لا عقيدة أسمى من الحقيقة 2

 

ديمتري أفييرينوس

 

 

تنص عبارة أوپنشادية معروفة على أن العقل مثنوي من حيث طبيعتُه: أحد جزئيه، الأدنى، ينزع إلى التقلب في الوهم، بينما دأبُ الجزء الآخر، الأرفع، المسمَّى بـ"العقل المحض"، أن يتشوف إلى ما هو حقيقي. وبفضل من إلحاح الثاني على ملَكات الإنسان الذهنية والنفسية، تشوَّق الإنسانُ، منذ فجر تاريخه، إلى معرفة الحقيقة، وسعى إليها عِبْر جادات الدين والفلسفة والعلم جميعًا.

لم يكن قط من قبيل التحصيل الحاصل أن ما يدركه الإنسان هو الواقع بعينه. فالراصد المتفكر سرعان ما يكتشف أن ما يبدو لبعضهم حقيقةً ليس حقيقيًّا في نظر بعضهم الآخر. فحتى سيرورة الإدراك العادي تنطوي على العديد من الشِّراك والحدود. ففي سيرورة الوعي عدة مراحل بين إدراك موضوع وصياغة مفهوم يخصه. لا أحد يرى غرضًا ماديًّا عاديًّا حتى كما هو فعلاً؛ إذ إن الحواس لا تلتقط إلا جزءًا ضئيلاً وحسب من مظاهره وألوانه وخواصه؛ ففي جهاز الحسِّ نفسه تتم عمليةُ انتقاء وتفسير. بذا فإن العين، حين تنظر إلى شيء، تنتقي منه معالِم بعينها فقط قبل أن يُبعَث برسالة إلى الفص القفوي للمخ، حيث يتم المزيد من التفسير للصور الذهنية، قبل أن يتحصل للمُدرِك انطباعٌ عن الغرض الذي يراه. من هنا، لا يمكن الحصول من أيِّ غرض إلا على تقريب تصوري، ليس إلا.

يبين لنا هذا الأمر البسيط أنه لا يحق لأحد أن يدعي أنه "يعرف الحقيقة"، حتى في خصوص الأشياء المادية. لذا فإن الساعين إلى الحقيقة عِبْر العصور هم أخبر الناس بمراوغتها لذهن يطلبها وهو غير معترف بمحدوديته.

***

طلبُ الحقيقة، إذن، هو واحد من وجهَي الطبيعة البشرية، فيما الهروب إلى الوهم هو وجهها الآخر. وللوهم صور متعددة، وهم المادة أحدها.

ملايين النساء والرجال يموتون وهم لا يعرفون لماذا يولدون، وإلى أين يمضون، أو ما هي الغاية من تلك الفاصلة القصيرة التي يقضونها على جرم ليس إلا ذريرة ضئيلة سابحة في محيط الأكوان الشاسع. ففي نظر الإنسان العادي – وهو غالبية الناس – أن برهة حياته على الأرض تشكل الحقيقةَ الوحيدة لأنه لا يعرف أيَّ شيء عداها. وهذا الجهل ناجم عن وهم أن ما يبصره بعينيه ويعرفه بفكره وحده حقيقي، وأن الواقع لا يمكن له أن يُختبَر إلا من خلال هذا الإطار المادي في غضون السنوات المعدودات المعطاة له عمرًا. من هنا فهو يقتنص كلَّ لحظة لذة ويتمسك بها، الأمر الذي يؤدي به وبنظرائه إلى إيجاد مجتمع ممعن في الاستهلاك، يكرس اللذة مبدأً موجِّهًا للسلوك البشري برمَّته: عشْ يومك لأنك غدًا تموت. إن اعتناق المرء ماديةً فظة من هذا النوع (وهي غير اعتناقه المادية كموقف فلسفي من العالم مشروع ومبرَّر) من شأنه حتمًا أن يقوده إلى القسوة، ليس حيال رفاقه البشر وحسب، ولكن حيال الطبيعة والحيوانات أيضًا؛ إذ إن حياة الآخرين لا قيمة لها في غمرة الصراع المحموم على البقاء (الداروِنية الاجتماعية). الإنسان المادي طَموح، دينه وديدنه النجاح. حتى "يصعد" على السلَّم الاجتماعي، لا مناص له من الدَوْس على الآخرين؛ وهو، بدوره، ينهار إذا عجز عن الفوز بالاعتراف والشهرة والمنصب. الهيدونية hedonism، أي وجهة النظر القائلة بأن اللذة هي المبدأ الرائس في الحياة، ليست بالشيء الجديد؛ فقد اعتنقها كثيرون في اليونان القديمة وروما وبغداد والأندلس وفي بلاد أخرى عديدة لدى بلوغها أوج مدنيَّتها – الأمر الذي عجِّل في انهيارها، على ما يذهب إليه محقًّا ابن خلدون. ولكن بما أن بمستطاع العالَم الحديث أن يبتكر تنوعًا غير مسبوق من التسالي والملذات لدغدغة الحواس وإلهائها، فإن وجهة النظر الهيدونية باتت أوسع انتشارًا منها في أيِّ وقت مضى. غير أنه في مقابل اللذة يقف الإحباط والخوف – خوف المرء من أنه، في أثناء الفسحة المخصصة له من العمر، لن يتمكن من إشباع رغباته من الحياة. والخوف والإحباط يقودان حتمًا إلى العنف، الذي نشهد صوره المستشرية اليوم في العالم قاطبة.

***

الشكل الآخر من أشكال الوهم مستمَد من الاعتقاد. فالمادي لا يعتقد بوجود ما ليس بمستطاعه أن يدركه عِبْر حواسه؛ في نظره، لا شيء يوجد غير ما يقع ضمن حقل خبرته. لكن هناك أناسًا آخرين مستعدين لتخيل وجود أشياء كثيرة ليس بمستطاعهم أن يروها. الدين، كما يمارَس في الغالب، نتاج مخاوف الإنسان وآماله، بنية وهمية متماسكة قوامها المعتقَد. حين لا يقنع الإنسان بالنصيب التافه المقسوم له، حين تمسي علاقاته غير باعثة على الرضا، حين ينتابه الخوف من الموت والوحدة والعجز عن المضيِّ في الحياة قُدُمًا، يلجأ للتهدئة من روعه إلى الأمل في وجود "آخِرة" توفر له رضا أكثر دوامًا. يستمد المرء راحةً من تخيله قدرة فائقة للبشر في وسعها أن تخلصه من العذاب والشقاء ومن الخيبات التي تشكل سداة "حياته الدنيا" ولحمتها. وهكذا يتخيل الإنسان إلهًا (أو آلهة) يلبي حاجاته، فيكسوه بمختلف أنواع الأزياء. فكما قال فولتير: "خلق الله الإنسان على صورته، فردَّ له الإنسانُ الصاع صاعين." إن الاقتصار على التفسير الحرفي للقَصَص الأسطوري الذي تحفل به كتب سائر الأديان والركون إليه لدليل بليغ على صحة ما نذهب إليه.

صراع الإنسان من أجل البقاء يجعله مستبدًا؛ وبالتالي، فإن مخيلته الشاردة تصوِّر له طاغيةً فائقًا للبشر يشبهه، يلجأ إليه ويستدعيه ليزيل من دربه العقبات و"الأعداء". فمادام الإنسان صغيرًا فإن إلهه سيظل صغيرًا على شاكلته: مختاروه يذهبون إلى الفردوس وأعداؤه إلى الهلاك الأبدي، تبعًا لنزواته وأطواره. في تفسير "الله أكبر" قال ابن عطاء الأدْمي: "أكبر من أن يقاس ومن أن تحيط به الحواس."

إن السبب الرئيس لثلثي الشرور التي تعيث في الإنسانية فسادًا هو الدين، مهما كان شكله وأية كانت الأمة التي تدين به. إن رجال الدين وأرباب الشعائر الدينية، طبقة الكهنوت والفقهاء، من أيِّ دين أو ملَّة كانوا، هم المسؤولون عن تغذية تلك الأوهام التي يضفون عليها حرمةً وقداسة أين منها حرمة الحياة وقداستها! ففي هذه الأوهام بعينها على الإنسان أن يفتش عن مصدر الشرور العديدة التي ابتُليت بها البشرية على مدى التاريخ، ومازالت مبتلاة، حتى تكاد اليوم أن تغرق فيها. الجهل البشري أوجد الإله الغيبي المشخَّص على صورة إنسان كبير، والمكر والدهاء البشريان لم يفوتا الفرصة. الدجل الكهنوتي هو الذي جعل هذه الآلهة تمارس هذا الإرهاب كلَّه على الإنسان؛ والمؤسَّسة الدينية الرسمية لا توفر جهدًا في قولبته على غرارها، متعصبًا أنانيًّا، يحتكر الإله لنفسه، يكره من البشرية كلَّ مَن لا ينضوي تحت لواء دينه، ملَّته، طائفته، حزبه، من غير أن تساعده على التطور أخلاقيًّا.

*

فاصلة:

كانت امرأة عجوز متدينة جدًّا شديدة الاستياء من جميع الأديان الموجودة، لذا أسَّست دينًا خاصًّا بها.

ذات يوم جاءها مراسلٌ صحافي، راغب حقًّا في فهم وجهة نظرها، وسألها: "هل تعتقدين حقًّا، كما يقول الناس عنك، أنه لن يدخل الجنة أحدٌ غيرك وغير خادمتك ماري؟"

فكرت العجوز مليًّا في السؤال ثم أجابت: "أجل، وإن كنت غير متأكدة تمامًا بخصوص ماري."

*

إن "الإيمان" بالله (أو الآلهة) هو الذي يجعل الثلثين من أبناء البشر عبيدًا لثلة من المستبدين المضلِّلين. ألم يصل الأمر بالإنسان إلى الوقوف على أهبة الاستعداد لاقتراف أيِّ نوع من أنواع الشرور إذا قيل له إن الله (أو الآلهة) يبارك الجريمة؟!

طوال أكثر من ألف عام، ظلت الهند تئن تحت نير نظام الطوائف الذي فقد روحه، والبراهمة والملوك وحدهم يقتاتون بخيرات الأرض على حساب الفقراء؛ كنائس المسيح المزعومة باركت الحروب الصليبية على "الكفار"، وأحالت المستنيرين على محاكم التفتيش وأحرقت الكثيرين منهم أحياء، وصلَّت من أجل فيالق الاستعمار؛ دين بني إسرائيل اختُزل إلى حلم قوميٍّ مسيخ، ترك في سبيله الألوفُ المؤلفة بلادًا ينعمون بوفرة خيراتها لطرد سواهم من ديارهم وإذاقة مَن بقي منهم فنون القهر والإذلال والحرمان؛ أتباع ملة محمد اليوم، شأنهم طوال تاريخهم، يحزون رقاب بعضهم بعضًا ويفجرون أنفسهم في أنفسهم – ناهيك عن الصراعات الدموية بين أتباع الأديان المختلفة، هندوسًا ومسلمين، يهودًا ومسلمين، مسلمين ومسيحيين – وهذا كله باسم أساطير متهافتة وتمجيدًا لها. جاء في إحدى رسائل الحكماء:

تذكَّر أن حصيلة البؤس البشري لن تنقص أبدًا، حتى اليوم الذي يقوِّض فيه خيرةُ بني البشر، باسم الحقيقة والأخلاق والمحبة الشاملة، مذابحَ آلهتهم الكاذبة.

لقد احتدَّت لهجتنا، أجل، لكن لنا مبرِّرًا في ذلك. فالملايين من البشر الفقراء الجهلاء مافتئوا مسترَقِّين لإرادة كهنة ومَلالٍ وقساوسة وفقهاء يأخذون على عواتقهم دور الوسطاء المشرِّعين ويشجعون الجرائم باسم الدين. النبذ والتهميش الاجتماعي والقتل، الفردي والجماعي، مازال جزءًا من مؤسسة الدين ومن العوامل الكفيلة باستمرارها.

***

هناك نوع ثالث من الوهم، يفرزه الفكر. ففي محاولة لفهم طبيعة الكون الشاسع، الحاذق، المعقد، وقوانينه، تم وضع مختلف أنواع النظريات. هذا أمر محمود بالطبع، لأن من طبيعة الفكر أن يفتش عن إجابات على الأسئلة التي يطرحها. لكن المشكلة هي أن النظريات تتحول مع الوقت إلى منظومات فلسفية ومدارس فكرية متصارعة، تنسل التحزب والتعصب والتباغض، شأنها شأن الأديان سواء بسواء، كل واحدة منها تعتقد أن منظومتها متفوقة على غيرها، وتتوهم أنها تعرف "الحقيقة" خيرًا من الأخريات.

إن صِدام الآراء والإيديولوجيات، فلسفية كانت أم سياسية أم دينية، يولد البغض والتعصب وسوء النوايا ويقسم البشر إلى شيع وطوائف متناوئة. فلو كان همُّ الإنسان هو البحث عن الحقيقة فعلاً، لكان العالم بأسره مختلفًا. لو أن الأديان حثتْ أتباعَها على طلب الحقيقة، بدلاً من أن تأمرهم بازدراد ما يجب أن يؤمنوا به كوجبات جاهزة، لكان العالم مكانًا أكثر سلامًا. إن قبول التنوع والاختلاف جزء لا يتجزأ من السعي المخلص في طلب الحقيقة.

واليوم، يبين العلم أن إدراك الأشياء المادية حتى لا يتطابق مع هذه الأشياء كما هي. لكن الوجود ليس عبارة عن الأشياء المادية وحدها. فما "المادة" إلا لعبة قوى تعود بأصلها إلى حقل مبهم مجهول، منه تنبثق المظاهر التي نظن أنها هي الواقع. إن مفاهيم الإنسان، مهما استدقَّت، لا يمكن لها أن تنطبق تمامًا على الأشياء كما هي، لأنه قبل أن يشكِّل ذهنُه المفهومَ يكون قد فسَّر سلفًا ما يدركه وفقًا لآرائه الجاهزة ولإشراطاته الذهنية والنفسية.

لذا فإن الإنسان المتحلِّي بشيء من الحكمة هو أبعد ما يكون عن الاعتقاد بامتلاك القول النهائي في حقيقة الأشياء والعالم. إنه، شأنه في ذلك شأن العالِم النظري الكبير، ينطلق من مسلَّمة يفترض صحتها مؤقتًا كأداة عمل. حين يصوغ العالِم فرضيةً، فإنه يضعها باستمرار على محكِّ الاختبار، ومع ظهور معطيات جديدة، يطرح مسلَّمات جديدة. ومن هنا فإن أفق العلم النظري النبيل يظل مفتوحًا على المجهول، مستعدًا دومًا لتقبُّل الجديد واللامتوقَّع. وما يصح على علوم المادة يصح كذلك في نطاق اللامادة؛ إذ إن المادي وغير المادي كلاهما جزء لا يتجزأ من الوجود: "كما في الأعلى كذلك في الأدنى"، كما ينص المبدأ الهرمسي المعروف. وحده مَن يظل على انفتاح ذهنه حقيقٌ بأن يتلمس أهداب الحقيقة.

حين يستلهم المرء المقترَب العلمي في منهجه صوب الحقيقة، تزول أشكال الرفض كافة، لأنه يعي أن مفهومه عن الحقيقة مفهوم نسبي، مرتبط بشوط محدد من البحث، وبالتالي قابل للتجاوز في أية لحظة. وهذا الموقف المنفتح على الجديد يجمِّل المرء بالقدرة على قبول جميع الباحثين الآخرين عن الحقيقة، مهما اختلفت مشاربهم وتنوعت، ويعاملهم كما يتوقع منهم أن يعاملوه. فلو أن البشرية كانت مهتمة بالحقيقة ومستعدة فعلاً للتخلي عن أوهامها، لَعَمَّ السلامُ العالمَ ولَسادَه التعاونُ، لا التنابذ، لأن الجميع يقبل بوجود مقترَبات عديدة إلى الحقيقة. هناك، مثلاً، مقترَبات العالِم والفنان والصوفي والحكيم – وجميعها يقود الباحث المخلص إلى تلك النقطة المركزية التي هي الحقيقة.

علاوة على ذلك، إذا تم الإقرار بإمكان الخطأ وبأن للمعرفة حدودًا، مهما بلغت دقتُها وإحاطتُها، تزول الحاجة إلى وجود "مرجعيات" يُتَّكأ عليها. تنشأ السلطة أو المرجعية حين يسود الاعتقاد بوجود طبقة ممتازة تحتكر معرفة الحقيقة التي لا يملكها سواها. لكن المرء، مهما بلغ مقدار علمه وحكمته، لا يستطيع أن يجعل غيره يرى، أو يقوم مقامه. وحدها ممارسة السياسة "بالنيابة" ممكنة في نظام ديموقراطي – وحتى هذا أمر فيه نظر – فما بالكم بالمعرفة! إن أعظم علماء الرياضيات يبقى عاجزًا عن تعليم أبسط قوانين الكون مَن لم يتعلم أولاً قواعد الحساب والجبر والهندسة. على كلِّ إنسان أن يكون مستعدًا دومًا للمزيد من المعرفة، ولا توجد هاهنا طرق مختصرة. ثمة شروط لا بدَّ من تلبيتها عند كلِّ مستوى قبل أن يبلغ الطالب موقعًا يجيز له أن يعرف.

***

كلنا يعلم أنه على مستوى الحواس الخارجية ثمة شروط ضرورية للإدراك السليم. فالعيون، مثلاً، يجب أن تكون صحيحة وخالية من العيوب التي تشوِّه البصر. وحتى العين الصحيحة المعافاة يجب أن تتدرب على الرصد. فالفنان، على سبيل المثال، يرى في غرضٍ ما أكثر بكثير مما يراه الإنسانُ المتوسط، لأنه درَّب عينَه على رصد التفاصيل – التناسُبات بين الأشياء، ظلال الألوان، إلخ. وعلى المستوى الذهني، بالمثل، الصحة الطيبة والدربة ضروريتان أيضًا. فالذهن الذي لم يتثقف، لم يتعلم كيف يكون حادًّا ويقظًا على الدوام، يخفق في التقاط الأفكار الدقيقة أو الحقائق العميقة. من هنا فإن التربية السليمة هي التربية التي تتكفل بإعداد الذهن وسائر الملَكات العقلية لتلقي المعرفة. لا بدَّ من التمرن والمراس على وضوح التفكير، على إعمال المنطق السديد والقياس العقلي، وعلى تنمية القدرة على التقاط التفاصيل ورؤية الدقائق. فإلى أن يتمكن الذهن من الاشتغال الفعال على هذا النحو، سيبقى عاجزًا عن فهم مرامي التعاليم الرفيعة. وهذا يصح، كذلك، على حقول المعرفة تلك التي تتعدى الذهن: فخبرات الحياة العميقة – تلك التي شَهِدَ لها العديدُ من الصوفية والحكماء من البلدان والأزمنة والحضارات كافة – لا طاقة للذهن على اختبارها. فكما تصرح الأوپنشاد في أكثر من موضع، لا يمكن بلوغ الحق بالمفاهيم ولا بالكلمات. فلمعرفة ما يتعدى الذهن، لا بدَّ من توفُّر شروط صارمة. الحقيقة توجد على مستويات عديدة – مادية، وذهنية، وفوقذهنية – ولا يستطيع أن يحيط بها إلا مَن كان مستعدًا لاستحقاقها؛ إذ لا يمكن نوالها لا بالقوة ولا بالإقناع. أما الدور الحقيقي للدين فهو إرشاد النساء والرجال إلى اكتشاف تلك الشروط ومساعدتهم على تلبيتها في أنفسهم.

إن الشرط الأول والرئيسي الذي يجب أن يلبِّيه مَن يريد أن يتبع "دين الحقيقة" هو شوق عميق متواصل إلى الكشف عنها. وهذا يتطلب قطعًا تقويض أحكامه المسبقة وقناعته بأنه يعرف أصلاً. فالحقيقة لا يكتشفها ذهنٌ أسير للعادة والرأي والتعصب، مهما كانت هذه طفيفة.

في الـبهغفدغيتا، كما في يوغا سوترا بتنجلي، يقال إن أبهياسا abhyāsa ضروري للتقدم الروحي. إن غالبية المترجمين يترجمون تلك الكلمة بـ"المراس" أو "الرياضة". "المراس"، بالمعنى المألوف (كما في الرياضة البدنية مثلاً)، هو تكرار صيغة سبق للمرء أن تعلَّمها. أما أبهياسا فهو في الواقع الإعمال الدائم لملَكة التمييز: فَرْز الحقيقي من الوهمي. وهذا يعني ضرورة وجود اهتمام دؤوب مخلص باكتشاف ماهية الحقيقة. لا يوجد أي مكان على الطريق صعودًا إلى قمة الجبل يمكن للمسافر أن يستريح فيه مكتفيًا راضيًا؛ وعلى الباحث ألا يتوانى لحظةً في الاستقصاء والسبر أعمق فأعمق. ج. كريشنامورتي يتكلم على التعلم الدائم كخصلة لا مندوحة عنها لما يسمِّيه "الذهن الديِّن" religious mind. يقول:

الذهن الديِّن ذهن فتيٌّ، هو ذهن يتعلم، وبالتالي يتجاوز الزمن. وحده ذهن كهذا ذهن ديِّن، وليس الذهن الذي يختلف إلى المعابد – فذاك ليس ذهنًا ديِّنًا. ليس الذهن الذي يقرأ الكتب ولا يكف عن الاستشهاد بها والوعظ – فذاك ليس ذهنًا ديِّنًا. الذهن الذي يردد الصلوات، الذي يكرر ويكرر، ذهن مذعور القلب، تُعميه المعرفة؛ لذا فإنه ليس ذهنًا ديِّنًا. الذهن الديِّن هو الذهن الذي لا يني يتعلَّم، وهو، بالتالي، ذهن لا يكون أبدًا على نزاع في أيِّ وقت؛ وهو، بالتالي، ذهن فتيٌّ، ذهن بريء.

***

من الشروط الأخرى للبحث الموفق عن الحقيقة سكينة مطمئنة لا يُقلِقها شيء. وحده ذهن لا يعكر صفوَه شيء يمكن لحقائق العوالم غير المنظورة أن تنعكس عليه. هناك عوامل عديدة تتسبب في تعكير صفو الذهن وإبقائه في حالة من الهيجان – والخوف أحدها. حين يُكرِه الخوفُ الذهنَ على الحركة فإنه يرى الأشياء وفقًا لمحتوياته: الإنسان الخائف يرى انعكاساتٍ لخوفه هو في كلِّ مكان من الكون! الخوف يريك الأشياء في ارتياب، ويتوهم في كلِّ ظلٍّ عدوًّا يكمن له. والأمر عينه يصح على سائر الأهواء والانفعالات التي يموج بها الذهن، غيرةً كانت أم حسدًا، حبًّا أم بغضًا.

الآراء الناجزة، كذلك، تشوِّه قدرة الذهن على رؤية الأشياء كما هي. فالآراء المسبقة الصنع هي التي تجعل المرء يحترس من أتباع هذه الفئة أو الطائفة أو الطبقة ويتجنبهم. حين يصنف الذهنُ الناسَ إلى عرب وأمريكيين، مسيحيين ومسلمين، سنة وشيعة، إلخ، يعتكر ولا يستطيع أن يرى رؤية صحيحة. لذا قالت السيدة بلافاتسكي مرارًا وتكرارًا بأن مَن يريد أن يعرف الحقيقة يجب أن يزيل من ذهنه التصورات المسبقة كافة وكلَّ ما تعلَّمه من خلال تربيته، ذويه، كتبه المقدسة، بيئته – فإذ ذاك وحسب يمكن له أن "يتعلم أبجدية جديدة في حضن أمِّنا الطبيعة"، على حدِّ تعبيرها.

بذا فإن على الذهن أن يصير نقيًّا، لا يعكر صفو سكينته شيء، حرًّا من الآراء والمذاهب الضيقة والانفعالات المتمركزة على الذات – إذ وحدها تلك الحال تصلح أرضًا طيبة لنبات الإدراك الروحي القادر على استشفاف الحقيقة.

المخلصون في بحثهم عن الحقيقة – وما أندرهم! – يسهمون بقسطهم سلفًا في إيجاد عالم أفضل، لأن الشرط اللازم لبلوغ مثل هذا العالم هو النقاء والقدرة الحاذقة على تمييز الحقيقة من الوهم. حيثما يتوفر هذا التمييز، مقترنًا بالإيثار الحقيقي، تبدأ البيئة الخارجية في التحول تدريجيًّا، لأن الأثرة هي الداء المسؤول عن استشراء الفوضى والقسوة في العالم. البحث عن الحقيقة ليس نافلاً لتوطيد دعائم عالم يعم فيه السلام، كما يُظَن، بل هو شرطه اللازم والكافي. فلو أن البشرية تبنَّتْ "لا عقيدة أسمى من الحقيقة"، أو أية صيغة معرفية أخرى مشابهة، شعارًا لها، لَسَمَتْ بالعالم أكثر، ولَتَجَمَّل بها العالمُ أكثر وأكثر.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود