|
تلك
الأيَّـام (الجزء
الثاني) سيرة
الفلسطيني بين لوعة الفقد وبطولة الروح ليست
تلك الأيام – وهي السيرة التي يكتبها
الناقدُ الفلسطيني يوسف سامي اليوسف (صدر
منها جزآن اثنان والثالث قيد التدوين) –
سيرةً "ذاتية" بالمعنى الضيق للكلمة، بل
سيرة قهر الشعب الفلسطيني بأسره. إذ لقد
عايشنا فيها لوعةَ غياب الوطن وقد تركت
ندوبًا لا تفارق الروح. لهذا لن نستغرب أن
تكون الجملة الأولى من الجزء الثاني بعد
الإهداء مفعمةً بالشموخ، مغمسةً بالوجع
الروحي، نابضةً بالقلق الوجودي وعدم الرضا:
"كل شيء يُخِلُّ بواجبه تجاه روحي"[1]
– مما يذكِّرنا بصرخة پيدرو پارامو: "أيتها
الحياة، لا تستحقينني."[2] لقد أحس يوسف اليوسف بحصار
الحياة لروحه الحساسة، إذ أنهكتْه، منذ بداية
تفتُّح وعيه، الهمومُ والمسؤوليات، حتى يمكن
لنا القول إن "النكبة" تركت بصماتِها
السوداء على وجدانه. لذلك عايشنا في هذه
السيرة هول هذه الفاجعة: لم يستولِ الصهاينةُ
على فلسطين فقط، بل استولوا على الفرح
والجمال وكل المُثُل التي تتوق إليها الروح
الشامخة للعُلى! وقد أخبرنا اليوسف بنتيجةٍ
توصَّل إليها من خلال تجاربه القاسية مع
الحياة: قيمة أيِّ امرئ تحدِّدها درجة شعوره
بالاغتراب في هذه الدنيا! وقد هزَّ وجدانَه
قولُ المعري: "وما كان هذا العيش إلا إهانة"[3]!
لقد تبدت الحياة، في نظره، وسيلةَ تدمير
للنفوس الحساسة – إذ يغذيها الشر والزيف
والخيانة. فكثيرًا ما تنبع سعادةُ إنسان من
شقاء إنسان آخر، كما حصل في فلسطين. لهذا نحس
بأن تلك الأيام أشبه بقصيدة هجاء لزمن
أجوف، ينخره الشر، فيضيع فيه الوجدانُ
وتُنتهَك المشاعر. إنه زمن يحتفي بالقبح
ويدوس على الجمال! تضعنا تلك الأيام أمام
الأسئلة الجوهرية للوجود الإنساني التي
تؤرقنا، فنواجه أنفسنا بوعي أكبر، بعد أن
عايشنا، في سيرته، بعض الحقائق التي صهرتْها
الآلام ونغَّصها شعورُ الاغتراب والقرف من
عالم ماديٍّ يمتهن الروح ويؤلِّه المادة،
يتكالب على اللحاء ويتنكر للُّباب! بناءً على ذلك كلِّه، لن نستغرب
أن يختار يوسف اليوسف العيش في الظل، بعيدًا
عن الأضواء والجوائز، على الرغم من أهمية
إنتاجه النقدي وتنوعه: إذ لقد قدَّم للمكتبة
العربية حوالى عشرين كتابًا، تناول فيها
الشعر الحديث والتراثي والرواية والقصة
والتاريخ، ناهيكم عن ترجمة ممتازة لمختارات
من قصائد ت.س. إليوت. إن قراءة هذه السيرة تطرح علينا
هذا السؤال: كيف استطاع يوسف اليوسف
الاستمرار في هذه الحياة على الرغم من هذا
الدمار وهذا الظلم الذي عاناه، على الرغم من
سيطرة النزعة الانتحارية عليه منذ تفتُّح
وعيه؟! لقد شكَّلت الكتابةُ عزاءً يخفف شعوره
بالاغتراب. لهذا حدثنا في سيرته عن علاقة
فريدة مع اللغة قائلاً: [...]
إنني أتماهى معها إلى حدِّ الوحدة والالتحام.
وكثيرًا ما قلت في سرِّي: أنا اللغة واللغة
أنا. [...] إن اللغة هي منفاي الطوعي الذي
أتمطَّى في جوفه، بل أجد جميع ما يلزمني من
حاجات روحية. إنني أوثر العيش في داخل اللغة
ومجالها على الاتصال بالواقع الذي تستشري فيه
الشرورُ من جميع الأصناف [...].[4] لقد باتت اللغة (التي يطالعها
ويكتبها) "منفًى طوعيًّا" يقيه بؤس
الحياة وشرورها ويقدم له ما لذَّ للروح وطاب؛
ولهذا فضَّل العيش في فضائها الرحب على سجن
الحياة الواقعية. وكي لا يتبادر إلى الذهن أن
اللغة الغربية هي المنفى الذي اختاره، كما
فعل بعض المثقفين العرب، يسارع إلى تأكيد أن العربية
منفاه الاختياري، وذلك لما تمتاز به من "قدرة
استثنائية على تخريج الباطن ومدخراته التي هي
مقومات الماهية الإنسانية الأصلية"[5]. كما استطاع أن يجد في الكتابة
قارب نجاة ينتشله من بؤس عالم بشع، بحيث
يستطيع عندئذٍ أن ينتشل مَن حوله. لذلك سعى،
عِبْرَ الأدب والنقد، إلى بناء إنسان طَموح
ينهد إلى الكمال ويمتلك ذائقةً ناضجةً يستطيع
عِبْرَها اختبار قيم الحياة الخالدة (الجمال
والحرية والفرح والحق)، فيصبح أكثر حساسية
للذل والظلم. لذلك يرى أنه مطلوب من الشعر [...]
الإيحاء للناس بأن الحياة البشرية لا تملك أن
تتمتع بالأصالة، ثم بالقيمة، إلا إذا امتلأت
بالعزة والكرامة واحترام الذات البشرية
بوصفها الغاية النهائية للوجود كلِّه.[6] إذًا فمن واجب الفن العملُ على
تفتُّح الروح وارتقائها. عندئذٍ فقط تمتلئ
بالقيم الإنسانية التي تجعل الحياة ذات معنى.
إنها قيم الأصالة التي تزيدنا رهافة
وكرامة، فنرفض الذل الذي نعيشه، كما نرفض
العدوان والظلم الذي يصفع كينونتنا كل يوم. إن
اليوسف يحرضنا على العمل من أجل حياة أعز
وأجمل! لذلك سعى إلى الربط بين الإنسان
والشعر، فرأى أن انحطاط الشعر دليل على هبوط
الإنسان إلى الحضيض. ورأى، كذلك، في الحرية
رفيقةَ درب الشعر (والفن بعامة)، ودعا الشاعر
ألا يرضخ عند ممارسته إلا للروح ومحتوياتها
النبيلة. فالنشاط الشعري، في نظره، ما هو إلا إحالة
على جوهر الإنسان النقي. يحاول اليوسف، عِبْرَ نقده،
الإجابة عن أسئلة تقض مضاجع أدبنا، لعلَّه
بذلك ينقذ الساحة الأدبية من الفوضى
المستشرية فيها. لهذا أمدَّ الحركة النقدية
بمعايير أصيلة تحدِّد قيمة النصوص الأدبية
وتميز جيِّدها من رديئها. وقد بيَّن لنا أن
الشعر الحديث يعتوره نقصٌ في الخيال؛ لكن
المثلبة الأكثر فتكًا به هي غياب العنصر
الوجداني الحميم، الذي يعني نضوب الطاقة
الوجدانية والعاطفية التي يراها الناقد
الينبوعَ الأول للشعر العظيم. إنه يرى أن على الفن أن يتجه صوب
إنعاش الإنسان بإذكاء البطولة الروحية
التي تعزِّز الكرامة في أعماقه. كما أن عليه
أن يتحسَّس الحنين إلى ما هو صلب ومتماسك.
فنحن نعيش في زمن يفتقر إلى رسوخ القيم
الأصيلة الصالحة لاستمرار الحياة والصالحة
لعودة الكرامة. ألم تَضِعْ فلسطين نتيجة
إفلاسنا الروحي والمادي؟! وقد حمَّل النقدَ الأدبي
مسؤوليةَ حماية النص الأدبي من الانحراف عن
جادة الحياة والجمال، أي الانحراف عن الذوق
الرفيع والقيم الأصيلة. ولعل إيمانه بأن "الجمال
سينقذ العالم"، كما آمن "أبله"
دوستويفسكي قبله، منحه الأمل الذي يراه
"صنو الماس" ويشبِّهه بـ"بزوغ البدر
في ليل دامس بهيم"[7].
لهذا قاوم فكرة الانتحار التي راودتْه منذ
طفولته، فلاذ بعالم المُثُل التي هي الجمال
الحقيقي. ولا ننسى هنا دور البيئة المتدينة
التي نشأ فيها في منعه من تحقيق رغبته في
تدمير الذات. ولعل في ثباته على مبادئه وعدم
مجاملته لأية سلطة خير تجسيد لانسجامه مع
ذاته. لهذا لن نستغرب انسجام حياته مع نقده.
فقد عايشنا في سيرته الذاتية كثيرًا من
المقولات التي أسَّس عليها نقدَه، فلمسنا
الحساسية المرهفة والفكر العميق. ولهذا رفض
أن يؤطِّر حياته ونقده بإيديولوجيات أو مناهج
تجمِّد الفكر وتقيِّد الطبع. أمتعتْنا السيرة بلحظات صدق مع
الذات، إذ لم نجده يسعى إلى تجميلها، فأبرز
لنا نقاطَ ضعفه وبعض زلاتٍ ارتكبها في حياته.
وقد تمعَّن في لحظات الندم التي عاشها، ثم
جلاها لنا قائلاً إن الندم العميق هو "أكثر
الأشكال أصالةً لتجلِّي الإنسان الصرف بكامل
ماهيته ونقاء صيغته"[8]،
فاختزل ماهية الوجود الإنساني إلى الطيبة
والشرف والأصالة، وجعلها مرادفة لماهية الضمير.
وقد استخلص من تجربته القاسية في الحياة
نتيجةً تعزِّينا، وهي أن [...]
سرَّ الإنسان لا يكمن في شيء إلا في قدرته على
تحمل الشقاء والألم والعذاب، وليس في العُقَد
الجنسية التي جعل منها علمُ النفس الحديث
أوثانًا تتمركز حولها البنيةُ النفسية كلها.[9] وأعتقد أن ممارسته النقد على
حياته الشخصية، كما مارسه على الأدب، أسبغ
على سيرته فرادةً، فأصبحت قراءتها متعةً
روحيةً وفكرية. لكن كنَّا نتمنى لو أنه خفف من
حدة لهجته التعميمية، خاصة حين تحدث عن الغرب
واليهود. صحيح أن بعض هؤلاء هم سبب دمارنا
اليوم، لكن بعضهم الآخر يقف إلى جانبنا، بل
يناضل معنا في خندق واحد! ولقد وصلت لهجته
التعميمية المتعسفة إلى حدِّ وصف اللغة
الإنكليزية، التي يستطيع أن يقرأ بها ويكتب،
بأنها "لا تزيد عن كونها صنفًا من أصناف
الرطانة الهمجية المنفرة"[10]، فنسي أنها
أمتعتْه، وأنه تغنَّى بشعرائها (شكسپير،
وُردزوُرث والرومانطيقيين) وبروائييها (وروائيي
الغرب الكبار إجمالاً)، حتى إنه في كتابه مقال
في الرواية لا يرى روايةً تستحق القراءة
سوى الرواية الغربية في القرن التاسع عشر
وبدايات القرن العشرين[11]! لكننا، على الرغم من ذلك كلِّه،
عايشنا من خلال هذه السيرة مرحلةً حرجةً من
مراحل أزمتنا مع الآخر الغربي والصهيوني،
فتجسدت أمامنا بشاعةُ الظلم والقهر الذي قتل
أحب الناس إليه (والده) ودمَّر الطفولة في بؤس
مفزع. من هنا لن نستغرب أن تسيطر لغةُ الهمِّ
العام على فضاء هذه السيرة. لكن ميزة هذه
اللغة أنها باتت لغة الهمِّ الخاص أيضًا، إذ
صاغ ضياع فلسطين الوجدان والأفكار والأحلام. كما ظفرنا في هذه السيرة بوثيقة
نادرة، نسمع فيها صوت الرجل وهو يتحدث عن
حبِّه العذري وعن مكانة المرأة–الحلم في
وجدانه. لكن كنا نتمنى لو أننا عايشنا فيها
الصراع الداخلي بين الحلم والرغبة، بين
المثال والحياة. فقد بدت لنا تلك العلاقة
العذرية مفعمةً بالعذوبة والجمال، لا
تنغِّصها أية آلام! ولا ندري لماذا ركَّز
أستاذنا يوسف اليوسف الضوءَ على امرأة الحلم
وأغفل امرأة الواقع (الزوج، الحبيبة، الصديقة).
إننا ندرك أن فن السيرة فن حساس؛ لكن باستطاعة
مَن يملك لغة رائعة كلغة اليوسف أن يواجه ذلك
التحدي، خاصة أن اللغة الحميمية هي التي تضفي
على السيرة جمالَها وتأثيرَها في المتلقي. كذلك كنا نتمنى لو أننا عايشنا
الصراع الداخلي الذي ينشأ في داخل كلٍّ منَّا
بين الإيمان والشك، بين الغيب واليقين،
ولاسيما أن اليوسف عاصَر مرحلة توهج الفكر
الماركسي والوجودي. أخيرًا لا بدَّ أن نشيد بمحاولة
اليوسف استغوار أعماقه وتقديمها بكلِّ صدق.
كما نشيد بدفاعه عن قيم أصيلة تبدَّت في
مؤلَّفاته النقدية وسيرته الذاتية. فكأنه
يعلن لنا، عِبْرَ كلِّ ما كتب، بأنه لن يكون
عدلٌ ولن تعود فلسطين، والإنسانُ، في الشرق
كما في الغرب، يعاني من ذلك الانحطاط المريع
في الذوق والأخلاق. *** *** *** [1] يوسف سامي اليوسف، تلك
الأيام، الجزء الثاني، دار كنعان، دمشق،
ط 1: 2006؛ ص 7. [2] هذه الصرخة لبطل رواية پيدرو
پارامو لخوان رولفو، بترجمة صالح
علماني، وزارة الثقافة، دمشق، ط 1: 1983. [3] تلك الأيام،
ج 2، ص 56. [4] نفسه،
ص 176. [5] نفسه، ص 177. [6] يوسف سامي اليوسف، القيمة
والمعيار: مساهمة في نظرية الشعر، دار
كنعان، دمشق، ط 1: 2000؛ ص 88. [7] تلك الأيام،
ج 2، ص 195. [8] نفسه، ص 181. [9] نفسه، ص 187. [10] نفسه، ص 177. [11] راجع: يوسف سامي اليوسف، مقال
في الرواية، دار كنعان، دمشق، ط 1: 2002.
|
|
|