نساء شكسپير

 

فاطمة ناعوت

 

المرأةُ في قصائد شكسپير ومسرحياته، في صورها الإنسانية المتباينة – جميلِها وقبيحِها – هي فكرة كتاب نساء شكسپير للكاتب المصري رجاء النقَّاش، الصادر عن دار "شرقيات" في ما يناهز 400 صفحة من القطع الكبير.

وقد جاء الغلاف مُعبِّرًا خير تعبير عن المتن بلوحته التي رسمها طارق علي: امرأةٌ بلا ملامح محددة، تحمل جميع مفردات النزعات البشرية تقريبًا. فنساء شكسپير تَرَاوَحْن بين الملِكة (عبَّرتْ عنها اللوحة بتاجٍ فوق الرأس)، والفارسة (حربة مثلثة باليد اليسرى)، والقاتلة (سيف باليمنى)، والملاك (جناحان)، والشيطان (قرنان وذيل معقوف)، والنرجسية (پورتريه نسائي مؤطَّر داخل الرأس)، والأم (طفل فوق ذراع المرأة) – وعلى الأرض تتناثر أقنعةٌ مما يضعها ممثلو المسرح القديم فوق الوجه، ما يشير إلى انقسامات المرء على ذاته ووضعه الأقنعة والوجوه المتباينة طوال حياته!

ويحقُّ لنا أن نسأل: لماذا اختار النقَّاش شخص المرأة، وحده، ليرصدها في أدب شكسپير، إذ أراد رَصْد النوازع الإنسانية التي يتقاسمها الرجل والمرأة سويًّا؟! أظنه عمد إلى ذلك باعتبار المرأة نبعًا أكثر ثراءً لكلِّ فنان لا ينضبُ ماؤها ولم تُفَضَّ بكارةُ تعاويذها وأسرارها بعد؛ ومن ثم ظلت، منذ بدأ الإنسان يتلمس خطواتِه الأولى نحو الفن حتى الآن، ملهمةً للشاعر والتشكيلي والموسيقي إلخ، وبالتالي، كانت المعينَ الذي استقطر شكسپير ماءه لتجسيد مشاعر النفس البشرية ونوازعها في تطرُّفاتها الواسعة. كما أحسنَ النقاش بتبنِّيه هذه الموضوعة، اتساقًا مع فكرة "الأنثوية" أو نزعة تبنِّي قيم الجمال في الوجود؛ إذ المرأة هي ماءُ الحياة ورمزُ الطبيعة والخصب والجمال.

يرى النقَّاش أن المرأة الشكسپيرية تراوحت بين الحقيقة والخيال: فثمة شخوصٌ تاريخية عاشت بالفعل، مثل كليوپاترا؛ وثمة نساء ابتكرها خيالُ الكاتب الإنكليزي الأشهر، الذي تناولتْه الشكوك، ربما لفرط موهبته، وربما لفقر ما لدينا من سيرة ذاتية عنه، حتى مسَّتْ تلك الشكوكُ وجودَه ذاته. إذ ذهب بعض النقاد إلى أن تلك الأعمال الجليلة هي نتاج المفكر فرانسيس بيكون (1561-1626) الذي عاصر شكسپير ومنعه انتماؤه الطبقي الرفيع من الإفصاح عن اسمه، فنَسَبَ كتاباتِه إلى شكسپير. وأيًّا ما كان من سطحية هذا المنطق ومن افتقاره إلى الدليل، إلا أننا أمام حقيقة تطرح علينا كنوزًا أدبية رفيعة اقتنصتْها الحياةُ من التاريخ.

وأما الصنف الثالث من نساء شكسپير، فقد استدعاه من الأساطير الرومانية، بعدما حاوَرَها وجادَلَها وبثَّ فيها الحياةَ بمفردات عصره الحديث (آنذاك). ويقول النقَّاش إن شكسپير اعتمد على كتاب التحولات للشاعر الروماني أوفيد الذي ترجَمَه إلى العربية ثروت عكاشة بعنوان مسخ الكائنات[1].

تجادَل النقادُ حول مدى حقيقية وجود نساء شكسپير، من حيث كونهن صورًا لنماذج واقعية مرَّت بحياته واستقى منها الرجلُ شخوص إبداعاته. لكن النقَّاش ينفي ذلك، مؤكدًا رأي الناقد برتون راسكو، المتخصص في الشكسپيريات، ومفاده أن شكسپير لم يكن مشغولاً بالحكاية عن سيرته وتجاربه الخاصة، بل كان فنانًا موضوعيًّا، نجح في الخروج عن دائرة الذات. وأزيدُ أن الشخوص الشكسپيرية لم تمثِّل لمعظم نماذج البشر وحسب، بل مثَّلتْ لها في مختلف العصور والبيئات؛ وبذلك يحق لنا أن نصف أدبه بـ"العابر للعصور والثقافات".

ومع هذا، فقد تناول النقَّاش النساء الواقعيات في حياة شكسپير، وهن: زوجته آن هاثاوي، وابنتيه سوزانا وجودث، عدا امرأة سمراء قيل إن شكسپير هام بها عشقًا وظهرت صفاتُها في السونيتات (ترجمها إلى العربية المرحوم جبرا إبراهيم جبرا، مثلما ترجم عددًا من مسرحيات شكسپير).

الأمر اللافت أن نساء شكسپير كنَّ غالبًا ذوات بأس وعزيمة وقدرة على حسم القرار. ويعزو النقَّاش ذلك إلى أن المرأة–النموذج في عصر شكسپير (1564-1616) كانت الملكة إليزابث الأولى (1533-1603)؛ وهي نموذج صارخ لقوة الشخصية وللزعامة، حتى إنها رفضت الزواج لتهبَ حياتَها للمُلك وحكم بريطانيا.

جسَّد شكسپير النزعات الإنسانية في أعلى درجات تطرُّفها وحِدَّتها عبر شخصيات نسائه (ورجاله طبعًا) من خلال قصائده ومسرحياته. فنجد فينوس، ربة الجمال عند الرومان، التي عشقت القنَّاص أدونيس وتولَّهت به حتى نسيت كبرياءها، ونسيت أن للحبِّ مقوِّماتٍ أخرى غير الفتنة الخاوية، فضاع منها المحبوب. ثم قصيدة "اغتصاب لوكريس"، المرأة التي جسَّدت الفضيلة والعفاف في أقصى صورهما، بينما جسَّد مغتصبُها الأمير تاركان نوازعَ الغيرة والحسد واللصوصية إلخ.

يتناول الكتابُ بعد ذلك الملكة الدانمركية جرترود، إحدى الشخصيتين النسائيتين في هاملت، المسرحية الأشهر بين أعمال شكسپير (بل لقد ذهب بعض النقاد إلى اعتبارها أهم عمل أدبي كُتِبَ بالإنجليزية). جرترود، وفقًا للنقَّاش، هي أنموذج المرأة التي تعوزها الحكمة وتتسم بسرعة اتخاذ القرار بغير إعمال العقل. أما أوفيليا، ابنة وزير القصر ومحبوبة هاملت، فهي الملاك الذي قتلتْه البراءة والمثالية وعدم المقدرة على استيعاب ما في الحياة من شر.

وأوفيليا تشبه بذلك شخصية ديدمونة، الإيطالية الحسناء النقية، زوجة عطيل الفارس المغربي الأسمر. وقد اعتبر رجاء النقَّاش موقف ديدمونة بمثابة "الإعلان الأوروبي الأول عن حقوق المرأة"؛ إذ هي تسبق في ذلك نورا، بطلة مسرحية بيت الدمية للنرويجي هنريك إبسن، التي ثارت على عبوديتها للرجل. ونتفق مع النقَّاش في ذلك، كونها كُتِبَتْ قبل بيت الدمية؛ غير أن ما دعا النقَّاد إلى اعتبار نورا هي الرائدة أن جلَّ العمل ركَّز على ذلك الموقف التنويري الرافض لوضعية المرأة الأدنى والمتسمة بالتبعية للرجل، فيما ركزت عطيل على قيم الوفاء وشَرَك سوء الفهم إلخ. ثم تأتي جولييت، الحسناء الإيطالية أيضًا، التي اعتبرها النقَّاش فارسةً قاتلتْ من أجل عشقها، حتى قتلت نفسها في الآخِر فداءً لهذا العشق.

بعد ذلك، يتناول الكتاب الشخصية النسائية الأعقد، كونها رمزًا تاريخيًّا وسياسيًّا عاش بالفعل: كليوپاترا (69-30 ق م)، آخر سلالة البطالمة ذات الجذور اليونانية، الملكة التي تولَّت حُكم مصر في العام 51 ق م، وماتت منتحرةً بسم الأفعى. ويعتقد النقَّاش أن آراء ناپليون حول المرأة، التي مفادها أن المرأة لا تجيد لعبة السياسة وأنها لا تصلح إلا لإنجاب الولد، تعود إلى تأثُّره بقصة أنطونيو وكليوپاترا. قال نابليون: "الحبُ ضيعةُ المحارب ودمار السلطان." ويذهب النقَّاش إلى أن هذا القول يشير من طرف خفي إلى مصير أنطونيو الذي دمَّره الحب بعد أن كان القائد الروماني الذي لا يُشق له غبار.

وربما لم يختلف التاريخ حول تقييم شخصية كما اختلف حول كليوپاترا، الملكة شديدة الذكاء والفتنة، التي كافحت من أجل مصر واستقلالها، رافضة أن تكون بلادُها مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية الرومانية العظمى. وضعها دانتي في كوميدياه الإلهية في الدائرة الثانية من الجحيم باعتبارها المرأة التي تملَّكتْها شهوتا السلطة والجسد، بينما اعتبرها التاريخ رمزًا سياسيًّا فريدًا: كليوپاترا، برأي النقَّاش، هي المرأة التي هَزَمَها "سوء الحظ"[2] الذي حالفَ أوكتافيوس، الفارس الروماني قليل الموهبة، فانتصر على أنطونيو العظيم.

ثم تأتي الشخصية الأشرُّ بين نساء شكسپير: ليدي ماكبث، التي أسماها النقَّاش "المرأة الشيطان"، مشبِّهًا حكايتها بقصة حواء التي دفعها طموحُها إلى حثِّ زوجها على الخروج عن خطِّ الفضيلة، فأطاح بهما ذلك الطموح. وهنا يجب أن نشير إلى خصائص أدب شكسپير، الذي يكرِّس، في نهاية العمل، مبدأ القصاص السماوي من الأشرار الذين يستخدمون الطرائق الميكيافلية للوصول إلى أهدافهم، ولو كانت مشروعة. قد يكون القصاص بالقتل أو بالانتحار، سواء الإرادي أو غير الإرادي، حين يعصف الندمُ بنفس مرتكب الإثم، فيدفع به إلى الجنون أو إلى التصفية الذاتية البطيئة.

ويسم النقَّاش امرأة ماكبث بـ"المرأة المسترجلة"، ويشبِّهها بـ"جان دارك"، الفارسة التي لم ينصفها التاريخ إلا بعد أحرقها بخمسة وعشرين عامًا، بعدما حرَّرتْ فرنسا من الاحتلال الإنكليزي، ثم تمَّ إعدامها إثر مؤامرة إنكليزية–فرنسية مشتركة، لكن الكنيسة طوَّبتْها "قديسة" بعد أن غَدَرَ بها السياسيون.

ويتناول النقَّاش نزعة "النفاق" في مسرحية الملك لير، النزعة التي توسلتاها ابنتا لير الكبريان، جونريل وريجان، من أجل الاستحواذ على قلب أبيهما الملك ليهبهما مملكته، بعدما قرَّر التنحي عن الحكم؛ بينما كانت الابنة الصغرى كورديليا لا تملك إلا صدق التعبير، فغضب عليها الملك وحَرَمَها من الإرث. وتعلِّمنا نهاية الملك المأساوية مغبَّة احتقار الصدق والاستسلام لِلِسان النفاق الزائف.

هذا ولم يكتفِ النقَّاش بنساء شكسپير، بل عرَّج على بعض النساء الشهيرات في التاريخ، مثل سارة وهاجر، زوجَي النبي إبراهيم، وصفورة، أم النبي موسى، وامرأة العزيز، والسيدة خديجة، أولى أزواج النبي محمد، وقدَّم أيضًا عرضًا لنظرة المفكرين والفلاسفة إلى المرأة عبر التاريخ، مثل شوپنهاور ونيتشه إلخ.

وبهذا كلِّه، قدَّم لنا النقَّاش پانوراما نسائية ثرية، لا سلبية فيها سوى الإسهاب الشديد – حتى إن كلَّ مسرحية كانت تُحكى وتُشرَح مرتين على الأقل عبر فصول الكتاب! كما كنت أرجو، بما أنه يُعِد "موسوعةً نسائية"، ألا يُغفِلَ الكتابُ نساءً سامقات، مثل العذراء مريم، وماري كوري، وهلِّن كلِّر، ووالدة أينشتاين!

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ربما وجبَ هنا أن أشيرَ أن للكتاب ترجمةً أخرى بديعة أنجزها أدونيس في العام 2002 وصدرت عن "المجمع الثقافي" بأبو ظبي، ووضع لها عنوان التحولات – وإن كنتُ أرى أن العنوان الأدق لكتاب أوفيد هو التحوُّرات، تأديةً للمفردة اليونانية metamorphosis، وهي اليوم مصطلح بيولوجي يعني "تحوُّر" الكائنات الحية وانسلاخها، ولاسيما الحشرات والزواحف، عبر مراحل نموها.

[2] الحظ والسحر والمصادفة من الآليات الأساسية التي يعتمد عليها أدب شكسپير بوجه عام – وكلها أمور كانت رائجة التداوُل في القرنيْن السادس عشر والسابع عشر، وهي الحقبة التي كتبَ فيها شكسپير إبداعاته.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود