|
الأسُس الفلسفيَّة للفكر النَّسوي الغربي نقدُ مفاهيم الفكر الذُّكوري
صدرتْ في حزيران 2005 الطبعة الأولى من كتاب خديجة العزيزي الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي[1]، وفيه تتناول الباحثة الأردنية، على مدى ستة فصول، كلَّ ما يتصل بالمذهب النسوي: تاريخه، مدارسه، اتجاهاته، أطروحاته النظرية، ورؤاه الفكرية والفلسفية.
بخصوص النشأة والتحديد، تقرِّر الباحثة أن اصطلاح "المذهب النسوي" أُطلِقَ على الفكر المؤيِّد لحقوق النساء، الداعي إلى تحريرهن من القمع الذي تمارسه عليهن السلطةُ الذكورية. وكان هذا الفكر قد بدأ في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر بصفته جزءًا من الخطاب التنويري، ثم انتقل إلى أمريكا. ويتضمن الاصطلاح أن النساء مقموعات، وأن علاقات "الجنوسة" ليست ثابتة، ولا يصح أن تُدرَج في الاختلافات الطبيعية بين الجنسين، فضلاً عن انطوائه على ضرورة الالتزام بتغيير أوضاع النساء نحو الأفضل. صحيح أن المذهب النسوي حديث النشأة، لكن الفكر الداعي إلى تحرير النساء موجود منذ تاريخ طويل، يعود إلى المقاومة التي أبدتْها النساءُ ضد وضعية التبعية في القرن السابع عشر: ففي تلك الفترة، حدثت تغيراتٌ اقتصادية وسياسية كبيرة، أدَّتْ إلى تغيُّر العلاقات التقليدية التي حدَّدت المجتمع ما قبل الصناعي. ومع تطور الرأسمالية الصناعية، تغيَّر المعنى السياسي والاقتصادي للعائلة، وتمزَّق مركزُ المرأة التقليدي فيها. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت هناك دعوات لمفكرات وفلاسفة تطالب بحقِّ النساء في المساواة مع الرجال سياسيًّا وقانونيًّا؛ لكن هذه الأصوات بقيت تُسمَع منفردةً حتى أواسط القرن التاسع عشر، حيث حصلت متغيراتٌ كبيرة مع الثورات الأوربية وتصاعُد الديموقراطية. وقد استُخدم في هذه الفترة، لأول مرة، مصطلح "المذهب النسوي" Feminism، ليشير إلى جماعات متغايرة ومترابطة، تهدف جميعًا إلى الارتقاء بوضع المرأة ودعم مركزها بدفعه إلى الأمام. وفي العام 1960، حصل انبعاثٌ جديد للفكر النسوي، وهو ما أُطلِقَ عليه "الموجة الثانية"، التي عمَّقتْ نقدَها، ووسَّعت اهتماماتِها، فأصبح معها المذهب النسوي يُطلَق على فكر جميع الباحثين والباحثات عن أساليب لإنهاء تبعية النساء، بغضِّ النظر عن تباين المنطلقات البحثية. وإذا كان الفكر النسوي قد استخدم في موجاته المبكِّرة لغةَ الحقوق والمساواة، فإنه في أواخر العام 1960 أصبحت عباراتُ "القمع" و"التحرير" كلماتٍ مفتاحيةً في العمل السياسي لليسار الجديد. ومع تصاعُد حركات التحرر، مثل حركة تحرُّر السود وحركات التحرر في العالم الثالث وسواهما، كان من الطبيعي أن يدعو الفكرُ النسوي الجديد نفسه "حركة التحرير النسوية". وقد رفضت المؤيدات لهذا الفكر نماذج القوة والسلطة الموجودة في المجتمع، ودعون إلى الاعتراف بالجماعات المهمَّشة المقموعة وإلى احتوائها واحترامها. الفلسفة النسوية أما في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فقد أصبح ممكنًا القول إن المذهب النسوي حاز على درجة عالية من الاعتراف في عدد من الخطابات في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، إذْ انهمك عددٌ من فلاسفة الحركة النسائية في إعداد نظرية سياسية نقدية تساعد على تغيير المجتمع، وجرى البحث عن أسُس فلسفية تقوم عليها هذه النظرية، بحيث تكون لها سماتٌ تميِّزها عن باقي النظريات السياسية، بسبب اهتماماتها الدقيقة، وبرامجها المتنوعة، وأسئلتها المختلفة بشأن الأسباب النهائية للظلم الواقع على النساء وأساليب مواجهته، سعيًا إلى إقامة مجتمع حرٍّ إلى أبعد الحدود. وعلى الرغم من "تمكين" empowerment المذهب النسوي في المجتمع الغربي المعاصر، يلاحَظ أنه لا توجد مدرسة أو حركة موحَّدة تمثل هذا الفكر، وإنما توجد حركاتٌ كثيرة تنتمي إلى إيديولوجيات وفلسفات مختلفة: فهناك الفكر النسوي الليبرالي، والماركسي، والاشتراكي، والراديكالي إلخ؛ كما أن هناك اتجاهًا نسويًّا جديدًا تأثر بفلاسفة ما بعد الحداثة Postmodernism، فظهر تحت اسم "ما بعد النسوية" Post-feminism. والملاحَظ أن هذه الجماعات، على تنوعها، تشترك في نقدها ومعارضتها للتعصب الديني والعرقي وللاستعمار، وتشترك أيضًا في استخدامها لمفاهيم جديدة، وفي توسيعها وتطويرها لمفاهيم أَضفتْ عليها عمقًا وأَغنتْ بها الفكرَ السياسي والثقافي. وتلك المطالب التي عبَّرتْ عنها النسويات بلغة جديدة، ظهرت من خلال نقدهن للنظريات الاجتماعية، فأسهمن في تطوير مفهومات مثل البطريركية، والإيديولوجيا، والأدوار الجنسية والاجتماعية. وقد شكَّلتْ مفاهيم الماركسية والفينومينولوجيا الاجتماعية مصادر جديدة للفكر النسوي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ما بعد الماركسية لكن المفكرات النسويات أدركن أن المفاهيم المتاحة في الإطار الماركسي لا تكفي وحدها لتأسيس نظرية عقلانية حول الجنسية. ولذلك تمَّ البحث عن مصادر جديدة، تمثلتْ في التركيز على المنعطف اللغوي، الذي كان له أثرٌ مهم في حقل الإنسانيات والفلسفة والعلوم الاجتماعية، كما تمثلت في الأخذ عن فلاسفة ما بعد الحداثة (فوكو، دريدا) وعن التحليل النفسي اللاكاني – وهو ما جعل النظرية النقدية عندهن تتحول من مجال العلوم الاجتماعية والتاريخية إلى مجال الفلسفة والدراسات الأدبية والثقافية. وقد لوحظ، في الربع الأخير من القرن العشرين، تشكُّل فلسفة نسوية متطورة نسبيًّا، تتضمن مفهومات عديدة تمَّ إبداعُها وتطويرها على يدي مفكرات وفلاسفة الحركات النسوية، من أبرزها مفهوم "الجنوسة" gender ومفهوم "البطريركية" Patriarchy ومفهوم "القهر" oppression. ولما كان تطوُّر هذه المفاهيم يعكس تطورًا في الفكر السياسي النسوي المعاصر، فقد توقفت الباحثةُ عندها، وتوفَّر عملُها على بحث تاريخ هذه المفاهيم، والكشف المبكر عن المشكلات الكامنة خلف استعمالها، وذهبت إلى ربطها بمصادرها الأساسية المتحولة داخل الفكر النسوي المعاصر. في مقابل ذلك كلِّه، يخصص الكتاب حيِّزًا لنقد المذهب النسوي للفلسفة السياسية الغربية، وفيه نتبيَّن أن اقتحام الفكر النسوي للمجال الفلسفي يعود إلى القرن الثامن عشر عند رائدته ماري ولتسو نكرافت. وفي هذا المنحى، اتجهت مفكرات المذهب النسوي إلى تحليل التراث الفلسفي ونقده، ولاسيما ما تضمنتْه الفلسفةُ السياسية الكلاسيكية من نصوص تعبِّر عن موقف سلبي من النساء، من حيث هي آراء "ذكورية"، تقوم على أساس الهرمية الاجتماعية التراتبية social hierarchy؛ وفيها يظهر التصدي النسوي لآراء أفلاطون وتأويلاتها المعادية للمرأة، ولآراء ديكارت، التي تصفها جين فلاكس بأنها محاولة للهروب من الجسد والجنس وغواية اللاوعي. من هذا القبيل نقد كارول غولدمان للتراث الفلسفي، من حيث هو أحادي الرؤية؛ ومنه أيضًا ما ذهبت إليه مارسيل لاكوست من أن الفلسفة التقليدية استخدمت مجموعةً من الوسائل لتسوِّغ التفرقة والتمايز. ومن أجل البرهنة على فكرتها هذه، تتعرض لنقد فلسفة هيوم الأخلاقية وفلسفة جان جاك روسو الاجتماعية، من حيث هما فلسفتان ذكوريتان تُقرَّان القسمة الثنائية التقليدية، شكلاً ومضمونًا. وهو ما دفعت به فلاكس بعيدًا، إذ عدَّتْ جميع النظريات الفلسفية التقليدية رُجُعَ صدى لخبرات طفولة الفلاسفة الذكور ومشكلاتهم. فهي ترى أن هذه النظريات تتسم برفض كلِّ سمة تفاعلية واجتماعية في التطور البشري، وتتضمن أشكالاً من الفردانية، وتركز على العزلة والاستقلال، وعلى التعارض بين الروح والجسد، وبين العقل والعاطفة، وتفصح عن أفكار السيادة والهيمنة والتحكم في الجسد والعواطف، وتصطدم بالخوف من المرأة، فتحطُّ من قيمة النساء ومن كلِّ ما يرتبط بهن، كالجنس والطبيعة والجسم. ومن هنا كانت قوة النساء خطرًا يجب أن يُكبَح بواسطة السلطة الأبوية. وأخيرًا، فإن الكتاب، كما يقول ناصيف نصَّار في تقديمه له، يفتح الباب لدراسات جديدة تكمِّله أو تتجاوزه؛ وهو محاولة جادة لتطبيق مبدأ الانفتاح والكونية دون فقدان الذات والهوية. وذلك ما نحتاج إليه بحق في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر. *** *** *** [1] خديجة العزيزي، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي، دار بيسان، بيروت، طب 1: 2005.
|
|
|