|
قـرف
سألني صديقي صباح هذا اليوم الجميل: "كيف الحال؟" قلت له: "أنا أحمده في كلِّ الأحوال." تابع صديقي سيرَه، ووقفت أنا في الشارع أتساءل عن حالي. قلت: لا بدَّ من كلمة تصف حالي. أريد الكلمة المناسبة، الأمينة، الدقيقة، التي تصفني وتصف كثيرين مثلي يمرون في حالة يعجزون عن وصفها. رحت أبحث عن هذه الكلمة في وجوه الناس وفي عيونهم، فما وجدتها. ذهبت إلى داري مكسور الخاطر، حزينًا، يائسًا. فأنا أريد اليوم أن أكتب شيئًا عن حالي، ولم أعثر على الكلمة. جاء المساء يعلن انتهاء الأعمال وبداية الاستقرار. ومن عادتي كلَّ مساء أن ألجأ إلى الخلوة، علني في جنة الصمت أستعيد بعض الطاقة التي فقدتُها في أثناء ساعات النهار، أو علني أجد الكلمة التي أبحث عنها. فكثيرًا ما أعثر في خلوتي على كنوز ترضيني. جلست في خلوتي أطرد من الكيان كلَّ الأفكار وكلَّ ما علق في الوجدان خلال النهار. غمرني صفاءُ الصمت، وطرت على الخيط من الفضة الموصول بالعرش، وأخذت من القدوس قداسة، ومن القوي قوة. وما إن خرجت من فرح الخلوة حتى انتابني قلقُ البحث، وتغلغل الحزنُ في العظام. فمازلت أبحث عن الكلمة الغائبة. أكاد أن ألتقطها، لكنها سرعان ما تهرب! فقلت في نفسي: أكتب قصيدةً عن حالتي تكون نافذةً أطل منها أو نورًا ينير الطريق أمامي. جئت بالقلم، وأخذت دفتري. وما إن هممت بالكتابة حتى جاءني هاتفٌ يقول: "أتحاول كتابة قصيدة وأنت تبحث عن كلمة؟!" رميت الدفتر والقلم، وعزفت عن المحاولة، واستسلمت للعجز، وقررت أن أنام. ما إن حاولت أن أغمض عينيَّ حتى جاءتْني، في حالة بين اليقظة والمنام، أميرةٌ من الجن على شكل كلمة تقول: "أنا هي!" سألتُها: "ما اسمك؟" أجابت: "قرف!" القرف من السياسيين وكلماتهم الزائفة، من عجزهم وعهرهم ولامبالاتهم وإهمالهم، من تغطيتهم الحقَّ بالباطل وإلباسهم العدالةَ ثوبَ الظلم والنورَ أثوابَ الظلام. القرف من قضاة يبيعون بأقل من ثلاثين من فضة حقَّ الفقير المظلوم خدمةً لثريٍّ أو لِحَاكِم. القرف من الإداري الفاسد المفسِد، يخضع لسياسيٍّ أو رئيس ينفذ أوامره على حساب الناس. القرف من الصحافي يُباع ويُشرى في سوق النخاسة، عديم الكرامة، عديم المسؤولية. القرف من الشاعر يقف حجر عثرة أمام عجلة الإبداع، ويطفئ شهوةَ الشعر ونارَه بماء الرتابة والاستنقاع. القرف من مفكر لا يتجذر في تراثه ولا ينطلق من متطلبات شعبه وإنسانه. القرف من هذا الإنسان الذي يجتر الوقت في مقاهي الأرصفة مع طاولة الزهر وكركرة الأراجيل. القرف من المحامين يدافعون بكامل وعيهم عن الباطل. القرف من رجال الدين الذين لا يقيمون مع العليِّ علاقة، ويكررون الكلماتِ الجوفاءَ نفسَها التي لا تزيل الحجاب عن عيون الناس. القرف من الآباء والأمهات يعهدون بتربية أولادهم إلى الخادمات الأجنبيات. القرف من الأثرياء الذين يعطون في سخاء ملايين الملايين للجامعات الأجنبية، وجامعاتُهم الوطنية تفتقر إلى مختبَر ومكتبة. القرف من الأساتذة في الجامعات والمدارس يصدِّرون إلى الحياة أجيالاً تحمل العلمَ الأجوف، ومن الطلاب يتقبلون ما يُفرَض عليهم من دون اعتراض، يستسلمون من دون احتجاج، يرضون من دون انتقاد. القرف من السرقة المتبادلة بين الحكومة والناس. القرف من الأوطان ترى نهايتَها وتحضِّر موتَها، كأن غيرها يعاني النزع الأخير. القرف من كلِّ شيء حولي: الأغنياء والفقراء، التجار والزبائن، العمال وأصحاب العمل، الرافضين في عنف والراضين بأقدارهم، المستسلمين لأوضاعهم. والقرف من هذا الوضع الذي لا نهاية فيه للقرف، والقرف من كتابة هذه الكلمات عنه!
*** *** *** |
|
|