|
جدلية الفكر والإيمان تأملات من وحي جواب إلى أيوب لكارل يونغ
الدين، بما هو ظاهرة نفسية، حقيقة؛ وبما هو وظيفة، ضرورة. نسبي، بما هو شكل؛ مطلق، بما هو مضمون. خطورتُه وخطرُه أن ينقلب الشكلُ فيه مضمونًا، والنسبيُّ مطلقًا. عندئذٍ، يتصلَّب المعنى في الحرف فلا يُجاوِزُه، ويضمُرُ المضمونُ في الشكل فلا يتعدَّاه. وعندئذٍ، أيضًا، يغدو أداةَ انحطاط، بَدَل أن يكون عاملَ ارتقاء وخَلْق وحافزَ تطور وتطوير. وعندئذٍ، أيضًا وأيضًا، تنهض الحاجةُ إلى الرفض أو الاحتجاج في هيئة هرطقة أو زندقة. على أن الدين – نقول هذا بغية الإنصاف – لا ينفرد وحده بهذه الخاصية: كل فكر، من علم أو فلسفة أو سياسة، يصير محلاً لإيمان فإنما يجنح بصاحبه إلى رؤية الأشياء إما بيضاء إطلاقًا أو سوداء إطلاقًا، ويروح يلتمس له دليلاً على صحة فكره (أو إيمانه) من أخطاء الفكر الآخر، قائلاً بلسان الحال: "لكي أكون أنا على حق يجب أن يكون الآخرُ على باطل!" على أن المفارقة التي تطرحها المسألةُ الدينية، وتصدم الإنسان الحديث صَدْمًا يجعله يؤثِر الابتعاد عن الخوض فيها، هي أنها – خلافًا لكلِّ ما أمدَّتْه به الثقافةُ الحديثة من منهجية علمية يبتغي من ورائها التوصل إلى قناعة يركن إليها أو تعليل يطمئن إليه – أنها تفرض عليه – استبدادًا – أن يؤمن بما لا يعرف، وهو الذي أعدَّتْه مناهجُ الدرس والبحث العلمي لأن يعرف قبل أن يؤمن. الدين يقول: "آمِن لكي تعرف"، والعلم يقول: "اعرفْ، ثم آمِن"! إذن، القاسم المشترك بين العلم والدين هو الإيمان. في الدين هو بداية، وفي العلم نهاية. الإيمان الديني ثابت غير متحرك، والإيمان العلمي متغير لا يستقر، أو يُفترَض فيه أن يكون كذلك. والعلم، إن لم يكن كذلك، يصبح نوعًا من العقيدة "الدينية" الناجزة، لا تقبل البحث أو الجدل: حقيقتُه هي "الـ"حقيقة، وقرارُه هو "الـ"قرار. وللخروج من هذا المأزق، – سواء في التعامل مع العلم أو الدين، – لا بدَّ من اعتماد قاعدة: "إني أفكر بما أومن، لكي أومن بما أفكر"! لكنك، إنْ فكرتَ بما تؤمن، تشكَّكتَ في موضوع إيمانك؛ فما تلبث حتى تعتمد "الانتقائية" eclecticism، فتؤمن بـ"بعض الكتاب"، وتكفر ببعضه الآخر – وهذا مرفوض من وجهة النظر الدينية الاتباعية. ثم ما تلبث حتى تجد نفسك أمام مغامرة يتورَّط فيها وجودُك العقلي والعاطفي جميعًا: إما أن تنكر الكل، جملةً وتفصيلاً، وإما أن تسلِّم بالكل، من غير أدنى تحفُّظ، لعلك تصل، في نهاية المطاف، إلى سلبية رافضة – وهذه مسؤوليتك –، أو إلى قناعة إيجابية تعيد فيها بناء ما انهدم من معتقداتك، فإذا أنت أمام بناء "جديد" سقط منه ما انتخر حجرُه ومكث فيه ما ينفع الناس – وهذا اختيارك! إذن، لا بدَّ من مغامرة![1] على أن "استبدادية" الدين في إيجابه الإيمان قبل المعرفة ليست هي الاستبدادية الوحيدة التي تواجه الإنسان في هذا العالم. فالحق أن فيه استبداديات كثيرة، وكثيرة جدًّا: لا بدَّ لك من الانحناء لكي تنفذ من "الباب الضيق" (إنجيل متى 7: 13)؛ لا بدَّ لك من الانكفاء قليلاً إلى الخلف لكي تقفز إلى الأمام؛ لا بدَّ لك من الانقياد – ولو مؤقتًا – لِمَنْ بيده زمامُ أمرك! ليس الناس كلهم هواة مغامرة؛ ليس الناس كلهم آدم أو پروميثيوس، عيسى أو محمدًا. أكثر الناس راضٍ بما وَجَدَ عليه الأشياء؛ أكثرهم يخاف من المعرفة – المعرفة الجديدة (= البدعة)، على وجه الخصوص. المعرفة مغيِّرة ومطوِّرة. وفي هذا التطوير والتغيير "خلق جديد" (رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية 6: 15)، هم في ريب منه وحذر شديد؛ تُطلِعُهم على الوجه القبيح من وجودهم، وتدلُّهم على مواطن الرياء والنفاق في بنيتهم الأخلاقية. لقد كان على إريش فروم أن يتكلم لا على "الخوف من الحرية" وحسب، وإنما على "الخوف من المعرفة" أيضًا. المعرفة هي المرآة الصادقة التي تعرِّينا أمام أنفسنا. وليس كرؤية النفس، كما هي في الواقع، لا كما نريد لها أن تكون، ما يجدر بنا أن نتصدَّى له بالمغامرة والمخاطرة، لأننا، في هذه الرؤية وحدها، نصبح ما نريد أن نكون! ماذا نريد أن نكون؟ يجب، قبل المعرفة وقبل المغامرة، أن نجيب على هذا السؤال الكبير. الإنسانَ–الخليفةَ – خليفةَ الله على الأرض – الذي تحدَّى الله به الملائكةَ وأمَرَهم بالسجود له (سورة البقرة 30، 34). هو "الإنسان الكامل" Homo universalis، الذي تكلم عليه الشيخ الأكبر ابن عربي، ومن بعده عبد الكريم الجيلي؛ هو "الإنسان الكلِّي" Homme total الذي حلم به كارل ماركس، ومن قبلُ علماءُ الكيمياء من مدبِّري الإكسير في القرون الأوروبية الوسيطة؛ هو ما بعد "الإنسان العاقل" Homo sapiens، الذي كشف عن نشوئه تشارلز دارْوِن من الثدييات العليا وجاء ثمرةً لآلية "الاصطفاء الطبيعي". لكن ماذا يعني "الإنسان الكامل" أو "الإنسان الكلِّي"؟ في المسيحية، هو ملتقى الله والإنسان في يسوع المسيح؛ في الإسلام، هو محلُّ تجلِّيات أسماء الله الحسنى، الجانب البشري من الله أو "الحقيقة المحمدية"؛ وفي الماركسية، هو الإنسان متحررًا من عبودية الأشياء، ومفجِّرًا طاقاتِ الإبداع فيه كلَّها بالقضاء على عوامل استلابه، وفق آلية شبيهة بآلية "الاصطفاء الطبيعي"، هي آلية الصراع الطبقي. إذن، الغاية واحدة، كما ترى، – لكن مع تبايُن في الوسائل. ليس صحيحًا ما يُزعَم من أن وجهة النظر الدينية تتَّسم بالتشاؤم وأن وجهة النظر المادية تفاؤلية بطبيعتها. الصحيح أن الزمن الديني يختلف عن الزمن الدنيوي، من حيث إن "عصره الذهبي" هو "في البدء"، ومن حيث إن الإنسان، كلما تقادم به الزمنُ، زاد بعدًا عن حالة "الملْء" Plêroma التي كان الله فيها والعالمَ كينونةً واحدة.[2] إن وجهة النظر الدينية، في سعيها إلى العودة إلى حالة الملْء، لا تشترط رفضَ الحياة والنكوص إلى الوراء، وصولاً إلى النقطة التي "بدأ" منها العالم، بل تصر – قيامًا بأعباء "الخلافة" التي أنيط بها الإنسان – على المضي إلى الأمام لبلوغ "نقطة البدء" من الطرف الآخر؛ وبذلك تستكمل الحياةُ دورتَها، لكي تعود فتبدأ دورةَ حياةٍ جديدة.[3] لئن كان الخلق الجديد، أو البعث والنشور، لا يتم إلا عِبْر دمار العالم (وهذا ما يُعتبَر تشاؤمًا من وجهة النظر المادية)، فإن المجتمع اللاطبقي – مجتمع الطبقة الواحدة – لا يتحقق إلا عِبْر استقطاب أو انشطار عالمي: الپروليتاريا كلها من طرف، وحفنة من الرأسماليين الدوليين في الطرف المقابل، ثم تقع الواقعة التي لا مناص منها! وقد تحقق هذا الاستقطاب (الذي كان تنبَّأ به ماركس) على هيئة معسكرَين متعاديَين مسلَّحَين بـ"أسنان نووية"، كما وصف ذلك مرة نيكيتا خروشوف.[4] يبدو أن "حكومة المهدي" غير مكتوب لها أن تقوم إلا بعد قتل "الدجَّال" – إلا بعد كارثة كونية تأتي على نظام الأشياء، "يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرض والسمواتُ" (سورة إبراهيم 48).[5] إن التفاؤل والتشاؤم، بما هما حالتان نفسيتان، يسري عليهما كلُّ ما يسري على الحالات النفسية من خضوع لقانون التوازن: فإن كان التفاؤل في الظاهر كان في الباطن تشاؤمٌ يكافئه – والعكس بالعكس. في كتاب جواب إلى أيوب، نجد إمام مدرسة علم النفس التحليلي Analytical Psychology، كارل غ. يونغ، يقف أمام المسيحية – وهي موضوع إيمانه الموروث – محلِّلاً وناقدًا، رافضًا وقابلاً. فما الذي رفض؟ يقول يونغ بأن المسيحية التقليدية، منذ نشأتها إلى اليوم، تبشر بـ"إله المحبة". يَعتبر يونغ أن هذا الفهم – وهو إرسال الآب ابنه وقتْله تكفيرًا عن خطايا البشر (وهم غير مخطئين في نظره) – ليس غير دليل على الغضب والحقد، لم يلبثا أن تفجَّرا في القديس يوحنا، صاحب الرؤيا (وهو – بالمناسبة – نفسه صاحب الرسائل المعروفة باسمه، كما يذهب يونغ): رؤيا رهيبة تنذر بدمار العالم بفعل "الأكواب السبعة المترعة بالغضب" (= القنابل الذرية!) التي يلقيها "الملائكة السبعة أصحاب النكبات السبع" على القاطنين في الأرض (رؤيا يوحنا 15 و16). كل موقف أحادي يذهب به صاحبُه إلى أقصاه، فلا بدَّ له من نقيض يوازيه ويوازِنُه. المحبة، في أقصاها، تفضي إلى نقيضها الحقد والغضب؛ أو قُلْ إن نهاية المحبة هي بداية الكراهية، بمقتضى قانون "الانقلاب الضدِّي" enantiodromia. كذلك واجه يونغ إيمانَه الپروتستانتي الموروث، ناعيًا عليه إهمالَه للمبدأ المؤنث، مؤيدًا وجهة النظر الكاثوليكية التي رفعت السيدةَ العذراء إلى "مخدع الزوجية السماوي"، ذاهبًا إلى أن المساواة التامة بين المرأة والرجل لا تتحقق على "الأرض" إلا أن تتحقق في "السماء".[6] إذن، لقد عمل يونغ بقاعدة "التفكير بما يؤمن لكي يؤمن بما يفكر". فكانت النتيجة بنية جديدة، غير انتقائية، للمسيحية، أغنتْها وأغنتْه في الوقت نفسه، إذ ضمنتْ له هو – على الأقل – التوازنَ النفسي الذي افتقده مرة. بقي أن نشير أن أيوب، مدار البحث في هذا الكتاب–الملحمة، عربي صريح – أكَّد ذلك فيليپ حتِّي في مؤلَّفه الضخم تاريخ العرب، ومن قبله توماس كارلايل، صاحب الأبطال وعبادة البطولة. وإن ثبات أيوب على إيمانه بوحدانية الله، على الرغم من التجلِّيات المتكثِّرة والمتناقضة (غفور/رحيم، منتقم/جبار)، ليُمِدُّنا بأكثر من سبب لاعتبار "التوحيد" تعبيرًا عن العقل العربي (بالمعنى العام)، الذي تألَّق في الإسلام رؤيةً تجاوزتْ فيها النفسُ العربية نفسَها الزمنية في تطلُّعها إلى المطلق، الواحد الأحد، محقِّقة بذلك لقاء المطلق بالنسبي وغير المحدود بالمحدود: الله والإنسان. حلب، في 21 شوال 1404، 23 تموز 1984 *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1] لعل هذه "المغامرة" هي المعنيَّة في حديث الرسول (ص): "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ قرن مَن يجدِّد لها دينَها." [2] وهي الحالة التي يسميها الشيخ الأكبر بـ"التجلِّيات الأسمائية". [3] في الأدب الإسلامي (الباطني منه على وجه الخصوص) إشارات كثيرة إلى "الأدوار" و"الأكوار". [4] أوردت وسائلُ الإعلام العالمي مؤخرًا أن الخط الساخن الواصل بين الكرملين والبيت الأبيض قد زُوِّد بتقانيات جديدة تُصلِح من شأنه؛ وهذا قد يعتبره بعضُهم دليلاً على "عقل" الإنسان الذي يحرص على تفادي وقوع "الكارثة" نتيجة لخطأ في الحساب والتقدير. لكن هل وصل عقل الإنسان إلى درجة من الرجحان تعصمه من الجنون؟! هذا ما لا نستطيع أن نجزم به! [5] راجع كذلك لميخائيل نعيمه مقالَي "أرض جديدة" و"سماء جديدة" في كتابه النور والديجور، مؤسسة نوفل، بيروت. (المحرِّر) [6] في الإسلام، تداركت الشيعة هذه الناحية في شخص السيدة فاطمة الزهراء (ع)، السيدة البتول، "أم أبيها"!
|
|
|