|
تيي وكاهن المعبد والفينيق
تمهيد: معظمنا سمع وقرأ عن طائر الفينيق Phoenix، وليس من أحد يسأل عن ماهية أسطورة الفينيق! فبعض الذين يعرفون هذه الأسطورة لا يعلِّمونها على حقيقتها المرتبطة بأرض كنعان والمتميزة عن باقي الأساطير المنتشرة في أمصار العالم القديم كافة، مثل مصر وبلاد ما بين النهرين واليونان والصين والجزيرة العربية، ولدى الشعوب القديمة في المكسيك، إلخ. فلكلِّ حضارة أسطورتها التي تختلف عن سواها في بعض التفاصيل، لكن الهدف يبقى واحدًا، وهو أن الفينيق، بعد أن يحترق ويموت، يعود إلى الحياة – مما يعني أن بعد الموت قيامة. أسطورة الفينيق كنعانية المنشأ بلا ريب، أي أنها نبتت في أرض كنعان، فينيقيا. ذكرت في كتابي الكنعاني الأول أن كلمة فينيق مرادفة لاسم كنعان، وأن أحد أسباب إطلاق صفة "فينيقي" على الشعب الكنعاني هو نسبته إلى طائر الفينيق الذي كان رمزًا له. وقد شاءت المصادفة أن أكتب رواية تاريخية ترتكز بدايتها على طائر الفينيق الذي يختار الفتاة التي تحمل رسالة السلام إلى العالم. جُمِعَتْ معطيات هذه الأسطورة كلُّها ونُسِّقَتْ ضمن الإطار الكنعاني: فالقصة تتكلم عن الملكة تِيي TIYI الكنعانية[1] التي حملت فكرة الإله الواحد إيل من أرض كنعان إلى مصر، حيث تزوجت الفرعون أمنحوتب الثالث الذي حكم مصر في القرن الرابع عشر ق م؛ وهي أم أخناتون الذي أعاد إحياء فكرة الإله الواحد وأسماه أتون (بتأثير من أمِّه الكنعانية غالبًا). نقتطف هاهنا مقطعًا من الرواية التي لم تنتهِ فصولُها بعد، لنضعها بين أيدي المتشوقين إلى معرفة هذه الأسطورة. ملاحظات:
***
مدخل كانت العذراء تيي تصلِّي في المعبد أمام تمثال عشتروت[2] في جبيل، عندما سقطت إصبع من يد التمثال. خافت تيي وهربت. ثم التقت كاهن المعبد الذي، بعدما أعاد الإصبع إلى مكانها، أخذها إلى لوحة قديمة تتكلَّم عن نبوءة. النبوءة والفينيق توقفا أمام حائط مغطى بنبات العريش والأعشاب البرية، فأزالها الكاهن بيديه وأزال أيضًا بعض التراب، لتنكشف لوحةٌ مكتوبة بلغة كنعانية قديمة ورموز وطلاسم. نظر الكاهن إلى اللوحة مليًّا. وضع يده يتلمَّس حروفها، كأنه كفيف يقرؤها بحاسة اللمس؛ فبعض الحروف تآكلت مع الزمن. قال: عندما أنفض رماد الموت عنه أبعثه حيًّا... سيبحث عنها قبل موته مجددًا... أُعطيها المفتاح بعد أن يهتز... أميرة جميلة تحمل سمات البشر... لا هي بيضاء ولا سوداء... تتكلَّم بلغاتهم وستحمل رسالتي إلى العالم... أكون معها أنَّى ذهبتْ... موجود في بيضة القلب... قالت تيي: - قد علمت، أيها الكاهن شمشئيل[3]، لكني لم أفهم. فما القصد من هذه العبارات؟ - تيي، يا ابنتي، اسمعيني جيدًا. هذه اللوحة تعني أن طائر الفينيق، عندما يقوم من موته، سيبحث عن الفتاة... قاطعتْه: - طائر الفينيق؟! إذن لم أكن أحلم. رأيته... وأحسست أنه يكلمني... لم يدعها تكمل حديثها عندما قال: - طائر الفينيق سيشير إلى الفتاة التي ستحمل رسالة الأميرة المختارة. إنه يعيش الآن أواخر أيامه، وسيعود إلى جبال لبنان ليبني عشَّه. نظر إليها وتابع: - أنت فتاة جميلة، وصفاتك مثل صفاتها، وقد درستِ اللغات في أوغاريت[4]. لقد اختارك الفينيق، والإلهة عشتروت أعطتْك المفتاح. عقدت تيي حاجبيها، وحركت رأسها قليلاً، وسألته في تعجب ظاهر: - المفتاح؟! - أجل، إصبع التمثال التي وقعت على الأرض. سكت قليلاً. وضع يديه خلف ظهره، ومشى قليلاً وهو ينظر إلى جدران المعبد. تنهد وقال: - كنت أنتظر، كأجدادي وآبائي، هذه اللحظة لتكتمل النبوءة، فنعرف ماذا يوجد في سرداب المعبد. نظر إلى تيي التي مازالت في حالة الاستغراب، وقال: - اتبعيني، يا ابنتي. مشت تيي وراء الكاهن، لكنها توقفت سائلة: - أنا لست أميرة! ابتسم الكاهن، والتفت إليها قائلاً: - ألا تظنين نفسك أميرة؟! أما حلمت يومًا بأنك أميرة؟! اكتفت تيي بالابتسام، وأكملت: - أخبرني... كيف وصلت هذه الأشياء إلى هنا؟ والمفتاح، ما قصته؟ مشى الكاهن في تمهل، ومشت تيي إلى جانبه. قال: - نزلت النبوءة على ملكي صادق[5] عندما جاءه صوت الإله إيل يخاطبه قائلاً: "ابحثْ لي عن هذه الفتاة وأعطِها ما سأعطيك." هذا ما حدث منذ خمسمائة ربيع. وقد أرشده طائرُ الفينيق إلى الأميرة التي جمعه بها حبٌّ سماوي. عملا معًا على نشر السلام في أرض كنعان، ابتداءً من مدينة يبوس التي تُعرَف باسم أور–ساليم[6]. ثم تناهى إلى بعض اللصوص أن مع الأميرة المختارة شيئًا لا يُقدَّر بثمن، فقاموا بقتلها، لكنهم لم يجدوا معها شيئًا، فظنوا أن مَن يملك هذا الشيء يملك ثروات الأرض ويصبح خالدًا. تنفس الكاهن الصعداء، وأضاف: - بعد موتها، حزن ملكي صادق كثيرًا، واختلى بنفسه، حتى أتاه كلام إيل ثانية، وأمره بما يجب أن يفعله بعد هذه الحادثة الأليمة. اجتمع ملكي صادق مع تلاميذه السبعة وأعطاهم التعليمات؛ فبنوا الهيكل هنا في جبلة[7] ونحتوا تمثال عشتروت، ووضعوا المفتاح في طرف الإصبع من الداخل، وأعادوا الإصبع إلى مكانها، بحيث لا يراه ولا يعرف أحد مكانه سواهم، وخبَّؤوا ما كانت تملكه الأميرة المختارة في مكان سرِّي داخل المعبد، وكتبوا اللوحة لخوفهم من ضياع النبوءة. - لكن كيف تقع إصبع التمثال وحدها؟! سألته تيي. - لم تقع وحدها، بل بسبب هزة خفيفة لم تشعري بها، حدثت عندما مرَّ طائر الفينيق فوق المعبد! فهو يصدر صوتًا غير مسموع، تحدث معه ارتجاجات. وهو قصد أن يوقع المفتاح، وحدث ذلك عندما علم أنك داخل المعبد... لأنك أنت المختارة الآن! هزت تيي رأسها بحركات صغيرة ومتتابعة، وقالت: - الآن فهمت كلَّ شيء! أن أكون أنا المختارة، هذا كثير علي! عند ذاك وصل الكاهن وتيي إلى باب المعبد. غرفة الفينيق نظر إليها الكاهن نظرة فيها بعض الأمل، وقال: - الخيار خيارك الآن لتكملي المهمة السماوية: إما أن تدخلي وتستعملي المفتاح وتأخذي ما لك، وإما أن ترجعي من حيث أتيت لننتظر خمسمائة سنة أخرى! لم يكن القرار صعبًا على تيي التي قالت: - إن تكن هذه مشيئة إيل فليكن لي بحسب قولك! دخلا باب المعبد، واقتربا من تمثال عشتروت في صمت. كانت تيي تسمع دقات قلبها من شدة الإثارة، وربما بسبب الخوف من هذه المسؤولية. دنا الكاهن من يد التمثال ليأخذ المفتاح. مدَّ يده، لكنه توقف. قال: - تيي، انتزعي أنتِ المفتاح! اقتربت وهي تنظر إلى عينَي عشتروت، كأنها تعتذر منها. مدَّت يدها في حذر إلى يد التمثال، وانتزعت الإصبع–المفتاح بحركة مرتجفة. (وهنا سر المفتاح الذي لا يُنتزَع إلا بحركة ارتجاجية.) قادها الكاهن إلى ما وراء التمثال، واقترب من الحائط، ثم وقف قليلاً يتلمس موضعًا ما، فوضع يده عليه، وضغط براحة كفِّه بقوة في مكان معين. صدر صوت صرير، صوت حجر يسحن حجرًا آخر، ممتزج بصوت بوابة حديد عتيقة أكلها الصدأ وهي تدور على محورها. تحرك الباب الذي يشبه الحائط ودار على وسطه، فأصبح نصفه داخل المعبد والنصف الآخر في السرداب. حمل الكاهن الفانوس الزيتي وبدأ ينزل درجات السرداب السبع، وتبعتْه تيي بفانوسها خائفةً، تتلفت حولها وهي تزيل خيوط العنكبوت التي ملأت المكان كيلا تشتبك بشعرها. وصل الكاهن إلى حائط مسدود عليه آثار تحطيم. أردف قائلاً: - أجل، حاول بعض اللصوص فتح ثغرة فيه... وهنا وجد أبي أحدهم مغشيًّا عليه. عندما استفاق لم يسأله والدي لماذا فعل ذلك، بل سأله ماذا حدث معه. أجابه اللص: "البارحة كانت ليلة دامسة الظلمة من أيام الشتاء التي يكثر فيها اللمع والبرق. جئت أبحث عن الهدية السماوية. وعندما حاولت كسر الحائط، خرج نور قوي من ثقب المفتاح غمر المكان، ولا أدري إن كان نور البرق. بدا جميلاً، تشعر معه بالصفاء وتسري فيك قشعريرةٌ لذيذة. حاول أن يخترقني. وعندما رفضتُه وقاومتُه، أحسست كأنني أقف في الفراغ، وسقطت في هاوية عميقة مظلمة لا تنتهي، ولم أدرك شيئًا حتى هذه اللحظة." في صمت، وقفت تيي والكاهن أمام الحائط المسدود ينظران إليه. كان هناك ثقبان: ثقب مفتاح، وفوقه ثقب دائري، وبعض الرموز وكتابة كنعانية قديمة في أسفل الباب الحجري. جلس الكاهن القرفصاء، وقرَّب نور فانوسه ليقرأ الأحرف في وضوح. وضع يده على الرموز المكتوبة وبدأ في قراءتها في تمتمة ظاهرة. لقد سبق له أن قرأها مرارًا، لكنه أراد أن يتأكد من كيفية فتح هذا الباب بحسب التعليمات المعطاة ليتجنب أية لعنة أو مفاجأة. تمثال الفينيق قال الكاهن لتيي: - أطفئي فانوسك واسكبي زيته في الثقب. صمت قليلاً، ثم قال: - أدخلي المفتاح في ثقب المفتاح وأديريه مرتين. خَفَتَ النور في السرداب بعدما همدت شعلة فانوس تيي. سكبت الزيت في الثقب، ثم أدخلت المفتاح. لم تشعر تيي بأية مقاومة، ثم سمعت تكة خفيفة مرتين، فقالت: - لا أشعر بأني أفتح قفلاً! ردَّ الكاهن: - إن كهَّان ملكي صادق علموا أنه سيمر وقتٌ طويل قبل أن يُفتَح هذا الباب، لذلك جعلوا منه شبه قفل لكي لا يتسبب الصدأ في تعطيل الباب، وتركوا ممرًّا صغيرًا ليُسكَب منه الزيت على حديد القفل، فتسهل حركتُه. الآن ضعي إصبع المفتاح في ثقب الزيت واضغطي. سحبت تيي المفتاح، وقلبته، ووضعت الإصبع في الثقب المفصَّل على شكل الإصبع وحجمه. ضغطت تيي في قوة، فسمعت تكة قوية وصوت حجر يتحرك من مكانه جعل الباب ينفصل عن حائط السرداب. نظر أحدهما إلى الآخر نظرة نجاح وإثارة ممزوجة ببعض الخوف. دفع الكاهن الباب في قوة بكلتا يديه بعدما أعطى تيي الفانوس. فُتِحَ الباب. دق القلبان في سرعة وهما ينتظران انقشاع الرؤية في الغرفة. أول ما طالعهما في هذه الغرفة الباردة رائحة الرطوبة والتراب مع بعض العفن. أخذ الكاهن الفانوس من تيي وأضاء المشعلين اللذين كانا إلى يمين الباب ويساره. اخترق نورهما ظلام الغرفة الصخرية الصغيرة الحجم ذات السقف الواطئ: غرفة مزخرفة برسوم جدارية للأميرة المختارة وملكي صادق. وفي واجهتها، طالعهما تمثال لطائر الفينيق، رجلاه في الأرض وجناحاه مفتوحان وملتصقان بسقف الغرفة ويحتلان مساحة كبيرة من جدرانها. سقف الغرفة كأنه قبة السماء، رُسِمَتْ عليه الشمس والكواكب والنجوم، وقد لُوِّن بألوان زاهية، وتآكل بعض الطلاء بعامل الزمن. فغرت تيي فاها من روعة جمال الغرفة. حدق الكاهن في الرسوم والمنحوتات في دقة ظاهرة: كلها يتكلم عن قصة ملكي صادق والنبوءة. قال، قبل أن تسأله تيي التي تعودت كثرة الأسئلة: - الظاهر أن الكهان أولوا اهتمامًا كبيرًا بهذه الغرفة، فأعطوها معنى روحيًّا وسماويًّا، وأعطوا طائر الفينيق الدور الأهم بجعله صلة الوصل بين السماء والأرض، بين الإله والشعب، بين الجنة السماوية والحياة الأرضية، وكتبوا بالرسوم قصة النبوءة وطائر الفينيق مع ملكي صادق والأميرة. في اليوم الثالث بُعِثَ حيًّا قالت تيي: - أيها الكاهن، أخبرني عن طائر الفينيق!
وبدأ الكاهن في الكلام، وهو يتلمس الجدران باحثًا عن الهدية السماوية، قال: - عاش طائر الفينيق في الجنة. وكما شاهدتِه، حجمه نسري، لونه ذهبي ناري، وهذا من أهم صفاته. على رأسه طرة من الريش كأنها تاج. جناحاه أكبر من جناحي النسر العادي، وريشه ناعم الملمس ملائكي. يظهر له ذنب طويل من الريش الأحمر البرتقالي والأصفر خلال أسفاره الطويلة. فبعد أن نيَّف على الألف ربيع واكتسب المقدرات السماوية والحكمة، أراد أن ينزل إلى الأرض لكي يرى كيف يعيش الناس، فيشاركهم آمالهم وأفراحهم. شقَّ هذا الطائر الألفي طريقه من الجنة إلى الأرض، وقطع البحار والجبال والسهول، حتى استوقفتْه رائحة اللبان والبخور الصنوبري المنبعثة من جبال لبنان، فبنى عشَّه على أعلى شجرة أرز من اللبان والمر والعنبر. وفي الصباح، عندما لاحت خيوط الشمس، شاهد شروقًا لم يبصر له نظيرًا في جماله خلال جميع أسفاره، فبدأ ينشد الأغاني السماوية بصوته العذب الملائكي. وعندما سمعه إله الشمس، خرج إليه وهو على عربته التي تجرُّها أربعة أحصنة نارية ليشكره، وأراد أيضًا، عند طلبه، أن يريه آلام الناس وعذاباتهم. نقل إله الشمس لطائر الفينيق صورة حية وحسية عن الحياة الأرضية. بدأ الطائر الألفي في الصراخ من الغضب والألم لما أحس به من عذاب وظلم بين الشعوب، وبدأ يضرب بجناحيه داخل العش، فبدأ العنبر يطلق ومضات ولمعات. أجفلت الأحصنة، وضربت بحوافرها في قوة، فطارت شرارات نارية إلى العش كانت كافية لإحراق الفينيق في داخله. لم يغادر هذا الطائر عشَّه، فاحترق باختياره، مشاركًا الشعب في آلامهم وعذاباتهم، وتحوَّل إلى رماد.
استمعت تيي إلى الكاهن في شغف، ثم سألته في استغراب: - إذن ضحى بنفسه حرقًا؟! أردف الكاهن قائلاً: - أجل... لكن لم تكن هذه نهاية الفينيق، بل البداية. خرجت بيضة من تحت الرماد. في اليوم الأول، كبرت البيضة، وفي اليوم الثاني، خرج منها جناحان، وفي اليوم الثالث عاد الفينيق حيًّا. حمل الطائر عشَّه البخوري، وطار به إلى مدينة الشمس بعل-بت[8]، وقدَّمه على مذبح الإله. ثم طار من جديد إلى الجنة. لكنه فضَّل أن يعود ويموت في أرز لبنان على أن يبقى في الجنة السماوية إلى الأبد. هذا ما يحدث كلَّ خمسمائة ربيع أو أكثر قليلاً: يموت الفينيق ويُبعَث حيًّا من رماده.
أضاف الكاهن: - طائر الفينيق يمثل الخلود والحياة الأبدية، ويمثل السلام والمحبة، ويحس بآلام البشر على الأرض. وميزة طائر الفينيق أنه يُحيي من رماده ويشفي من دمعه. يقال إنه أحيا أحد أبناء أجدادي هنا في جبيل، واسمه ريسى[9]. إذا بكى على أيِّ جرح يبرأ. وإذا مرَّ، ترك وراءه رائحة المر واللبان. وحدهم الحكماء والكهان وأصحاب البصيرة المفتوحة يبصرونه؛ لكن عند موته يمكن أن يشاهده الجميع. وحين يشاهَد، تقام احتفالات وطقوس دينية، فينتظرونه ليُبعَث حيًّا كي يحتفلوا. وتطغى البهجة والفرحة على الشعب الذي يعلم أن طائر الفينيق يجول في أرضه ويحميه. وكما تعلمين، يا ابنتي، بما أنه لا يظهر سوى مرة واحدة كلَّ خمسمائة ربيع، فإننا نحتفل بعيده مرة كلَّ ربيع خامس لتمجيده وتخليد ذكراه. ويحل هذا اليوم عند نهاية الشتاء قبل عيد البعل. استمتعت تيي بأسطورة الفينيق، لكنها بدت حزينة. نظرت إلى تمثال الفينيق في رقة وحنان، وقالت: - قصة الفينيق جعلتْني أشعر بالحزن والفرح معًا، بالحب والألم، بالحياة والموت! واقتربت منه وتابعت: - كم أنت جميل! كم أحبك! أنت الآن ذاهب لتقدِّم نفسك محرقة وأُضحية من أجل البشر. فقد حان الوقت لذلك بعدما تمت النبوءة. عندئذٍ بدأت تتلمَّسه وهي تُعرِب عن حبِّها له. وفجأة، رأت شقًّا صغيرًا في بطن التمثال، فتفحَّصته، حتى توقفت عند ثقب صغير على جانب جسم الفينيق، ونادت الكاهن قائلة: - ألا تقول النبوءة شيئًَا عن قلب البيضة أو عن القلب؟ انظر هنا! وبدأ الكاهن يتلمس وسط جسم الفينيق، وقال: - يوجد شيء ما بداخله... حاولت تيي إدخال إصبع عشتروت في الثقب، لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا لأنه أكبر من الثقب. وهنا قال الكاهن: - تيي! أصبحتِ أنت المعنية. فأنت التي ستفتحين قلب الفينيق! فهمت تيي إلام قَصَدَ الكاهن، فوضعت إصبعها في الثقب، وضغطت على شيء بارز داخله. سُمِعَتْ تكة، وكانت النتيجة أن فُتِحَ الشق الذي وسط جسم الفينيق. حُبِسَت الأنفاس. اقتربت تيي، ومدت يدها داخل التمثال. كانت هناك بيضة بحجم اليد أو أكبر قليلاً. كانت رصاصية اللون، لا هي خشبية ولا معدنية. قال لها الكاهن: - إنه معدن كوني. أخذت تيي البيضة بين يديها – وكانت مشقوقة في وسطها – ونظرت إلى الكاهن، وكأنها تسأله عما تفعل. هزَّ الكاهن ما في داخل البيضة، ثم خرَّ ساجدًا وبدأ يصلِّي. لم تفهم تيي ما حدث، فنظرت إلى داخل البيضة، فرأت تمثالاً صغيرًا لم تشهد مثله جمالاً. كان لونه أزرق مخضرًّا قليلاً، يبث نورًا أخَّاذًا لامس روحها، فأحسَّت معه بالصفاء والأمان. تلمَّستْه تيي، فكان صلبًا مخمليًّا، لا هو منحوت من صخر ولا من حجر كريم ولا مصنوع من زجاج. ظلت تيي تنظر إليه وهي مذهولة بروعته وسحره. حتى قال لها الكاهن وهو ينتصب واقفًا: - كنت أظن أنها أسطورة، لكنها الآن حقيقة! كل الكهان في أنحاء بلاد الأنهر[10]، منذ القديم إلى اليوم، يتكلمون على تمثال إيل السماوي وهو مستوٍ على عرشه. سكت قليلاً، وغيَّر نبرة صوته قائلاً: - مثلما أخبرني أبي، نقلاً عن أجداده، نُحِتَ تمثال إيل في جبل حرمون[11] على يد أخنوخ[12] وأولاده وأحفاده، ويقال إنه نُحِتَ على مدى سبع وسبعين سنة، وهو مصنوع من حجر سماوي يشبه اليشب. وكانت تقام طقوس عند النحت. وقد استقدموا أهم نحاتي مصر وبابل وكنعان، وكانوا يستعملون أدوات نحت صُنِعَتْ خصيصًا لهذا التمثال. كان النحات يقوم بطقس التطهير بالمياه قبل المباشرة في العمل، وكلُّ نحات يرفض طقس التطهير الذي يوحِّد الجسد والعقل والروح مع الإله إيل يُمنَع من النحت. وعندما ينتهي من ذلك، يضع قطعة من قماش الأرجوان تحت التمثال، ويباشر في النحت. فبهذا لا يقع غبار المنحوتة على الأرض. وكلُّ نحات يطلق اسمًا على كلِّ حبة غبار من بقايا التمثال. وعندما تنتهي الأسماء التي يطلقها، يتوقف عن النحت، ويحتفظ بما معه بعد أن يلفه بقطعة القماش الأرجوانية. ومن هنا كان النحات لا يقدر أن ينحت سوى جزء صغير جدًّا، خاصة أن نور الحجر البرَّاق يبهر أعين النحاتين. ويقال إن مَن يجمع غبار التمثال كلَّه من جديد سيكون ملكًا على الأرض كلِّها... *** *** *** [1] شخصية تاريخية حقيقية، أبوها الشيخ يويا من فينيقيا وأمها تويا. [2] إلهة كنعانية ارتبط اسمُها بأسطورة أدونيس. [3] أي "شمس إيل". [4] مدينة في شمال كنعان، تقع على الساحل السوري، وُجِدَتْ فيها أول أبجدية معروفة. [5] كاهن أورشليم الكنعانية نحو سنة 1870 ق م. [6] أورشليم أو القدس حاليًّا. [7] الاسم القديم لجبيل الحالية، وهي غير المدينة السورية المعروفة. [8] أي "بيت البعل"، وهو الاسم القديم لبعلبك. [9] الاسم مأخوذ من رواية للشاعر سعيد عقل. [10] أي أرض ما بين النهرين وكنعان ومصر. [11] جبل الشيخ. [12] هرمس عند الإغريق أو إدريس عند العرب. |
|
|