|
نـفـحـة
إلى روح ميخائيل عيد
يقول الحكماءُ والفلاسفة، يا صديقي، إن الفناء يطول الجسد فقط. أما الروح، فهي باقية – من الأزل إلى الأبد. ويقولون أيضًا إن الجسد نفسه لا يفنى، بل يتحول إلى عناصر تساهم في تكوين أنسجة حية أخرى في الطبيعة. ولكن، يا صديقي، على الرغم من كلِّ ما يقولون، ومن كلِّ ما يعزُّوننا به كي نبقى متماسكين أمام حالة الموت، فلا نضعف أو نتهاوى، فإن فراقك، أيها الغالي، مؤلم للغاية! يوم الخميس! لماذا اخترتَ، يا صديقي، هذا اليوم بالذات موعدًا لارتحالك؟! ألأنك كنت تعدُّه دائمًا يوم راحتك الأسبوعي، فتتحرَّر فيه من روتين الحياة الممل، وتترك لمشاعر ودِّك الصادقة أن تعبِّر عن ذاتها تجاه بعض الأصدقاء الذين لم تكن تتردد حين تطلق عليهم هذا الاسم، فتشاء أن تعرِّج عليهم، لتطمئن إلى أن النقاء ما يزال موجودًا على هذه الأرض التي باتت كثيفة وملوثة؟! ألهذا اخترتَ، يا صديقي، أن يكون هذا اليوم بالذات موعدًا لراحتك الأخيرة من هذا العالم الذي أتعبَك، واستنفد الكثير من طاقتك، حتى بتَّ تشتاق إلى عالم جديد، عالم من نور، حيث لا زمان، ولا مكان، ولا كثافة، حيث لا شيء آخر ماعدا الضياء – الضياء ذاته الذي كنت أراه يغمر محيَّاك، وأنا أتحدث إليك، وأرى ابتسامتك المرتسمة على شفتيك تزيح عن صدري ثقل الضوضاء المدمِّرة وبرودة المشاعر بين البشر، الغافلين عن كلِّ ما هو نابض بالحياة. لم أكن قادرة يومًا، يا صديقي، وأنا جالسة في غرفة مكتبي الصغيرة، على تمييز صوت أيٍّ كان بقدر تمييزي لرنَّة صوتك، التي كانت تسبق قدميك إلى مكان عملي. وكان قلبي يفرح وأنت تنادي صاعدًا الدرج الموصل إلى غرفتي: "أين أنتِ، يا صديقتي الغالية؟ أنت تعرفين أنني لا أستطيع أن أفوِّت زمنًا طويلاً دون أن أُطَمْئن نفسي أن الدنيا ما تزال بخير!" وقبل أن تفسح لي مجالاً للترحيب بك، كنت تتابع، وأنت تتخذ مكانك قبالتي، ووجهك يطفح بالنور: "عندما أراكِ، وأرى بعض الأصدقاء الآخرين، لا أعود أحس بالغربة." ولقد اغتربتَ، أيها الصديق، طويلاً! غرَّبتْك الحياةُ منذ أن كنتَ طفلاً، ترضع من ثدي امرأة لا تشبه أحدًا! – امرأة من نسج الخيال والأساطير. فأي حليب كان حليبها الذي رضعتَه، وأي طفل، وأي يافع، وأي شاب، وأي رجل كنت أنت؟! لم يرمش لك جفن حين رمتْك الحياةُ في مصهرها وجلستْ تتفرج عليك! وانصهرتَ، يا صديقي، – انصهرتَ حتى آخر ذرة فيك! وبانصهارك هذا، تخلَّصتَ من كثير من الشوائب التي تعلق بالطبيعة البشرية. وحين استعدتَ قوامك من جديد، كان قوامًا نقيًّا صافيًا – كان قوامًا إنسانيًّا! بقدميك الثابتتين أبدًا، وبخطواتك الواثقة، تابعتَ الرحلة الصعبة. لكنك لم تنسَ، وأنت تغذُّ الخطو، وعرقك يتصبَّب من مسام جسمك النحيل – لم تنسَ ابتسامتَك العذبة، ولم تنسَ أن في ذاك الجسم النحيل قلبًا يخفق على نَغَمٍ واحد فقط، هو نغم المحبة، ونفْسًا ترعى شعلةَ الخير المتأججة في أعماقها وتذكيها كي تبقى ملتهبة على الدوام. *** *** *** نسخة منقحة عن مقال منشور في النور، العدد 216، 28/9/2005
|
|
|