|
قالوا: استقلَّ لبنان[*]
وكانت ليالٍ غارَ نجمُها، وتقنَّع قمرُها، وكثرتْ وشوشاتُ أقدارها. وكانت نهارات مثقلة بالسِّعايات والنكايات، وبالعجيج والضجيج، والحقد والغضب، والبغض والصخب. ثم تلَفَّتَ الناسُ بعضهم إلى بعض، وتطلَّعوا إلى فوق، وإذا بقطعة من نسيج أحمر فأبيض فأحمر، وقد توسَّطَها ما يشبه الأرزة، يصفِّقها النسيم في الجوِّ، فتصفِّق لها الجماهير على الأرض. وإذا سأل ساذجٌ عن ذلك كلِّه ما معناه، قالوا: استقلَّ لبنان. فقلت: مرحى وألف مرحى يا لبنان! لكأنَّك من عبقر، بل لكأنَّك عبقر! فأنت، على صغرك وضعفك بين الأمم، أتيت معجزةً ما أتتْها أكبر الأمم وأقواها، منذ بدء التاريخ حتى اليوم: فلا مصر رعمسيس، ولا بابل نبوخذنصَّر، ولا آشور شلمنصر، ولا مقدونية ذي القرنين، ولا رومة قيصر، ولا السند ولا الهند، ولا العجم ولا العرب، ولا أي دولة من دول الزمان الأخير، تمكنتْ من أن تقبض يومًا على مفتاح ذلك الكنز الذي لا يُثمَّن – كنز الاستقلال. وها هي تلك الممالك قد بادت، وما ورَّثت الأجيالَ من بعدها سوى نكباتها الناجمة عن عظيم فقرها إلى الاستقلال. والتي ما بادت منها لسوف تبيد، ولن تورِّث الأجيالَ من بعدها سوى أشواقها المُحرِقة إلى عنقاء تدعى "الاستقلال". وأما أنت، يا لبنان: يا رقعة شطرنج فتَّانة تلعب عليها الأقدارُ – أقدارُك وأقدارُ الأرض كلِّها – لعبتَها المكتومة عنك وعن كلِّ أبناء الأرض؛ أنت، يا مضرب الرياح الهائمة على غير هدى، من المغارب والمشارق، ومن القطب حتى القطب؛ أنت، يا مسرح الآلهة، سميحها وكؤودها، باسِمِها وعَبوسها، غَفورها وثَؤورها؛ وأما أنت، يا لبنان، فبالقليل من العناء والألم، وبالكثير من الضوضاء والغوغاء، أصبحتَ، ما بين ليلة وضحاها، ذا عَلَم وذا مكانة بين الأمم! فقالوا: استقلَّ لبنان. ألا ليت الحقيقة كانت ما قالوا وما يقولون! إذًا لتمنَّيتُني خيطًا في عَلَمِك، يا لبنان، وأهزوجةً في فمك، وبساطًا لقدميك، وقطرةَ ماء في إبريقك، ورغيفًا في معجنك، وطيفًا من الأطياف التي ترود منامَك، وفكرًا من الأفكار التي تُلازِم يقظتَك، وبوقًا يذيع استقلالَك في مسامع العالمين. فأنا – وقد بلوتُ من الحياة ما بلوت – لا أطمع منها إلاَّ بأمنيَّة واحدة هي الاستقلال. ولا أمنِّي النفسَ بالاستقلال إلاَّ لأجعلها دليلَ الآخرين إليه. قالوا: استقلَّ لبنان. وباكورة استقلالك، يا لبنان، كانت غضبةً لكرامة لغتك تُنافِسُها أو تتقدم عليها لغةٌ أخرى في بلادها. ولغتك شريفة المحتد وحَرِيَّة بإكرامك، يا لبنان. ولكن من أين لك هذا الخصب المروِّع بالألقاب الغريبة عنك وعن لغتك، يتهافت عليها بَنوك ولا تَهافُت الذباب على فضلات المطابخ؟! فهل في معاجم لغتك لقبٌ ثنائي أوَّله باءٌ وآخره كاف؟! أما تستصغر نفسَك ولغتَك، يا لبنان، تشرِّفهما بمثل تلك العجمة المعتلَّة القلب والكبد والأمعاء، وما هي غير نفاية مرذولة، حتى في مَواطنها؟! أكرامة واستقلال، وخساسة ومذلة؟! أصيف وشتاء في آنٍ واحد وعلى سطح واحد؟! ومن ثَمَّ فعندك، يا لبنان، من هم ذوو "فخامة"، وذوو "دولةٍ" و"معالٍ"، و"سعادة" و"غبطة"، و"سماحة" و"عطوفة" و"مقام رفيع"، وما إليها من الألقاب الطنَّانة. أما أنا – ذلك اللبناني المبهم الذي لا لقب له ولا حَسَب؛ أنا الذي أدوس العنب في مَعاصرك، وأجمع الزيت والنبيذ في خوابيك، وأذرِّي القمح على بيادرك، وأقطع الحجارة في مقالعك والحطب في غاباتك؛ أنا الذي لولاي لكنتَ بلا عضل، ولا عصب، ولا دم، – أما أنا، فمن أنا وذو ماذا أنا، يا لبنان؟! لئن تقل لي إن ألقابًا طنَّانة تخلعها على ذوي السلطان من بنيك ليست سوى "تمويه" على الباقين من بنيك، تصون به كرامةَ حكمك وهيبةَ حكامك، – لئن تقل لي ذلك، أُجِبْكَ بأن "استقلالاً" يقوم على التمويه ليس سوى تمويه! وأنا أربأ بك تحطُّ محكومَك لترفع حاكمَك، وتُعِزُّ حاكمَك لتُذِلَّ محكومَك. وأربأ بك تموِّه عبوديةً في باطنك باستقلالٍ في ظاهرك، وتجعل من بنيك طبقاتٍ تتعالى فوق طبقات، وصفوفًا تجثو أمام صفوف، وصغارًا يبخِّرون لـ"كبار" – ثم ترضى بأن تقول وأن يقال عنك: لقد استقلَّ لبنان. وكيف تستقلُّ من الغير، يا لبنان، إلا أن يستقلَّ الغيرُ منك؟ وها أنت ذا قد استعبدتَ حتى الآلهة! أما تراك إذا ما خاصمتَ فباسم آلهتك خصامُك، أو سالمتَ فباسمهم مسالمتُك؟! إن غضبتَ على أخيك أكرهتَهم على الغضب عليه، أو شهرتَ حربًا على أخيك سيَّرتَهم في الطليعة؟! لقد روَّضتَهم وذلَّلتَهم إلى حدِّ أن أصبحوا أطْوَع لك من بنانك، فجعلتَهم همزات قطع بينك وبين أخيك – وعهدي بهم همزات وَصْل بينك وبينه وبين كلِّ مخلوق ومخلوق. ألا أعطيتَهم استقلالَهم ليعطوك استقلالَك؟ بل كيف تستقلُّ من الغير، يا لبنان، إلا أن تستقلَّ أولاً من لبنان؟! – لبنان الذي يحسب الورم في جاره لحمًا، فيتمنى لو يتورم مثله؛ والذي يستعير أسمالَ جاره ويظنه واجدًا فيها الدفء والعافية؛ ويحسد جاره على نُظُم تقوده أبدًا إلى بحور من الدمع والدم، وعلى علوم تتلبَّد غيومًا دكناء في محاجره، وعلى فحشاء انتحلتْ لِذاتها اسم الحرية الطاهرة، وخلاعة تردَّتْ برداء الأناقة؛ ويسمع حشرجة جاره فيحسبها أنشودة الخلاص! لبنان الذي يسجد للفلس صباح مساء، في سرِّه وفي علانيته، فيرى وجهه أجمل من وجه ربِّه الكريم، ويرى القوة، كلَّ القوة، من كفِّه وفي كفِّه، والنور، كلَّ النور، من عينه وفي عينه، والحشر والنشر من قلبه وفي قلبه، فلا يأنف من أن يسفح على قدميه عزة نفسه، وشرف إنسانيَّته، وسلامة وجدانه. لبنان الذي طرح بروحه في سوق الدلالة، حيث مخاوف الجوع والفقر والألم – وعلى رأسها الدلاَّل الأعظم، واسمه الموت – تتصافق على أرواح الجبناء والضعفاء، الفقراء إلى الإيمان بأنفسهم لأنَّهم فقراء إلى الإيمان بالله. قالوا: استقلَّ لبنان. وهل يستقلُّ مَن في عنقه دَين قبل أن يوفي الدين؟! وفي ذمة لبنان رسالةٌ لا تزال دينًا عليه حتى يؤديها سليمةً، صافيةً، كاملة. أما ترون كيف أن لبنان من الأرض بمقام القلب من البدن؟ أوَما ترون ذلك القلب ما أتمَّه صنعًا، وأجمله شكلاً، وأدقَّه تركيبًا؟ حقًّا إنه لآية مِن أبدع ما أبدعتْه القدرةُ التي لا توصف ولا تُسمَّى! – وذلك لا عبثًا، ولا مصادفة، بل عن حكمة ورويَّة وتصميم. ففي هذا القلب العجيب الذي هو لبنان قد شاءت الحكمةُ الأزليَّة أن تجمع أنباض الإنسانيَّة – غابرها وحاضرها وآتيها – كيما تحسَّ الإنسانيَّةُ وتدرك أنها جسد واحد، وقلب واحد، ونبضٌ واحد. وأي أنباض الإنسانيَّة أنبل وأسمى وأجلُّ من تلك التي حمَّلَتْها الإنسانيةُ أعذب أمانيها، وأقدس أشواقها، وأقصى اندفاعها إلى حياة حقُّها حق، ونورها نور، وسلامها سلام؟! هي النبضات التي أرسلتْها متقطِّعةً، متفرِّقة، من طور سينا، ومن جبل الزيتون، ومن عرفات وحملايا وأرارات. وها هي قد تجمعتْ كلها في لبنان، حيث ينبض بها "حرمون" و"صنين" و"فم الميزاب" وهذا البحر الذي ما ينفكُّ يرفعها قرابين ومحرقات إلى السماء. ألستَ تبصر ما أبصر، وتسمع ما أسمع، يا لبنان؟! إن تلك النبضات العلوية هي أمانة في عنقك اليوم. فهي ما تجمَّعتْ فيك إلاَّ لتصونها من التلاشي، ومن فحيح الشهوات السود، وإلا لتجعل منها نبضةً واحدةً ترسلها تيارًا من الإيمان المكهرب في شرايين البشرية التي تكاد تتحجَّر بالخيلاء والفحشاء والادِّعاء والتنافس بقوة العظم واللحم والعضل وبالتهالك على ما تتقيأه الأرض، عامًا بعد عام، من مأكل ومشرب وحطام. تلك هي رسالتك، يا لبنان. فأنتَ ما وسَمَتْك الطبيعةُ بميسم الجمال لتجعل منك بوقًا للشناعة. ولا وضعتْك من الأرض موضع القلب لتعود فتضعك منها موضع العقب. ولا كوَّنتْك حصينًا لتجعلك معملاً للسلاح، ومعقلاً للحرب، وخمَّارة للخلاعة، ومنوالاً تُحاك عليه شِباكُ السياسات. ولا رفعتْك عاليًا لتعفِّر جبينَك بحمأة الضغائن والفتن. ولا غسلتْ أقدامَك بماء الطهر، وكحَّلتْ أجفانَك بمرود النور، وبرَّدتْ قلبَك بندى السلام، لتعود فتغرقك في بحار من الدم! فما للأرزة في عَلَمك تَطْلُع من أديم بلون الدم وتَتَطلَّع إلى أديم بلون الدم؟! وأحْرِ بها أن تطلع من تربة نقية نقاءَ ثلجك، وأن ترفع رأسها في فضاء صافٍ صفاءَ ثلجك. أحْرِ بها – وهي عنوان القوة والرجاء والخلود – أن تحمل رسالتَك إلى العالم، رسالةَ القوة المؤمنة بالحق، والرجاء المنزَّه عن الدنايا، والخلود القائم على وحدة الأرض وأبناء الأرض ووحدة الأكوان كلِّها في الله. وعندئذٍ، إذا قالوا: استقلَّ لبنان، قلت: استقلَّ لبنان! ولكن في أذنيك اليوم عجيجَ بِحار وهديرَ شلاَّلات كثيرة، يا لبنان! فما إخالك تسمعني. وإن أنت سمعتَني، فما إخالك واعيًا ما أقول. ولسوف تسمع، ولسوف تعي، يا لبنان! *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [*] ميخائيل نعيمه، البيادر (1940-1944)، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت، 1980، ص 209-216. |
|
|