|
في النقد الأدبي والتطور الكوني والتصوف الجوعُ الأكبر جوعُ الإنسان إلى المعرفة والحرية مرداد: "الإنسانُ إلهٌ في القمط"
الناسك الذي ودَّعناه بالأمس[*] – "ناسك الشخروب"[†] – أفقَدَنا شيئًا من الطمأنينة كنَّا نتمتع بها، من دون أن ندري، في زمن الحرب، لمجرد أنه موجود بيننا! كان نعيمه (1889-1988)، الذي ظل محتفظًا بذاكرته وهو في التاسعة والتسعين، ممسكًا أيضًا بالذاكرة اللبنانية التي تشوَّشتْ في زمن الحرب، ويَصِلُنا مباشرة بالدور اللبناني الكبير في النهضة العربية. عندما عاد إلى لبنان قبل أكثر من نصف قرن، قال إنه عاد إلى "هذا البلد الهادئ والآمن". ولم تتغير نظرتُه إلى وطنه زمن الحرب، ليس لأنه لم يتأثر بما يجري، وليس لأنه لم يشعر بغُصة، بل لأنه كان ينظر دائمًا إلى الأبعد، ككلِّ فكره الذي يصب في الأبعد، في المستقبل. لم يكن ليقيس الزمنَ بالمسافات الصغيرة، واثقًا أنه "لا يصح سوى الصحيح"، كما يحلو له أن يردد، ربما لثقته بالمطلق الإنساني – وما التجارب والمحن له سوى محك الوعي، على الطريق الحتمي إلى الأعلى. هو يقيس الأشياء كلَّها بالمطلق – إلا الوعي يقيسه بالتجريب. الحدث مفتاح الوعي في فلسفة نعيمه. أعرف أن بعضهم يحسده على هذا الموقف، وأن بعضهم الآخر يلومه على العيش في المستقبل؛ لكن بعضهم الثالث يدرك بحق أبعاد هذا الموقف لهذا الرجل الذي عاش كثيرًا ورأى كثيرًا، أفقيًّا وعموديًّا، واختار بنفسه، لرقدته الأخيرة، ثقبًا في صخرة في الجبل، بكلِّ ما يحفل به هذا الرمز من تكامل مع نظريته الدائرية، حيث موقعُه في قلب نقطة الدائرة، وبينه وبين أطرافها كلِّها شعاع واحد متساوي المسافة في كلِّ اتجاه: في بصيرته رؤية شاملة للتاريخ، وفي بصره رؤية شاملة للعالم الذي، على حدِّ تعبيره، يسير في اتجاه "دولة عالمية واحدة ودين عالمي واحد، هو الدين الإنساني"؛ ففي ذلك اليوم "تتمزق غشاوات التعصب الإقليمي والعرقي والديني عن أعين الناس... فيكون ما ينفع أمةً ينفع كلَّ الأمم، وما يضر أمةً يضر كلَّ الأمم". انسجامًا مع أسلوبي في تقديم أدباء النهضة، كنت أود أن "أبتكر" حوارًا مع ميخائيل نعيمه، مما كَتَبَه، ألخِّص فيه فكرَه وأدبَه وحياتَه. لكنني، هنا، أستعيض عن اختراع الحوار بحوار لي معه، لمجلة شعر، صيف العام 1968. كان نعيمه يومذاك في الثمانين. أكمل رسالته الأدبية ونشر آخر أهم كتبه: مسرحية أيوب[‡]. كان في ذروة وعيه وحدة ذاكرته عندما قصدناه، أنا وصديقي الشاعر نقولا قربان، إلى "صخرته" في الشخروب. ولم يكن القصد محاورته، بل استدراجه إلى تلخيص نفسه بأبسط تعبير ممكن وأكثفه. وإن كان بعض هذا "الاستدراج" شابَه بعضُ الحدة، فليس إلا لإتاحة الفرصة له للدفاع عن بعض ما يأخذه بعضُهم عليه. وقد تعمدتُ المشافهة لأنها الأقرب إلى التعبير عن الصورة، بعكس المكاتبة التي تسمح بانتقاء الكلمات بعد روية، والاستعانة بالوقت للاستذكار، في حين أن المشافهة تفترض حضور الكلمات في عفوية، والذكرياتِ الأعلق بالذهن والأكثر رسوخًا، والأفكار الأكثر تبلورًا. وبدت لي أهمية هذا الحديث، كمرجع أكمل عن "صورة نعيمه بريشته"، لدى مراجعتي لكتابه أحاديث مع الصحافة، الذي تضمن عشرات الأحاديث في عشرات السنوات – ماعدا هذا بالذات، ربما لضآلة انتشار مجلة شعر وقتذاك. ولم أفعل هنا سوى إعادة تقطيع القسم الأول منه وحذف بعض المقاطع، مع الإبقاء على كلام "الناسك" الذي ودَّعنا في حياته... على رجاء حياة جديدة! ع.م. ***
إذا طلبنا منك أن تلخص سيرتك الذاتية، فماذا تقول؟ سيرتي في سبعون، في ثلاثة مجلدات، يصعب عليَّ أن أوجزها؛ ومع ذلك سأحاول فأقول: ولدت في أواخر القرن الماضي في قرية ككلِّ القرى اللبنانية، يرتزق معظم سكانها من الأرض، من عائلة أرثوذكسية. سافرت إلى الناصرة في بعثة من "الجمعية الإمبراطورية" الروسية؛ ومن هناك إلى أوكرانيا الروسية، حيث بقيت أربع سنوات؛ فإلى واشنطن، حيث تخرجت في الحقوق والأدب؛ فإلى نيويورك، لأعمل في مجلة الفنون التي كان يصدرها صديقي نسيب عريضة. كانت بدايةً صالحة لإنجاح الحركة الأدبية الجديدة؛ لكن ضعفها المالي جعلني أتركها لأرتزق من أبواب أخرى، دون أن أتخلَّى عنها نهائيًّا.
ميخائيل نعيمه في السادسة والعشرين ابتدأتُ حياتي الأدبية ناقدًا. ساعدني على وضوح الرؤية تعرُّفي إلى الأدب الروسي الغني، مقابل فقرٍ وتخلفٍ وجمودٍ في الأدب العربي على العموم. أخذت أشق في النقد الطريقَ إلى جعل الأدب موصولاً بالحياة؛ حاربتُ الأدب الميت والشكل الزخرفي. التقيت في نيويورك زمرةً من الأدباء كان ميلهم قريبًا من ميلي، منهم جبران و[أمين] الريحاني وعريضة؛ فأنشأنا "الرابطة [القلمية]" التي نهجت نهجًا جديدًا على الأدب العربي، فنجحت، تأثيرًا وإنتاجًا. بقيتُ في نيويورك حتى العام 1932. لم أستطع أن أندمج في الحياة الأمريكية، فعدت إلى لبنان – هذا البلد الهادئ الآمن – وبدأتُ حياتي من جديد وكأنني ولدت مرة ثانية! هنا أعدت النظر في مفاهيمي الأدبية والفكرية والحياتية كلِّها، وأعطيت أهم عطائي. أترك التقدير للزمان. لخَّصتُ نظراتي الفلسفية في كتاب مرداد: منارة وميناء. ألم يبقَ من ذكريات الطفولة لديك شيء؟ بل هي تلاحقني حتى الآن – وأختصرها ببساطة العيش. في ذلك الزمان، كانت العلاقة بين الأرض والناس حميمة. كان ثمة تَعاون بشري، لا استغلال فيه بين المزارعين بعد تملكهم الأرض ونهاية عهد الإقطاع. واليوم؟ أنا لست متشائمًا. فالتبديل في نمط الحياة له ما يبرِّره. وعالمنا اليوم مقبل على تغيير هائل. وإني أرى مرحلة من المدنية في حالة احتضار، لكنني لا أدري ما هي المرحلة القادمة في المستقبل. ذكرتَ في سيرتك أنك اشتركت في جمعية "سوريا الحرة" لمحاربة الأتراك... نعم، لكن معظم العاملين فيها كانوا غير أكفاء، فتركت الجمعية... يعني تخليتَ عن العمل لتحرير الوطن؟ لا، بل اشتركت بعدها في جمعية أخرى سعى لتأليفها أيوب تابت، وكان جبران سكرتيرها للمراسلات الأجنبية وأنا للمراسلات العربية. حاولت اللجنة توضيح أهمية تحرير سوريا ولبنان من النير التركي، وحاولنا جَمْع متطوعين للذهاب إلى سوريا ولبنان. أفي تلك المرحلة كتبت قصيدتك الرثائية؟ نعم. كان ذلك بعد أن ترامت إلينا أخبارُ المجاعة في لبنان أيام الحرب. نَظَمْتُ القصيدة في أقل من ساعتين. هل كنت تكره الأجانب؟ مثل كلِّ الأدباء الذين كانوا معي... وفي الأجنبي قلت في تلك القصيدة: مَن أنت ما أنت حتى تحكم البشرا * كأن في قبضتيك الشمسَ والقمـرا كنت أعي فظاعة ما يعنيه الاستعمار عندما يبرِّر ذلك بنشر المدنية، يستعبد الشعوب ليعلِّمها "الحضارة"! قلتَ بتأثير "الرابطة" في الأدب العربي. فما طبيعة هذا التأثير؟ التأثير واضح إذا قارنتَ هذا الأدب قبل الرابطة وبعدها: قبل الرابطة، كان شعراء المهجر يتلهون بالمواضيع التي يتلهى بها كل الشعراء العرب في ديارهم؛ كان يهمهم اللفظة والجزالة والقافية والوزن. أما بعد الرابطة، فتغير إيليا أبو ماضي ورشيد أيوب وندره حداد وغيرهم تغيرًا كاملاً، فلم تعد ترى في شعرهم "الكليشيهات" السابقة. أصبح همُّ الشاعر أن يعبِّر عن انفعاله بالحياة وعما في مجتمعه من أفكار تتصل بالحياة مباشرة. لذلك كان الانفصال واضحًا بين عهدين في الأدب المهجري. والأهم تأثير ذلك في أدب الأقطار العربية كلِّها التي راحت تتحسس شيئًا جديدًا في أعمال "الرابطة القلمية". وقد شمل هذا التأثير مصر، فظهر فيها أدباءٌ قاموا بحركة تجديد في الأدب العربي، شبيهة بالحركة المهجرية ومتأثرة بها. "غربالك" كتبتَ أول مقال نقدي سنة 1913؛ وبعد سنوات طويلة، أصدرت كتابك الغربال سنة 1923. وقبلك كان العقاد والمازني قد أصدرا الديوان النقدي، وخُيِّل إلى بعضهم – خطأً – أن الغربال متأثر بكتاب الديوان... الحقيقة أن الغربال مجموعة مقالات نقدية كتبتُها في المهجر قبل صدور الديوان للعقاد والمازني. لكن المهم أن الحركتين الثوريتين عملتا على تكسير القوالب الأدبية القديمة. وأعتقد أن مختلف الكتب التي تناولت نشاط "الرابطة" تؤكد تأثيرَها على الأدب العربي عمومًا. وماذا عن جبران؟ كيف تلخِّص كتابك الضخم عنه؟ جبران كان موهوبًا إلى أقصى حدٍّ، حساسًا إلى أقصى حد. وكان رسامًا وشاعرًا في نفس القوة. ورسوم جبران في نهاية حياته هي، في رأيي، ذات قوة تفوق قوَّته في شعره وفي أدبه. لكنه عرف كيف يحافظ على التوازن بين الفنان وبين الشاعر. وفي أدب جبران تأثُّر واضح بمسيحيته التي جعلت لأدبه مسحةً صوفية تقارب الصوفية في الأدب الهندي. وكان يؤمن بقوة منظَّمة ومنظِّمة، وبأن الحياة مادة وروح؛ وكان الثقل في الحياة هو للروح. نغفر لجبران أكاذيبه البيضاء عن أهله "الأمراء"، ربما لأنه كان يحب أن يكرِّمه الناس؛ لكننا نغفر له، قبل كلِّ شيء، لأنه فنان كبير.
نعيمه مع رفيق دربه جبران خليل جبران في مزرعة كاهونزي، صيف 1921 في كتابك عن جبران، صورتَ كلَّ جوانب الرجل، الحسنة والسيئة؛ بينما سيرتك الذاتية يغلب عليها الجانب المضيء الحَسَن من شخصيتك – ما جعل هذه الشخصية أنقى من اللازم بقليل! لماذا لم تعامِل جبران معاملتَك لنفسك؟ حاولت في سيرتي الذاتية أن أكون صادقًا، كما كنت في كتاباتي كلِّها. وأنا آسف أن تكون هذه السيرة جعلتْك تستنتج هذا الرأي! لم أصور نفسي قديسًا، بل صورت تدرُّجي من دنيا اللحم والدم إلى ما هو أبعد من اللحم والدم. يعني أنك لم تعشْ حياة الحبِّ كرجل؟ ذكرتُ شهواتي كلَّها، لكنني لم أذهب إلى تحقيق تلك الشهوات. أردت أن أتغلب على ضعفي البشري. حاجات اللحم والدم في اعتقادي عابرة؛ هي لا تغذي إلا جانبًا ضئيلاً في الإنسان. أما الجوع الأكبر فهو جوع الإنسان إلى المعرفة والحرية. هل الحب، في رأيك، خطيئة؟! ليس عندي فكرة عن الخطيئة، ولا أعترف بشيء اسمه "خطيئة". أعترف بأن الإنسان يتدرَّج من الحيوان إلى الإنسان فإلى الله. وهو، في تدرُّجه، لا بدَّ أن يعثَر هنا ويقوم هناك. الإنسان الذي لا يعثَر لا يتعلم!
نعيمه في الأربعين لنعد إلى النقد الأدبي. قلتَ في الغربال إن الأوزان والقوافي ثانوية في الشعر. لكن ديوانك همس الجفون لم يحقق نظريتك الجمالية في الشعر. فكيف تفسِّر ذلك؟ أنا لم أنظُم سوى قصيدة أو قصيدتين على العمود التقليدي... لكنك حافظت في قصائدك كلِّها على الوزن والقافية بحسب تفعيلة الموشح... نعم، لأنني أعتقد أن الموسيقى ضرورية، وأن الوزن يوفر الإيقاع والموسيقى. ومع ذلك، عندما ترجمتُ بعض قصائدي بالإنكليزية إلى العربية، تجنبت الوزن والقافية لأصور الجديد الذي أدخلتُه على المضمون الشعري التقليدي. لكنها قصائد غير معروفة! اسمع هذه القصيدة [1926]: صرفتُ حبيبتي عني وناشدتُها الله ألا تعود إليَّ إلا بعد أن تتقن الحب.
لكنَّها ما لبثت أن عادت وأكبَّت على شفتيَّ كأنها الرضيع الجائع يكبُّ على ثدي أمِّه وعندما انتشتْ وتنهَّدتْ تنهُّد الشهوة الظافرة سلختُ فمَها عن فمي وهمستُ في أذنها: إليكِ عني، يا يمامتي لقد أتقنتِ تغذية ملذاتك المائتة أمَّا الحب فما تعلَّمتِه بعد.
وأطلَّت على الأرض أهلَّةُ عام بكامله وإذا بحبيبتي تسترق خطاها إلى مخدعي كأنها الحلم عند الفجر وإذا بها تجثو عند قدميَّ فتغسلهما بدمعها السخين وتجففهما بأنفاس لهفتها المتأججة وعندما ابتهلَتْ عيناها إلى عينيَّ همستُ في أذنها: انهضي، انهضي، يا يمامتي، وإليكِ عني لقد تعلَّمتِ كيف تروِّين أحزانَك العطشى أمَّا الحب فما تعلَّمتِه بعد.
وانقضى العام والعامان من قبل أن عادت حبيبتي تقرع بابي وفي يدها الواحدة مبخرة وفي الأخرى شمعة مشعَلة وما أن اجتازت العتبة حتى أخذتْ تسجد لي وتمجِّدني بصوت كله حنين وإيمان وورع وعندما فرغتْ من عبادتها همستُ في أذنها: اذهبي، اذهبي بسلام، يا يمامتي لقد أتقنتِ فنَّ تمجيد محاسنك الموهومة أمَّا الحب فما تعلَّمتِه بعد.
ومرَّتْ دهورٌ لم أرَ فيها وجهَ حبيبتي فأيقنتُ أن المنيَّة أدركتْها من فرط قسوتي ووفرة حبِّها ورحت أبحث عن مقرِّها الأخير إلى أن بلغتُ شاطئ اللاذاتية – وإذا بي أبصر حبيبتي هناك غارقةً في لجَّة الأحلام فدنوت منها في خفَّة وبرقَّة فائقة سألتُها: ما بالك وحدكِ على هذا الشاطئ المهجور؟ فأجابتْني برقَّة فائقة: أيكون وحده مَن أضاع ذاتَه في الحب؟ إذ ذاك هتفتُ عاليًا: إليَّ، إليَّ، يا حمامتي! لقد آنَ أوان الطيران. أأنت متصوف، يا ميخائيل نعيمه؟ وهل تقرُّ النقدَ في تصنيفه لك على هذا النحو؟ خلاصة نظرتي، يا أخي، أن هذا الكون الذي نعيش فيه كونٌ لا نعرف بداية له أو نهاية. لكننا نعلم أنه منظَّم أبدع تنظيم؛ ولولا أنه منظَّم لما كان لك ولي أن نقوم بأيِّ عمل من الأعمال. فنحن، إذ نقوم في الصباح، نعرف أننا نقوم لنأتي أعمالاً بعينها. ولولا أنك تعرف أنك تملك القدرة لتأتي بهذه الأعمال لما فكرتَ فيها أصلاً. كل ما في الأرض والكون يجري على سُنَنٍ معلومة. لذلك أقول بأن الكون الذي أعيش فيه كونٌ منظَّم أكمل تنظيم. فعليَّ، لكي أعيش في هذا الكون وأكون مرتاحًا إلى العيش، أن أعرف النظام فأسايره، بدلاً من أن أجهله فأعانده. لأنني إذا عاندت النظام شقيتُ، وإذا سايرت النظام سعدت. والإنسان لا يطلب شيئًا، بل يطلب السعادة. وهذه السعادة لن تكون لأيِّ إنسان يجهل أيَّ شيء، أو يتحكم فيه أيُّ شيء. إذن، سعادتك لن تكون إلا بالمعرفة التي لا يفوتها علمُ شيء، ولا بالقدرة التي تتسلَّط عليها أية سلطة.
صورة لنعيمه مهداة إلى إميل بجاني بتاريخ 14 تشرين الثاني 1941 هذه خلاصة عقيدتي، وهذا هو "تصوفي"، إذا شئت أن تسميه تصوفًا. أنا أقول إن الإنسان بذار إلهي، وهو مُعَدٌّ لأن يصبح في النهاية إلهًا: يتحكم في كلِّ شيء ولا يتحكم فيه أيُّ شيء. لا فارق عندي بين الخالق والمخلوق؛ وليس عندي خالق أو مخلوق، بل قدرة تتسع، قدرة تعبِّر عن ذاتها في المحسوسات. هل يجسِّد "مرداد" هذه الفكرة؟ نعم. مرداد، إذن، هو "السوپرمان"، أو رمز الإنسان المثالي الذي تتصوره. فما الفارق بين مردادك وبين "نبي" جبران؟ هناك فارق كبير. فنبي جبران لم يتكلم عن الإنسان المُعَدِّ للألوهة، بل تكلَّم عن الإنسان الأرضي وكيف يحسن به أن يعيش. ولا وجه شبه كذلك بين مرداد وبين "سوپرمان" نيتشه، لأن سوپرمان نيتشه ينبت ويقوم على أنقاض ملايين الناس، في حين أن مرداد يقول إن كلَّ إنسان على وجه الأرض مُعَدٌّ لأن يصبح إلهًا. وهو يدعو الإنسانَ "إله في القمط"، إلهًا في طور النمو. ومادام الإنسان مسوقًا بأشواقه، فذلك يعني أنه لن يتوقف عن العمل مادام هناك شوق من أشواقه لم يتحقق. ولولا أن الإنسان مسوق بأشواقه لتوقفتْ حياتُه من زمان. فهو لا يبلغ هدفًا من الأهداف إلا وينبت له هدف جديد. وستبقى الأهداف تتعدد وتتكرر وتتنوع إلى أن يبلغ النهاية التي هي الهدف الأقصى الذي لا هدف بعده: المعرفة التامة. وأعني بـ"المعرفة التامة" أن لا يبقى في الكون ما تجهله. وليس يعني ذلك أن تعرف كيف يغني العصفور، أو كيف تمشي النملة، أو كيف تتغير النبتة! المعرفة هي أن تعرف، بالخبرة، أنك كائن سرمدي، كما أن الله سرمدي. فأنت تتصل بكلِّ ما كان، وبكلِّ ما هو كائن، وبكلِّ ما سيكون؛ لذلك ليس لوجودك بداية أو نهاية، كما أنه ليس لوجود الله بداية أو نهاية. وكلمة "الله" هي الآن مَعْثَرة في طريق الكثيرين من الناس لأنهم يتصورون الله كما يتصورون إنسانًا!
صورة أُخِذَتْ لنعيمه في زيارة للكويت، 1958 يبدو أنك تفصل الإنسان عن ظروفه وشروط حياته، إذ تتمنى إنسانًا ينعتق من تفاهة العيش، ومن مقاييس الخير والشر – وهذا الكلام هو لك. ألا تعتقد أن من المستحيل أن يوجد إنسانٌ منعتق من مقاييس الخير والشر، الجمال والبشاعة، الحياة والموت؟ يا أخي، هنالك فرق بين الهدف وبين الطريق إلى الهدف. هناك هدف هو فوق الخير والشر وخلف الخير والشر، هدف تتلاشى عنده الازدواجية... إن الطريق المؤدي إلى الاتحادية هو طريق مزدوجة، طريق ثنائية. الطريق التي نسلكها الآن هي طريق الخير والشر، الأبيض والأسود؛ لكن هذه الطريق ليست أبدية. فهي تنتهي عند نقطة تدعى "الأحدية". وعندما تبلغ الأحدية يتلاشى كلُّ تناقض في الحياة، فلا يبقى هنالك من خير أو شر، من موت أو حياة، من ذكر أو أنثى؛ يبقى هنالك الواحد الأحد الذي لا يمكن لك أن تتصوره بعقلك. لكنك تستطيع أن تدرك أن الإنسان المتحرك يتحرك نحو الهدف. معنى الحياة أن تجد نفسك أقوى من كلِّ التطورات أو التقلبات. وإذا لم يكن ذلك هدف حياتك فلا قيمة لحياتك. هل أفهم من ذلك أنك تقسم الناس إلى قسمين: الأول هو النخبة القادرة على التوجه في طريق الخلاص، والثاني هو السواد الأعظم الذي يظل تحت رحمة الإرشاد والتعليم والظروف اليومية التي تقيِّده. أم أنك تحاول أن تعمِّم هذا الخلاص على جميع البشر، فيصبح كلُّ إنسان إلهًا في ذاته؟ عندما أتكلم عن هدف الإنسان، أتخطى نظرةَ الإنسان إلى الزمان والمكان. أقول في كتابي مرداد إنه ليس من هالك على الإطلاق. كلُّ إنسان سيصل إلى هذا الهدف الذي صوَّرتُه لك. أما متى يكون ذلك، فالزمان كله أمامك! إذا قسمت الزمان إلى أعمار، عند ذلك تقع في الشرك، تقع في التناقضات، فتقول إن هذا مستحيل. أما إذا أخذتَ الزمان كشيء متصل، فلماذا تيأس من خلاص أيِّ إنسان؟ هنالك الذين بلغوا الهدف، فأصبح شغلهم الشاغل أن يدلوا غيرهم عليه. وهؤلاء هم هداة العالم. لن يبقى الجاهل جاهلاً إلى الأبد، أو القاصر قاصرًا إلى الأبد، مادام الزمان كله أمامه. لماذا يعتقد البسطاء أن الله شحيح إلى حدِّ أن يقسم على الناس أعمارًا أو سنوات معدودات ويطلب إليهم، في خلال هذه السنوات المعدودات، أن يعرفوه ويعرفوا نظامه وإرادته ويعيشوا وفق هذه الإرادة؟! الزمان كله هو العمر، وليست الأعمار سوى حلقات في هذا الزمان.
نعيمه في الثمانين ألا تعتقد أن هذا التفكير الصوفي أو اللاهوتي يتعارض ومشكلاتِ العصر الحديث والأخطار التي تهدد العالم باستمرار؟ أوَلا تظن أن هذه الأفكار تجعل الإنسان يستسلم ويتخلَّى عن مقاومة الشر؟ لو فكَّر الناس تفكيري لما كانت هناك مشكلات، لأن المشكلات لا تنبت إلا من التفكير الخاطئ بأن البشر موجودون هنا لوقت معلوم ومحدود؛ ولذلك يحرصون، في هذا الوقت المعلوم والمحدود، أن يقتنصوا من السعادة والرفاهية قدر ما يستطيعون. فأنت، في هذا العمر، لا تستطيع إلا أن تستسلم لإغراء العيش الرخيص. إن إرادتك محدودة بالنسبة إلى إرادة الكون. فتعال نتكاتف – إرادتك وإرادتي – لنقاوم الأشياء التي تفصلني عنك وتفصلك عني. لو كان للناس تفكيري لما كانت هناك حروب، ولتحتَّم عليهم أن يحبوا بعضهم بعضًا ويحبوا جميع مخلوقات الأرض والسماء، لأنهم بعض مخلوقات الأرض والسماء. أنت لا تعيش بنفسك وبقوتك وحدك. القدرة هي هي! إذن، فأنت، كما قلت في كتابك النور والديجور، تتمنى أن تصل البشرية إلى يوم تتمزق فيه غشاوات التعصب الإقليمي والعرقي والديني عن أعين الناس، كما تقول، فيكون "ما ينفع أمةً ينفع كلَّ الأمم، وما يضر أمةً يضر كلَّ الأمم"؛ وكما تقول أيضًا في كتابك صوت العالم، إن "العالم يسير إلى دولة عالمية وإلى دين عالمي". فهل تختلف هذه "الدولة العالمية" وهذا "الدين العالمي" عن "الأممية" التي تمت الدعوةُ لها في أواخر القرن الماضي؟ العالم في تغير مستمر، لأن الإنسان في تغير مستمر والحواس في تغير مستمر. لكن هناك في هذا العالم المتغير قدرةً لا تتغير ولا تتبدل، هي القدرة التي تُحدِثُ التغير والتبدل. الفصول تتغير باستمرار، لكن القدرة التي تحمل على تغيير الفصول هي هي. تلك هي القدرة التي، إذا عرفناها، عرفنا أنفسنا، وعندئذٍ استطعنا أن نعيش في عالم موحَّد، لا في عالم مجزأ. كيف توفِّق، إذن، بين هذه الصوفية وبين رغبتك في التعليم والإصلاح؟ أنا لم أُقِمْ نفسي معلمًا للناس، يا أخي! إنما عملي الأول كان أن أعلِّم نفسي. والذي اهتديت إليه حتى الآن هو ما أعطيتُه للناس. فمن شاء أن يشاركني فيما اهتديت إليه، فأهلاً وسهلاً به! وإذا لم يجد فيه ما يجذبه، فلا عتب لي عليه. أنا لا أزال تلميذًا، – والتلميذ هو معلِّم معلِّمه، مثلما المعلِّم هو معلِّم التلميذ، – والذي فات وقتُ دراسته فاتت حياتُه.
نعيمه، 1968 هل هناك شيء يجمعك بأبي العلاء المعري، وقد قال أشياء كثيرة يمكن أن تكون قاسمًا مشتركًا بين أدبه وأدبك؟ لا، فبيني وبين المعري هوة سحيقة – هذا مع تعظيمي للمعري وحبي له. إنني أحب المعري، وأحب نزعته الجدية، كما أحب نظرته إلى الكون؛ بمعنى أنه لم يكن من الذين يؤخذون بمظاهر الأشياء. لكنه توقف عند حدٍّ لم يتجاوزه: وهو أن الحياة ليست جديرة بأن نحياها! وبيته المشهور: "هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد" يشهد بأن المعري لم يبلغ الحدَّ الذي كان في إمكانه أن يبلغه. ولو أنه عاش أكثر مما عاش، أو لو قُيِّضَ لبصيرته أن تتفتح أكثر مما تفتحت، إذن لأدرك أن الحياة ليست "جناية"، بل نعمة. إنها نعمة لأنها تعطينا الأمل بالمعرفة والحرية. هل تعود بصوفيتك هذه إلى الحلاج، أو ابن الفارض، أو ابن عربي؟ – وقد قالوا قبلك بالأحدية. نعم، نعم، هناك صلة وثيقة بين تفكيري وبين تفكير هؤلاء الذين ذكرتَهم. لقد أدركوا أن العالم وحدة متماسكة، وأننا إذا جزأناه نخسره، وأننا ما لم نبصر العالم كوحدة لن نفهمه على الإطلاق. في مسرحيتك أيوب تمثل شخصيةُ أيوب شيئًا آخر غير شخصية مرداد؟ شخصية مرداد أوسع بكثير من شخصية أيوب. صورتُ شخصية أيوب لأرى إلى أيِّ حدٍّ نحن مسؤولون عما ينتابنا من أوجاع، وإلى أيِّ حدٍّ تأتينا هذه الأوجاع كامتحانات لنخرج منها ونحن أشد وأصلب في مواجهة الأيام. ثم خلقتُ في هذه المسرحية شخصيةً دعوتُها سرحبيل، وجعلته حائكًا. كان منفتح البصيرة، يحدِّث أيوب بطريقة عفوية، يجعل أيوب يتفهم النظرة الشاملة إلى الكون، فيقول له: "إنما الكون كله حياكة"، نسيج يتداخل بعضُه في بعض، فلا نعرف أين ينتهي هذا الخيط وأين يبتدئ ذاك؛ إنه نسيج متكامل، ليس فيه زائد. العالم يتمِّم بعضه بعضًا، وقيمة أقل ما فيه توازي قيمة أكبر ما فيه. ثم إنني أحببت أن أعطي نظرةَ الشمول في الكون، إلى حدٍّ يستحيل على أيِّ إنسان أن يفصل جزءًا منه عن بقية الأجزاء. فإذا كان الكون لا بداية له ولا نهاية، فهو متكامل مستمر. فإذا أردنا أن نتخلص من شيء في الكون فكأنما نريد أن نتخلص من شيء في أنفسنا. وعندما يحارب الإنسان إنسانًا آخر فإنه يحارب نفسه عندما يحارب ذلك الإنسان. ليس في الكون أعداء. الكون كله صديق لنا إذا عرفنا كيف نصادقه. وإذا عرفنا كيف نحب، لا يبقى لنا من عدو، ولا يبقى عندنا مشكلة العناصر والقوميات والحدود إلخ. إذا كنت تعلِّق على السعادة والحياة كلَّ هذه الأهمية، فكيف توفِّق في نظرتك بين هذه السعادة التي هي الحياة والحياة التي هي نعمة، وبين ما تردِّده، على لسان مرداد، من أن الزواج عمل بهيمي لا يليق بالإنسان؟! أليس الزواج هو الطريق إلى تكاثر الحياة، وتاليًا، إلى استمرار النعمة والسعادة؟ لا تنسَ، يا أخي، أن مرداد يتكلم في ذلك الفصل عن "الإنسان المتغلب"، لا عن جميع الناس – ذلك لأنه يعرف أن كلَّ إنسان لا يستطيع أن يتغلب على نفسه. إنه يتكلم عن الإنسان الذي جاهَد، ويجب أن يجاهد، إلى أن يتغلب على شهواته الجسدية كلِّها، على كلِّ ما يحدُّ من قيمته وحريته. مرداد حدَّث تلاميذه عن المحبة وقال عنها إنها ضرورة. أما عن الزواج، فقال لهم إن حبَّ الرجل للمرأة هو "مفتاح" المحبة الشاملة، لا المحبة الشاملة ذاتها. فعلى الإنسان المتغلب، التواق إلى المعرفة، أن يتخلص حتى من قيود الزواج، لأن الحياة في أسافلها لا ذكر ولا أنثى، ولذلك سوف تنتهي في أعاليها لا ذكرًا ولا أنثى. على الإنسان أن يتغلب في هذه الحياة على الازدواجية ليصل إلى الأحدية. أما نحن – باقي الناس – فلا يقول إن عليهم عدم الزواج!
صورة لنعيمه أُخِذَتْ يوم الاحتفال بعيد ميلاده الواحد بعد التسعين إذن، فأنت تقسم الناس إلى فئتين: فئة التواقين إلى المعرفة، "المتغلِّبين"، الذين يقدرون على الحدِّ من شهواتهم، وفئة ثانية أدنى مستوى... أنا لا أقسم الناس قسمين، إنما أقول بأن الناس كلَّهم سيصبحون "تواقين" في يوم ما. وفي مكان آخر أشبِّه الناس بالهرم: هناك الذين في أسفل الهرم، وهناك الحجر الذي يختتم الهرم في الأعلى. هذا الحجر ينتهي في نقطة في الفضاء؛ وتلك النقطة هي نقطة الانطلاق، نقطة الانعتاق، نقطة الشمول، نقطة ذوبان الذاتية المنفردة في الذات الشاملة. فإذا تصورتَ هذا الهرم هرمًا متحركًا من الأسفل إلى الأعلى، ففي إمكانك أن تتصور أن كلَّ "إنسان–حجر" في هذا الهرم سوف ينتقل من الأسفل إلى الأعلى. ما هي الآن حتمية هذا "الإنسان–الحجر" المتحول في نظرك؟ يُحزِنني أن طريق الإنسان طريق شائكة. لكن لا بدَّ له من عبور هذه الطريق ليبلغ الشوق الأكبر، "الحنين الأعظم"، كما يسمِّيه مرداد. وإنه لَبالغه يومًا ما. ولا أقول إن في استطاعة البشر بلوغ تلك المرحلة دفعة واحدة. المهم أن البشرية سائرة، على الرغم من تعثرها، في هذه الطريق؛ وهي، بمعونة المعرفة القصوى والحرية القصوى، لن تتوقف. *** *** *** حاوَرَه: عصام محفوظ عن النهار، 2 آذار 1988 [*] أعيدَ نشرُ هذا الحوار في صحيفة النهار بعد بضعة أيام من وفاة ميخائيل نعيمه في آخر شباط من العام 1988 عن عمر ناهز التاسعة والتسعين. وفي أرشيف معابر عدة حوارات أخرى مع الأديب الحكيم، لا يتضمنها كتابُ أحاديث مع الصحافة (1974) المنشور في المجلد التاسع من المجموعة الكاملة لأعماله (دار العلم للملايين، بيروت)، وننوي نشرَها تباعًا في إصدار خاص عن ميخائيل نعيمه قيد الإنجاز. (المحرِّر) [†] لقبٌ عُرِفَ به نعيمه، أطلقَه عليه الأديب توفيق يوسف عواد بعد زيارته له في الشخروب، مكانِه الأثير قرب قريته بسكنتا. (المحرِّر) [‡] الأصح أن كتاب يا ابن آدم! حوار بين رجلين هو من أواخر كتب نعيمه الأساسية (تعود طبعته الأولى إلى أوائل العام 1969)، ناهيك عن كتابيه نجوى الغروب (1973) ومن وحي المسيح (1974). (المحرِّر)
|
|
|