا – تجنُّب الألم. كما أن في وسعنا تجنُّب الشر والابتعاد عنه فيما يتعلق بأنفسنا أو بالآخرين، من خلال مراعاة القوانين والقيم السائدة واجتناب المحظورات. لكن ما لا نستطيع تقديره تمامًا، ما يبقى عرضةً للخطأ، هو ذلك المدى العميق وغير المنظور لتأثير أفعالنا – حيث من الممكن جدًّا أن يكون فعلنا، الذي قد يبدو جيدًا وإيجابيًّا جدًّا على المدى القريب، مأسويًّا من حيث نتائجه البعيدة، وأن يتسبب، بالتالي، في الكثير من الكوارث والآلام؛ وحيث من الممكن لما قد يبدو مباشرة بأنه مؤلم أن يكون، على العكس، إيجابيًّا جدًّا في المآل (كالعملية الجراحية التي تتسبب حتمًا في الألم لمن يخضع لها، لكنها تنقذ حياته في نهاية المطاف). كما أن من الممكن جدًّا أن يكون ما هو في نظر بعضهم خير شرًّا في نظر آخرين: فحرارة الشمس التي يستمتع بها المتنزِّه في البراري قد تكون مدمِّرة للفلاح الذي ينتظر الغيث ويتحين هطوله.

ونجد، أيضًا، أننا إن تفكرنا بكلِّ صدق، ومن خلال الواقع، في حقيقتنا الإنسانية، فإنه سرعان ما سنتلمس محدودية وجهات نظرنا بالمقارنة مع اتساع المجال الحيوي للمدى وللأثر الذي تتركه أفعالنا – الأمر الذي يطرح بإلحاح التساؤل التالي: كيف في وسعنا معرفة ماهية كلٍّ من الخير و/أو الشر وتحديدها؟ إنه لأمر في منتهى التعقيد، وفي منتهى الصعوبة حقًّا! فهاهنا، وفيما يتعلق بهذا الأمر تحديدًا، لا تكفي عفويتنا، كما لا تكفي النوايا الطيبة.

ونحاول، من أجل تحديد ماهية الخير، تلمُّس الشر وأشكاله وانعكاساته، فنجد، بكلِّ بساطة، ثلاثة مستويات مختلفة، معقدة ومترابطة في آن معًا:

1.     المستوى الأول هو ذاك الذي يحصر الشر بـالفعل المباشر – أقصد الفيزيائي – الذي يسبِّب الألم ويسيء إلى الأشخاص كمادة حية و/أو كجسد؛ أي بذلك الفعل الملموس الذي يجرح أو يشوه أو يقتل – ما يعني بأن كل ما يمس سلبًا واقع الكيان الإنساني هو فعل شرير ومدمر معًا. وهذا الأمر، إن اتفقنا حوله، يقودنا بكلِّ بساطة إلى المستوى الثاني الذي نعرِّفه بـ...

2.     الشر الأخلاقي الذي هو ذلك الفعل النفسي الجارح والمؤلم بسبب ما ينجم عنه من تحقير وإساءة وإحراج قد يصل إلى حدِّ التلذذ، وذلك لأنه العهر، أو لنقل، الشر الناجم عن التحلُّل؛ لأنه الفسق الذي قد يصل إلى حدِّ الاستمتاع بالخطأ، أي ما تسمِّيه الديانات السائدة بـ"الخطيئة" – ويقودنا تلقائيًّا إلى المستوى الثالث الذي هو...

3.     الشر الميتافيزيائي الناجم عن نسبية الأشياء وعن طبيعة عالمنا غير الكاملة، وخاصة منها ذلك المتعلق بـالطبيعة غير المكتملة للإنسان. وهذا هو، من منظوري، المستوى الأعمق والأهم، لأنه المسبب الرئيسي والأساسي لكافة "الشرور" وما نعانيه بسببها من آلام.

لكننا نجد، في المقابل، أن تلمُّسنا المباشر لماهية الشرِّ وطبيعته هو المولد الرئيسي لتطلُّعاتنا وللأحلام التي نسعى إلى تحقيقها – كتلك التي تدعو، مثلاً، إلى عالم أفضل وإلى إنسان أرقى وأكثر كمالاً؛ أي إلى عالم قائم على الخير، الذي يمكن لنا تعريفه، انطلاقًا مما سبق، بأنه كل ما يساهم ويساعد على صون الحياة وتطويرها ودفعها إلى الأمام، في مقابل الشر الذي هو كل ما يساهم في نفيها وعرقلتها وتدميرها.

ما يعني بأن الأخلاق الصحيحة ليست مستمَدة تمامًا من الماضي، ولا من عاداته وتقاليده ومفاهيمه وقوانينه، ولا من أديانه حتى – وإن كانت هذه جميعًا تتجسد حتمًا في بعضٍ كثير منه – بل هي كانت، وستبقى، ذلك المثل الأعلى الذي يتطور متصاعدًا ويسعى إليه البشر من خلال تفهُّمهم الصحيح لما هو مفيد لهم ولحياتهم.

وأقول، في ختام هذه "المحاولة"، إن كلَّ ما طرحناه يبقى، ككلِّ شيء في نهاية الأمر، وفي جميع الأحوال، نسبيًّا وخاضعًا للنقاش!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود