|
فلسفة الإيجاب والسلب العناية الإلهية وحرية الإنسان
يُعتبَر البحثُ في هذا الموضوع ولوجًا إلى سرِّ الحقيقة السامية وحقيقة الإنسان والكون. ولهذا السبب، يتعذَّر علينا التعمق إلى درجة الكشف عن هذا السرِّ وهذه الحقيقة. ولكن، بما أننا نعلم أن "الروح يفحص عن كلِّ شيء حتى عن أعماق الله"، حتى عن أعماق الحقيقة السامية، كما يفصح بولس الرسول (1 كورنثوس 2: 10)، فإننا سنعمل على رفع النقاب عن سرِّ الحرية وعن جوهر العناية. كلُّ مَن يحاول أن يتعمق في فهم حقيقة المطلق والإنسان فهو يجد أن طريق المعرفة طويل لا ينتهي، لأنه متضمن في اللانهاية. وبما أن موضوعنا يمتُّ إلى هذه اللانهاية في علاقتها بالمنتهي، فلن نلمَّ بالموضوع إلا من خلال معطيات عقلنا البشري، بالإضافة إلى معطيات الحكمة القديمة. العناية الإلهية موضوعٌ يكتنف الزمان والأزل – ونقصد عالم الزمان وعالم الأبدية. ولقد ظهرت هذه العناية، أو قُلْ إنها تبدَّت لنا، وكشفت عن ذاتها، في البدء. وعلى هذا الأساس، ينقسم موضوعنا إلى أربعة أقسام رئيسة: 1. العناية الإلهية في البدء ما البدء؟ كيف كان البدء؟ وكيف نستطيع الدخول إلى معرفة البدء قبل وجود الكون المادي وقبل وجود الإنسان؟ لم يكن هنالك "بدء" بالمعنى المادي والحرفي للكلمة، بل كان هنالك السر والأزل. وكيف يتسنى لنا أن نفهم هذا البدء ولم يكن الإنسان قد وُجِد بعد؟! للإجابة عن سؤال تزداد صعوبتُه بزيادة عمق الحقيقة، لا بدَّ لنا من أن نعتمد مصدرين: أ. ما أوحت به كتبُ الحكمة القديمة ب. ما يوحي لنا به العقلُ الإنساني تشير كتبُ الحكمة إلى البدء وإلى حدوث "ثورة" في الأعالي، في عالم الميتافيزياء، عالم ما وراء الطبيعة، لكنها لا تفسر هذه الثورة. ويصمت اللاهوت التقليدي ويقف عاجزًا عن تصور "ثورة البدء" وبداية "مبدأ السلب" في الوجود قبل وجود الكون المادي. كيف يثور "الملائكة" وهم أنوار علوية صافية نقية؟! سؤال يُطرَح دون جواب كافٍ ومبرَّر. أما العقل، فإنه يعمل على إماطة اللثام عن سرٍّ عميق يكتنف حقيقة الوجود ويتضمن فيه، أي يتخلَّله، فيكون المبدأ الفعَّال فيه. والطريقة التي يتَّبعها هذا العقل في فهم هذا السر تتمظهر بمظهرين: أ. المظهر الأول هو التصور: والتصوُّر هو مَلَكة العقل التي ترفعه من عالم المحسوس إلى عالم المعقول. وفي عالم المعقول يمتلئ العقل بالصور. ب. المظهر الثاني هو وجود مثال – طيف، شبيه، "نسخة ثانية" – لمبدأ السلب هذا ولثورة الملائكة في الأعالي وفي عالم المادة هذا. وبما أن عالمنا "نسخة" عن العالم الأعلى، أو طيف له، أو سلب له، فإن ثورة الإنسان ذاته وتمرده تُعلِمنا بحقيقة السر الخفيِّ. فلا تختلف ثورة الإنسان عن ثورة الملائكة؛ إلا أن الأولى حدثت في عالم الفيزياء والثانية حدثت في عالم الميتافيزياء. تشير ثورة الملائكة إلى إيجاد مبدأ "السلب" وبعثه في الوجود. وأما نتائج هذه الثورة فقد أدت إلى إظلام الوجود وسقوطه.[1] فبسقوط الملائكة أظلمت الأكوانُ وانعدمت نورانيتها، وتلاشى مبدأ "الإيجاب"، مبدأ النور، في مبدأ "السلب"، مبدأ الظلام والكثافة.[2] إن سقوط الملائكة، أو حلول الظلام، أدى إلى تدخُّل العناية الإلهية[3]، فتخلَّل النورُ الوجودَ المظلم الكثيف، الذي ندعوه الوجود المادي، فكان النور هو المبدأ الأول للعناية الإلهية. لقد انبثَّ النور في عالم الظلام لينقذ أبناء الظلام من ظلمتهم، فكانت الحقيقة السامية نور العالم. وأما "السلب"، أو إرادة السلب، أو فكرة السلب، المتمثِّلة بالملائكة الساقطين، فقد حاولت إدراك النور. لكن النور لا يُدرَك، ويظل قائمًا إلى ما لا نهاية، لأنه حقيقة الوجود: حقيقة المطلق وحقيقة الإنسان. الآن نرى أن الوجود في البدء، قبل تشكيل عالم الفيزياء والمادة، قد تمثَّل في قطبيه: الإيجاب والسلب. ويتمثل هذان القطبان أيضًا بالنور والظلام، بالحقيقة السامية وإبليس، بالخير والشر، بالنظام والفوضى، إلخ. هذا ما كان في البدء، وهذا ما سيكون في عالمنا أيضًا. إن وجود السلب في قلب الإيجاب يُعتبَر قانون الوجود الأول، القانون الذي سيظهر في الوجود، في حيثياته كلِّها، في ظواهره كلِّها، وفي حقائقه كلِّها. هكذا أدخلت الحقيقةُ السامية النورَ إلى الوجود ليضيء بحقيقته، وليعرفه. ولذلك أوجدت النورَ من الظلام وفيه. وبما أن الحقيقة السامية نور، فإن الظلام ينعدم فيها. فمن أين يأتي الظلام؟ إنه فعل السلب. وفعل السلب هذا وُجِدَ ليتمَّ تحقيق النور. وهكذا نفهم كيف وُجِدَ النور من الظلام وفيه. وبما أن الوجود قبل السقوط كان نيِّرًا وصافيًا وساكنًا، يعبِّر عن سكون مطلق، فإنه كان على غاية كبرى من النظام والسكينة. وبفعل السقوط – وهو تحدُّر للفيض الأخير – ظلَّ الوجود مثلما كان، إنما اعتراه الظلامُ وأضحى كثيفًا جدًّا. وليست الكثافة التي نتحدث عنها إلاَّ ما نسميه "المادة". إذن، فقد وُجِدَ الوجود المادي بفعل السقوط – ذلك أن الوجود الروحي، نتيجة لظلامه، أصبح مادة، أصبح كثيفًا. ليس الوجود المادي إلاَّ ظلام الوجود الروحي، كثافة الوجود الروحي، سلب الوجود الروحي. وليس النور الروحي، وكثافة الوجود الروحي، وسلب الوجود الروحي، والنور الذي يشع فيه، ويظهر من خلاله، إلاَّ انبثاث النور في الظلام. وهكذا نستنتج أنه لا معرفة لحقيقة المطلق ولا تحقيق له من دون وجود سلب. فالحقيقة تُعرَف من خلال السلب، والإيجاب قائم في السلب. وهذه هي العناية الإلهية الشاملة المتضمنة في سرِّ الكون والمنبثة فيه، في عالم السلب – ونعني الإيجاب في السلب، وإدراكه فيه. 2. العناية الإلهية وسقوط الإنسان يشير وجود الإنسان إلى حقيقتين: أ. الأولى هي أن الإنسان قد وُجِدَ بعد وجود السلب: مفهوم الكثافة، مفهوم الظلام، مفهوم إبليس–الشر. ب. الثانية هي ضرورة وجود قدرة عاقلة في الكون تعي ذاتها وتعي الحقيقة السامية، وذلك من أجل معرفة الحقيقة والعودة بالوجود المادي إلى الروح، وبالظلام إلى النور، وبالشر إلى الخير. وتتمثَّل هذه القدرة العاقلة بالإنسان. لذا فإننا نبدأ بالحقيقة الأولى. إن ظلام الوجود وسقوطه، بفعل مبدأ السلب، في تكاثف الروح أو الطاقة وظلامها وماديتها، أدى إلى إيجاد قوة واعية، فيه تُدرِك ذاتها، وذلك لتعيد الوجود إلى ما كان عليه، إلى الإيجاب. لقد خططت العنايةُ الإلهية لمجيء الإنسان، فكان الإنسان. فالإنسان رمز لوجود الحقيقة السامية على الأرض وفيها. إنه ممثل المطلق في عالم المقيَّد. وغايته هي أن يتجاوز السلب ويحقق الإيجاب في هذا العالم. لذا كان الإنسان صورة المطلق، وقد حُمِّلَ سرَّ هذا المطلق وجوهره، أي النور والحكمة. يشير وجود الإنسان إلى تركيز النور الإلهي فيه ككائن تجسَّدتْ فيه قوى المادة كلُّها وقوى الروح كلُّها. هكذا تجمعت المادة كلُّها، الكثافة كلُّها، في الإنسان، في مخطط عُرِفَ بـ"الكيان". وفي هذه الكثافة كلِّها تركزت الطاقةُ كلُّها، والنورُ كلُّه، والجوهرُ كلُّه. فكيف حدث هذا كلُّه؟ ولماذا حدث؟ بعد وجود مبدأ النور في الأفلاك، وفي المادة ذاتها، ظهرت حقيقةٌ كبرى هي: إن الكون المادي الساقط بفعل سلبيته، أي بفعل الفيض النهائي ومبدأ السلب المتضمن فيه، لا يستطيع أن يفهم حقيقته لأنه يتركز في بؤرة – هي "تشابك اللانهائي الصغير واللانهائي الكبير"، بحسب تعبير تلار دُه شاردان – تلتقي فيها خيوط الوجود كلُّها: إيجابها وسلبها. لذا فقد أرادت العناية الإلهية أن تركز ذاتها في كائن يتشكل من مادة الكون وكثافته وسلبه، ومن روح – روحه وجوهره – وذلك لكي يستطيع معرفة سرِّ الوجود، سرِّ النور، سرِّ المطلق، لأن مبدأ الوجود يقوم على فهم الإيجاب في السلب.[4] فإذا استطاع الإنسان أن يفهم إيجابَه في سلبه، روحَه في مادته، نورَه في ظلامه، فإن المطلق يتحقق، ويعود الوجود إلى حالته الأولى، وينتهي السلب، وتنتهي الثنائية، وتتحقق الوحدة، كما هي في الحقيقة السامية. لكن الإنسان، الذي جمع الوجودَ كلَّه في كيانه، تعرض للسقوط من كمال إيجابه. فلماذا سقط الإنسان؟ ولماذا جُرِّب الإنسان؟ بما أن الإنسان يشتمل على مادة الكون كلِّها، الميتافيزيائية والفيزيائية، فإن عنصرَي الإيجاب والسلب قد ضُمِّنا فيه. فالسقوط هو التحول إلى السلب من خلال عدم فهم الإيجاب وتحقيقه. وليس إبليس إلا رمزًا للسلب، للقوة النافية، للمقاومة المادية أو السالبة التي تفعل في الوجود. وبما أننا قد علمنا أن الوجود لا يتحقق إلا من خلال السلب، كان الإنسان – الروح المتجسِّد، الإيجاب المسلوب المتمثل في السقوط – عرضةً لمبدأ السلب ذاته الذي غلَّف الوجود منذ البدء. لما جهل الإنسان حقيقتَه سَقَط: فالتجربة لم تأتِه من خارجه، بل من جوهره المسلوب، المغترب. لقد جهل أنه مطلق متجسِّد، وجهل مبدأ سرِّه وحقيقته ووجوده؛ فما كان منه إلا أن تمسَّك بكثافته ولم يعمل على تحقيق سرِّه المصون، سرِّ المطلق فيه. هذا هو السقوط: سقوط الإنسان. فما علاقة المطلق بهذا؟ أليست من خطة العناية الإلهية أن يتألَّه الإنسان؟ أليس "السقوط" أن يرفض الإنسان هذه الحقيقة ويتنكر لها؟ فالمأساة هي مأساة الإنسان الذي لم يدرك حريته. وليست الحرية إلا الانعتاق من العبودية، من الكثافة، من انغلاق المادة، من السلبية، من الظلام. فإن ظلَّ الإنسان عبدًا فلأنه جهل حقيقته. 3. العناية الإلهية ومشكلة الشرِّ في العالم ما الشر؟ وكيف يتحدث الإنسان عن وجود الشر؟ لا شر في العالم. العالم سلب. إذن، الشر سلب. عندما نحاول أن نتفهم حقيقة الوجود المادي، نجد أن المادة لا تفصح عن ذاتها. فأنا لا أعرف إن كان الحجر شرًّا أم خيرًا. إنه حيادي تمامًا. ولكنني أستطيع أن أصبغه بصبغة الخير أو الشر، أو أضفي عليه هذه الصفة. فالحجر، في حدِّ ذاته، لا يتصف بصفات، حتى ولو وصفناه بصفة معينة. فهو يُعتبَر شرًّا إن رمينا به إنسانًا وآذيناه، وخيرًا إن أقمنا به بناءً جميلاً. لكنه، على الرغم من هذا كلِّه، لا يتصف بالخير أو بالشر لأنه حيادي، لأنه سلب. فالشر نفي للخير، أي سلب له؛ إنه انعدام له ولا يتصف بجوهر أو بحقيقة أو بتشخيص. فليس للشرِّ كيانٌ قائم بذاته، بل إن وجوده قائم بانعدام الخير. فالخير – وهو إيجاب – هو الجوهر؛ والشر – وهو سلب – لا جوهر له. هنالك مصدر للخير، وليس هنالك مصدر للشر. فالشر نقص في ماهية الخير. إذا كانت الطاقة الواعية الكامنة في الإنسان خيرًا فإن الإنسان لا يمكن أن يكون شرًّا. لكن الإنسان الذي لا يحقق هذه الطاقة يُعتبَر "شريرًا". في الإنسان محبة للخير، لا محبة للشر. فالشر نفي للخير، انعدام وسلب له. وبما أن الإنسان موجود في عالم السلب، ويحمل هذا العالم في جسده، فإنه يقترف الشرَّ إنْ هو جهل سرَّ الطاقة الكامنة فيه، التي تسمى بالخير. وبما أن هذا السلب لا يعقل ذاته، والإنسان لا يدرك حقيقته، بل يجهلها، فإنه يحقق السلب، فينبثق هذا إلى الوجود، ويكون شرًّا. فالشر لا يوجد إلا بانعدام الخير. لكي نفهم حقيقة الخير والشر، يجب علينا تقديم أمثلة أخرى تتصف بالوضوح. لو أخذنا موضوع النور والظلام، لقلنا إن النور كائن، يتصف بوجود وجوهر وكيان. فللنور مصدر نسمِّيه الشمس، لكن الظلام لا مصدر له. فمن أين يأتي الظلام وهو عديم المصدر؟! إنه نفي للنور وانعدام له وسلب. إذا انعدم النور فإن الظلام يوجد. وليس وجود الظلام وجودًا حقًّا، واجب الوجود بذاته، ذلك لأنه سلب ونفي وانعدام. وإذا تصورنا أن النور يشع على الدوام، علمنا أن الظلام محال. فـ"الظلام" مصطلح كاذب، ناتج فقط عن كثافتنا وعدم قدرتنا على رؤية النور. كذلك إذا أخذنا موضوع المعرفة والجهل، لَقلنا أيضًا إن الجهل انعدام للمعرفة، وذلك لأنه يستحيل أن توجد مَلَكَة تسمَّى "الجهل" أو أن توجد محبة للجهل. هنالك محبة للمعرفة فقط. ولا غرو أن الجهل – وهو عدم المعرفة – يضمحل كلما تحققت المعرفة. فإذا لم يتحقق جوهر المعرفة هذا، فإن الجهل يوجد. وبما أن المعرفة طاقة روحية، فإن الجهل سلبٌ للروح. وبما أن السلب قائم في المادة، فإن الجهل سلب للروح. وبما أن السلب قائم في المادة، فإن الجهل سلب للمعرفة، وذلك عندما لا يعرف الإنسان الغاية من وجوده. أين يقف الجهل، بل أين يوجد، إذا حقق الإنسان المعرفة؟! الجهل ينتج عن كثافتنا التي تخلق الوهم. كذلك لو أخذنا الوعي واللاوعي، لقلنا إن ما ينطبق على المعرفة والجهل ينطبق أيضًا على هذين الموضوعين. هنالك وعي – ونعني أن هنالك جوهرًا أو طاقة تُسمَّى "الوعي". فإذا وُجِدَ الوعي، فإن اللاوعي لا يوجد، ينعدم. إذن، ليس للاوعي من وجود. اللاوعي ينتج عن كثافتنا.[5] هكذا نرى أن الخير إيجاب والشر سلب، وأن المعرفة إيجاب والشر سلب، وأن النور إيجاب والظلام سلب، وأن الوعي إيجاب واللاوعي سلب. فلو توانى الإنسان عن تحقيق الغاية من وجوده، التي تتمثل بالخير والمعرفة والنور والوعي، فإن السلب يتحقق وينبثق إلى الوجود في صيغة الشرِّ والجهل والظلام واللاوعي. ولما كانت في الإنسان ملَكةٌ أو طاقة تسمَّى الوعي أو العقل أو التفكير، فإنه يستحيل أن نجد فيه مَلَكةً أو طاقة تسمى اللاوعي واللاتفكير واللاعقل. فلو وُجِدَت هذه "الانعدامات" فيه كطاقة أصيلة، لما فهم الإنسان شيئًا، لما وعى، ولما أدرك. فهذه التسميات تعبِّر عن سلب للحقيقة وانعدام لها. هكذا نرى أن مسألة الشر في العالم تعبير عن سلب وُجِدَ في العالم: سلب لا قيمة له ولا وجود في ذاته، لكن وجوده يتحقق عندما ينعدم الإيجاب. وهكذا نقول: لا وجود لإبليس كشخص، ذلك لأنه نفي للمطلق وسلب له. ولكن وجوده يتحقق متى توقَّفنا عن تحقيق المطلق فينا أو في الوجود. فالوجود المادي سلب، وإبليس سلب – وليس السلب إلا انعدامًا للخير. ولما كان السلب قائمًا حتى في أصل الوجود، في الميتافيزياء، فإنه يوجد بكثافة زائدة في المادة. وهذا السلب لا يعي ذاته؛ إنه الكمون في المادة، والعطالة، والمقاومة فيها. وهذا الكمون قدرة تتحقق عندما تنعدم القدرة الحق الفاعلة. لذلك لا نستطيع أن نقول بأن للعدم أو للموت أو للسلب وجودًا قائمًا في حدِّ ذاته، بل إن وجودها يقوم من خلال انعدام الحقائق. لكننا، مع ذلك، نستطيع القول بأن السلب قائم في الوجود المادي كنفيٍ للحقيقة أو للسكينة وسلب لها. ففي العالم المادي كوارث نسميها شرورًا[6]، هي: الفيضانات والزلازل والبراكين وأنواع الأعاصير التي لا ترحم. وإذا ما سألَنا سائلٌ عن مصدر هذه الأحداث، أجبنا بأنها السلب القائم في الوجود، السلب الذي لا يعي. وكلُّ سلب فهو تمردٌ وانفعال. ونُسمِّي هذه كلَّها بعبارة هي: المقاومة السلبية. فهنالك إذًا "مقاومة سالبة" تُبديها المادة، تفعل فيها، لأنها لاوعي، لأنها سلب، لأنها نفي للحقيقة وانعدام لها. ولهذه المقاومة وجودٌ سلبي لأنها معدومة الوعي الذاتي، معدومة التفكير الذاتي، معدومة الإيجاب. الحقيقة هي أن المادة تقاوم قانونَ ذاتها. لذا فهي متمردة منفعلة، تتصف بقدرة النبذ. وهكذا يفعل قانونها فيها لتسير نحو تحقيق ذاتها. وفي الواقع، نرى أن الطبيعة المادية تسير تدريجيًّا نحو سكينة أكثر. فالكوارث تقل، والبراكين تميل إلى الهدوء، والزلازل تخف: يميل الكون المادي كلُّه إلى الاعتدال أكثر فأكثر. وبالإضافة إلى هذا كلِّه، نرى أن الإنسان – لأنه يمثل الوعي والإدراك والعقل – يعمل على لَجْمِ الكون المادي والسيطرة عليه. والحق هو أن سلب الإنسان يحرض سلب الطبيعة ويحرِّكه. هكذا نرى أن الوعي ينتصر على اللاوعي بمفهومه النافي، والهدوء على التمرد والانفعال، والإيجاب على السلب، والمقاومة الإيجابية على المقاومة السلبية. نستنتج مما سبق أن العناية الإلهية تدَّخلت في سلبية الكون المادي، فوضعت فيه قانونًا، هو قانونها، يعمل في بطء شديد للتقليل من سلبية المادة المنفعلة. ويتمثل هذا القانون، بالمصطلح العلمي، بـ"الجاذبية"، التي تنتصر على النبذ، ليحقق ملاط الكون الذي هو الوحدة والتجانس والانسجام. 4. العناية الإلهية ومصير الإنسان: حرية الإنسان يُعتبَر هذا القسم الأخير بحثًا في حرية الإنسان. وبما أن الإنسان يجمع في كيانه الإيجاب والسلب كلَّه، فإن الوجود كلَّه يتمثل فيه. هكذا نرى في الإنسان قوى الوجود كلَّها: المطلق كإيجاب كلِّي، وإبليس كسلب كلِّي؛ الخير كإيجاب كلِّي والظلام كسلب كلِّي؛ المعرفة كإيجاب كلِّي والسلب كجهل كلِّي؛ الروح كإيجاب كلِّي والمادة كسلب كلِّي. لذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يفهم كيانه إلا في عالم السلب. أين تقع حرية الإنسان؟ يتدرج الإنسان في كيانه من الوجود كسلب إلى الوجود كإيجاب. إذن، فهو يتدرج من الانغلاق إلى الانطلاق، من العبودية والحتمية إلى الحرية. فالإنسان يخضع للانغلاق وللحتمية في مادته، في سلبيته، ويحقق الانطلاق والحرية في روحه، في إيجابيته. والسقوط، كما قلنا، هو انعدام الروح، وزيادة الكثافة. الإنسان إيجاب محض، وذلك لأن الجوهر الذي يفعل فيه هو الإيجاب. وأما السلب فإنه ليس موجودًا، بل هو انعدام للوجود المحض؛ ويصبح وجودًا في حالة الانعدام هذه. وهكذا نقول بأن الإنسان حرٌّ لأنه يمثل المطلق كلَّه. ولكنه يحاول أن يتخلص من حتمية أُلحِقَتْ به أو من انغلاق. إنه يعمل من أجل الانعتاق بفعل قانون الوعي. فهو يموت في العبودية ويحيا في الحرية. أين هي مسؤولية المطلق؟ أليست هي مسؤولية الإنسان ذاته؟ أليس انعدام المعرفة في الإنسان يؤدي إلى الجهل؟ أليس انعدام الخير فيه يؤدي إلى الشر؟ أليس انعدام الوعي فيه يؤدي إلى اللاوعي؟ أليس انعدام النور فيه يؤدي إلى الظلام؟ أليس انعدام الحرية فيه يؤدي إلى العبودية والحتمية؟ وأخيرًا، أليس انعدام الإيجاب فيه يؤدي إلى السلب؟ فمَن المسؤول عن هذا الانعدام؟ أليس هو الإنسان؟! أين تكمن مشكلة الإنسان؟ مشكلة الإنسان قائمة في انفصاله عن المطلق، في تحوِّله وانحرافه عن الاتصالية الكونية. فعندما أقام الإنسان فاصلاً بينه وبين المطلق، انبعثتْ مشكلتُه ومأساتُه إلى الوجود. فلماذا يلوم الإنسانُ المطلقَ إن كان مبدأ المطلق قائمًا فيه؟ إيجابية المطلق كلُّها قائمة في الإنسان. فمن أين يأتي الشر؟ الشر ينتج عن عدم تحقيق الخير. لقد قتل الإنسانُ المطلقَ فيه. فماذا بقي له؟ إنه يسعى إلى مطلقٍ يتصوره على غرار محدوديته ويجسِّده في إله شخصي يقع خارج نفسه، فيقيم بهذا التصرف فاصلاً بينه وبين حقيقته ومطلقه، ويعتقد بأنه موجود في عالم الغربة، عالم النفي، عالم الشر. وإذن: - فالعالم ليس شرًّا، بل هو سلب؛ لكنه شر ما لم يحقق الإنسان الخير. - العالم ليس جهلاً، بل هو سلب؛ لكنه جهل ما لم يحقق الإنسان المعرفة. - العالم ليس ظلامًا، بل هو سلب؛ لكنه ظلام ما لم يحقق الإنسان النور. - العالم ليس لاوعيًا، بل هو سلب؛ لكنه لاوعي ما لم يحقق الإنسان الوعي. - العالم ليس عبودية أو حتمية، بل هو سلْب؛ لكنه عبودية وحتمية ما لم يحقق الإنسان الحرية. - العالم ليس إبليس، بل هو سلب؛ لكنه إبليس ما لم يحقق الإنسان الحقيقة السامية. - وأخيرًا، العالم ليس سلبًا، بل هو سلب؛ لكنه سلب ما لم يحقق الإنسان الإيجاب. تُعَد الشرورُ الموجودة في العالم جميعًا من صنع الإنسان: كيف وُجِدَ الفقر؟ كيف وُجِدَ الحرمان والفاقة؟ كيف وُجِدَ الاستعباد والاستضعاف والاستغلال؟ كيف وُجِدَت الحروب والمجاعات؟ كيف وُجِدَت الكبرياء والبغضاء والتسلط؟ كيف وُجِدَ القتل والطمع؟ كيف وُجِدَت الأنانية؟ كيف وُجِدَ الجهل واللاوعي؟ كيف وُجِدَ هذا السلب، بأنواعه كلِّها؟ إنها جميعًا وُجِدَت بسقوط الإنسان، بسلبيته، بعدم إيجابيته، بنفي حقيقته. فالإنسان مسؤول، لأنه لا يحقق العناية الإلهية – الإيجابية بكاملها. الإنسان يعمل من أجل الانسجام مع الطبيعة المادية. إنه يحاول أن يتساوق معها، أن يتفاعل معها ويتكامل معها. وهل يُعتبَر هذا التساوُق حريةً أم عبودية؟ إنه يُعتبَر حريةً، ذلك، لأنه يستعمل قوى الوعي والإيجاب ضد المقاومة السلبية القائمة في المادة. لكن الإنسان لا يعمل على فهم سلبيته هو، ليقاومها بإرادة إيجابية. لذلك فقد حريته. وهو لن يستعيدها إلا متى حقَّق الإيجاب فيه، متى حقَّق المطلق فيه. وعندئذٍ، تكون حرية المطلق هي حرية الإنسان، وإيجابية المطلق هي إيجابية الإنسان – ولن يكون للشر أو للسلب إذ ذاك من وجود. *** *** *** [1] المادة مشعة، على الرغم من كثافتها وظلمتها الظاهريتين. [2] تشير "ثورة الملائكة" إلى درجات الفيض الهابط، إلى التطور الهابط من عوالم أكثر نورانية وشفافية إلى عالم المادة. وتشير حقيقة إبليس – وهو واحد من الملائكة الساقطين – إلى آخِر فيض، أي إلى تشكُّل عالم المادة ومبدأ السلب الناتج عن تجمع الطاقة وكمونها في الكتلة. إذن، ليس إبليس شخصًا: إبليس هو المقاومة السالبة الكامنة في المادة التي تحُول دون تفتح الطاقة المنغلقة عن حقيقتها ووعيها. [3] يشير "السقوط" إلى الفيض الأخير من سلسلة الفيوض المنبثقة من الحقيقة السامية إلى الوجود المادي. ويُفهَم السقوط على أنه رمز لتكوُّن أو تشكُّل العالم المادي، عالم الثنائيات: الإيجاب والسلب، النور والظلام، المادة والروح، إلخ. [4] الإيجاب والسلب حقيقة واحدة؛ لكنهما ثنائية ظاهرة في عالمنا. [5] اللاَّوعي، في هذا السياق، يشير إلى عدم الفهم (هذا ما أخذتْ به غالبية الباحثين)؛ وهو، في حقيقته، الوعي الكامن الذي يسعى إلى الانبثاق إلى الوعي المتصل بالوجود الخارجي. [6] إن عدم وجود الشر في جوهر الوجود يعني أن هذه الكوارث مجرد "مصاعب" تكمن في صُلْب الكثافة المادية، وليست "مصائب". راجع فصل "فلسفة الصعوبة" في كتابي رسائل في مبادئ الحياة. |
|
|