|
قراءة في كتاب مـفـهـوم التَّـغـيـيـر
يسعى كل مفكر أو كاتب، من خلال نظرياته وأفكاره، إلى تغيير الأطُر الاجتماعية والفكرية في مجتمعه. ولكلِّ مفكر تصوراتُه عن الواقع وأطروحاتُه الهادفة إلى تغييره. التغيير الحقيقي يبدأ من الأفكار، لأن الواقع، بشكل أو بآخر، إفراز لها. أجل، التغيير الحقيقي العميق يبدأ من الأفكار ومن تغيير منهجية التفكير. والبداية تكون بإعادة دراسة الأفكار الأساسية وصياغتها، ثم يرتسم في ذهن الإنسان، من خلال الأفكار الجديدة، فهمٌ جديد للكون وللروابط التي تقوم بين الإنسان – الكون – الله – الآخر. الكتاب الذي نحن في صدده[2] يدور في مجمله حول التغيير، حيث يجد القارئ فيه بحثًا في مواضيع كثيرة: فهو يبحث في اللغة وعلاقتها بالواقع، في التاريخ الإنساني وكيفية الاستفادة من عِبَرِه، في العنف والسلم، في منهج الأنبياء في التغيير، في أهمية الشريعة والقانون في المجتمعات الإنسانية، في أصول نظام الحكم في الإسلام، إلخ. ويسعى المؤلِّف، من خلال دراسته لهذه المواضيع، إلى تغيير نظرة الناس إليها وإلى اقتراح الأساليب الواجب اتباعها للتعامل مع النص والواقع بمنهج تاريخي وقرآني وعلمي. وهو يضع نماذج لهذا التعامل القائم على دراسة الواقع والاعتراف بحتمية وصرامة القوانين التي بثَّها الله في الآفاق والأنفس.
الشيخ جودت سعيد وقد سجَّل هذا الكتاب المحاولاتِ الصعبةَ والتجاربَ المضنيةَ والحواراتِ المطولةَ التي جرت بين الشيخ جودت سعيد وبين مختلف شرائح المجتمع، من الشباب والمثقفين إلى العامة واليافعين، في الدروس الأسبوعية التي كان يعقدها لذلك في مسجد قرية بئر عجم في الجزء المحرَّر من الجولان السوري. والكتاب هو الحلقة الأولى في سلسلة "مجالس بئر عجم" التي صدرت تباعًا، كما بيَّن الناشر في تقديمه للكتاب[3].
يبدأ المؤلِّف كتابَه بمقدمة طويلة شرح فيها موضوع النظام العالمي الجديد، والصراع بين الشمال والجنوب، وبوادر التغيير المرتقبة في العالم، ومستقبل الأمم المتحدة، ثم انتقل إلى شرح فكرتين اثنتين هما: التوبة والتواصل مع الأمة. التوبة: نقد الذات يرى المؤلِّف أن إدانة النفس والاعتراف بالذنب ونقد الذات هي الأدوات التي تؤدي إلى تجاوز الأخطاء؛ أما اتهام الآخر وتبرئة الذات فلا يؤدي إلا إلى الغرور وتفاقم المشكلات. وتبرئة الذات واتهام الآخر ليس منهجًا قرآنيًّا؛ إذ إن منهج القرآن هو: ما أصابك من سيئة فَمِن نفسك؛ كذلك فإن طريق الرسول (ص) هو: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه." التواصل مع الأمَّة إن هدف التغيير وأداته هو الأمة. ولذلك كان لزامًا على كلِّ مفكر يريد أن يغير الأمة أن ينفتح عليها وألا يدعوه الغرورُ والتعالي إلى الانغلاق دونها. يقول المؤلِّف: إننا، في عالم الأفكار، موزعون بين مَن ينظر إلى الأمة وبين مَن ينظر إلى قادتها. ولا أعني بـ"القادة" السياسيين، بل المفكرون الذين يقومون بالتثقيف والتعليم في المؤتمرات واللقاءات والكتابات. ولكننا، في أكثر الأحيان، نترك بقية الأمَّة من الأفراد العاديين، ونزهد فيهم، وبدلاً من أن نتوجه إلى الأمة نتوجَّه إلى القادة، إلى المفكرين؛ ولكن آمالنا تخيب عندهم. وقد يئست الأمة من هذه الأعمال وعلَّقت آمالَها على قضاء الله وقدره لينقذها مما هي فيه! [...] بعد المقدمة، هناك خمسة مجالس، يبحث كل منها في موضوع رئيس ومواضيع فرعية. والمجالس هي: المجلس الأول: تأملات في اللغة – نشأتها – تدوينها – علاقتها بالواقع يرى المؤلِّف أن اللغة ما هي إلا وسيلة لنقل واقع ما من المُشاهد إلى غيره من الناس. ولا يمكن للباحث أن يفهم الواقع من خلال اللغة فقط؛ لذا لا بدَّ له من الرجوع إلى الواقع ليفهم الخطاب الذي تلقَّاه عن طريق النص، سواء كان سماويًّا أم أرضيًّا. ومجمل الأخطاء التي نقع فيها ناتجة عن التعامل مع اللغة على أنها مصدر الحقيقة الوحيد؛ وهذا ما جعلنا في حجاب كثيف عن الواقع. يقول المؤلِّف: لقد وضع الإنسانُ تجاربَه وصورَه الذهنية بالكتابة على الورق. [...] فإذا كتب إنسانٌ كتابًا عن الحدث الذي رآه يكون قد كتب ما انطبع لديه من صور ذهنية حول ما رأى. فهناك، إذن، علاقة بين الكلام (اللغة) والذهن والواقع: فالإنسان يرى الحدث في الواقع، ثم تنتقل صورتُه بواسطة العين والأذن، ثم تخرج منه بواسطة الفم كلامًا، أو بواسطة الكتابة كتابًا، ثم تنتقل إلى إنسان آخر. إننا لا نستطيع أن نفهم المعنى الحقيقي للكلام إلا إذا رجعنا إلى الواقع ورأينا الشيء الذي نسمع أو نقرأ عنه. وقد أخطأ الإنسان في فهم كثير من الظواهر، ففسَّرها تفسيرًا خاطئًا، كموضوع البرق والرعد ودوران الأرض. ثم اكتشفنا الخطأ بالرجوع إلى الواقع والنظر فيه، مرة تلو أخرى، عِبْرَ آلاف السنين. من هنا فإن الحقيقة الخارجية التي انتقلت إلى الذهن قد تُعكَس في فهمها، ولا يُشترَط أن يكون فهمُنا لها صحيحًا. المجلس الثاني: سياسة الإسلام – الصدق – بناء الثقة – نبذ العنف – الرشد كثيرًا ما يدرَّس الصدق على أنه "ضريبة" يجب على المسلم أن يدفعها! لكن نظرة أخرى إلى الصدق تبين أنه سُنة من سنن الله في الكون. بالصدق تُبنى الثقة، والثقة أساس أية علاقة اجتماعية مفيدة: من دون الثقة لا يمكن للناس أن يتعاملوا، وبالتالي، أن يصلوا إلى الحضارة والرخاء. يقول المؤلِّف: إن الصدق يحرِّر الإنسان من الخوف والغدر والنفاق. فالكاذب الذي يخفي في داخله أشياء لا يريد أن يعلمها الآخرون عنه هو الذي يشعر بالرعب والخوف. [...] المجلس الثالث: الرشد شريعة الله والغي شريعة الطاغوت إن ممارسة العنف والإكراه دليل ساطع على فشل الإنسان في التغيير بالسبل الأخرى، على عدم قدرته على إقناع الآخرين بجدوى أفكاره وفائدتها وضرورتها، وعلى عجزه عن إثبات ما يريد أن يفعله بالأدلة والبراهين. وفي قصة ابنَي آدم – قابيل وهابيل – نجد القرآن يسجل هذا المعنى. فالذي قال "لأقتلنَّك"، ومارس القتل فعلاً، هو الفاشل الذي لم يُتقبَّل قربانُه، بينما امتنع الآخرُ عن القتل وقال: "لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ إني أخاف الله ربَّ العالمين." (المائدة 28) ويرى المؤلِّف أن الإيمان بجواز العنف يجعل صاحبَه مضطرًا إلى النفاق. ولذلك مازال أكثر من مليار مسلم يعيشون هذا الوضع السيئ، لأنهم أجازوا الكذب والغدر لمجرد امتلاكهم "القوة" وشعورهم بأنهم "على حق". يقول المؤلِّف: ينبغي أن تكون ممارسةُ العنف ضمن شروط دقيقة وواضحة تمامًا، لأن ممارسته من دون شروط تُعَد انتحارًا. والمسلمون، إلى الآن، لم يضعوا بعدُ شروطًا للجهاد – إلا الشعور بامتلاك الحق والقوة – بينما لا يزال الفساد قابعًا في أعماقهم. وإذا لم يخرج هذا الجرثوم الخطير فسيتحرك كلما وجد جوًّا مناسبًا له، وسيسبِّب قتالاً مريرًا بين المسلمين، كالذي يحدث الآن في بلاد الأفغان[4]. المجلس الرابع: القانون – تأسيسه – حمايته – الالتزام به ينشأ القانون من اجتماع أي شخصين، فيحرِّم على أحدهما ما يخص الآخر. وللقانون أهميته في إدارة شؤون التجمعات البشرية. والقانون لا ينبغي أن يُفرَض على الناس فرضًا، بل يجب أن ينبع من إرادتهم وموافقتهم وإجماعهم. والنبي (ص) لم يمارس الإكراه في فرض القانون: فحين هاجر إلى المدينة كَتَبَ الوثيقة التي اتفق على مضمونها المهاجرون والأنصار واليهود، فكانت دستورًا للتعامل فيما بينهم. بحث المؤلِّف هذا الموضوع في المجلس الرابع، فقال: القانون سمة الإنسان. وبالقانون، لا بغيره، يمكن مواجهة العدوان وحماية الناس من أن يظلم بعضهم بعضًا. والمجتمع الذي لا قانون فيه هو مجتمع شريعة الغاب، مجتمع شريعة الطاغوت. فإذا كنا في مجتمع لا يسود فيه القانون فواجبنا أن ندعو إلى إنشاء المجتمع الذي يحتكم الناسُ فيه إلى القانون والشريعة، ويعملون على حماية العدل، ولا ينتظرون الآخرين، بل يطبِّقونه من طرف واحد، كما فعل رسول الله (ص). [...] المجلس الخامس: الإسلام ومفهوم التغيير الإسلام، أولاً وقبل كلِّ شيء، منهج لتغيير الواقع في العالم. وهو يضع للمسلم أهدافًا سامية، ويدعوه إلى تحقيقها بالطرق المشروعة والعادلة والصادقة: فهو لا يؤمن بالغدر، ولا يبيح العنف في مواجهة المجتمع، ويضع، بدلاً من ذلك، قول الحق ونشر العلم والثبات على الموقف والصدق والإحسان إلى الآخر. والإسلام لا يبيح الخروج على الحاكم وقتله، بل يدعو إلى مواجهته بكلمة الحق. يقول المؤلِّف: فإن تجرأ أحدٌ واغتصب الحكمَ بالقوة فإننا نواجهه بكلمة الحق ونقول له: "إن ما فعلتَه غير جائز وغير صحيح"، ونتحمل مسؤولية هذه الكلمة التي ربما نُقتَل بسببها. [...] هذا الأسلوب في التغيير أقل خسائر من أسلوب العنف، ولن يستطيع حاكمٌ أن يقتل الآلاف من الناس لأنهم يقولون الحق. وفي المقابل، فقد حصد العنفُ مئات الألوف من المسلمين في حروب لا طائل فيها. [...] وختامًا، أرى أن كتاب مفهوم التغيير، في مجمله، تجربة رائدة وخطوة مهمة نحو تعميم الوعي والثقافة والعلم، وممارسة الانفتاح على الأمة، والتواصل مع الناس من خلال المسجد، لأنه، أولاً، تسجيل لحوارات واقعية جَرَتْ بين المؤلِّف وبين مختلف شرائح الأمة، ولأنه، ثانيًا، يتميز ببساطة عبارته وشرحه للمفاهيم الكبيرة بأسلوب سهل ميسَّر، ولأنه، ثالثًا، يفيد في مجال تعليم منهجية التفكير والبحث والحوار. *** *** *** [1] محرِّر في قسم الدراسات في "دار الفكر المعاصر"، حرَّر سلسلة مؤلَّفات لجودت سعيد بعنوان "مجالس بئر عجم". [2] جودت سعيد، مفهوم التغيير، دار الفكر المعاصر، طب 1: دمشق 1995؛ 264 ص. [3] للشيخ جودت سعيد كتب أخرى في مفهوم التغيير، صادرة ضمن السلسلة نفسها. راجع، مثلاً: جودت سعيد، رياح التغيير: قضايا الإنسان والعلم والتأويل، دار الفكر المعاصر، طب 2: دمشق 1998. [4] يتغير الممثلون، ولا تتغير التمثيلية: فما يجري الآن من اقتتال في العراق بين المسلمين هو عينه ما كان يجري في أفغانستان زمن انعقاد الدروس التي تشكِّل مادة كتاب الشيخ الجليل جودت سعيد هذا. (المحرِّر)
|
|
|