|
التوأم الشمسي أسطورة ياما، ابن الشمس الناجي من الهلاك
من خلال إلقائه الضوء على وجوه الإله ياما المتعددة، يسطِّر الأنثروپولوجي شارل مالامو الروابط التي ينتسج فيها الموت والشمس والكتابة في الحضارة الهندية القديمة. غالبًا ما يبدو مالامو معتذرًا، حتى عندما يلقي محاضرة في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" ÉPHÉ فيكون محور الاهتمام، إذ يكون جمهورٌ غفير قد أتى خصيصًا للإصغاء إليه والإفادة من وضوح تحليلاته واقتفاء أثر ترحاله الدائم. تشعر به دومًا كأنه يود أن يشرح لك كم أن حضوره عَرَضي، وبيانه مؤقت، وسمعته غير مستحَقة. لا شكَّ في أن شارل مالامو هو أحد أكثر العلماء تحفظًا. قد نخطئ في حقِّه لو اعتبرناه خجولاً فقط. فتحفُّظه لا يمت إلى طباعه بصلة؛ والمسألة ليست نفسية بل أخلاقية بحتة: يتجسد فيه مثال السنبلة التي تنوء بحبَّاتها! جدير بالذكر أن معرفته لا تفرض نفسها بالقوة، بل تمضي قُدُمًا وتصرُّ على اصطحابك إلى أقطار لم تسمع بها من قبل، إلى عصور غابرة تلاشت في غياهب الذاكرة. مجلة الجنس البشري التي احتفلت بالذكرى العشرين على تأسيسها، كرَّمتْ هذا الأنثروپولوجي الفذ الذي ذهب لاستكشاف تاريخ الأديان. وقد ركز فيها المرحوم جاك دريدا، قبل كلِّ شيء، على "أناقة تحفُّظه اللامتناهية"؛ أما صديقه وزميله جان پيير فيرنان، كبير الاختصاصيين الفرنسيين بالحضارة الإغريقية، فشدد على انعكاسات رحلات مالامو الهندية على مفهوم الحضارة الإغريقية، قبل أن يخلص إلى القول: "لم أعرف في حياتي كثيرًا من الأشخاص تركوا فيَّ هذا الشعور بالوقار والخطر والسعادة في آنٍ واحد."
شارل مالامو وستيفاني جيمسون، 2002 وفي الواقع، ما إن يبدأ هذا الصوت الرقيق في الكلام حتى نجد أنفسنا مبحرين في أسفار غير متوقعة. يتقدم المعلِّم في خطى حثيثة، كأنه يكتشف في كلِّ لحظة دربًا جديدة. فمن تفصيل إلى آخر، ومن كلمة إلى أخرى، يرتسم مشهدٌ، بل عالمٌ بأكمله، أمام أنظارنا. شارل مالامو، الخبير بحضارة الهند القديمة وشعائرها الحَرام والمحلِّل لمراحلها، ليس أحد الكبار في حقل الدراسات السنسكريتية فحسب، بل هو، بلا أدنى ريب، أحد رجال عصرنا الفريدين. إنما لا شك في أنه سيخيِّب آمال الذين يبحثون عن الحقائق الواضحة السريعة. فكتابه التوأم الشمسي[*] لا يحوي مقالات كاملة شاملة ولا آراء ملمَّة بالموضوع من نواحيه كافة، بل هو يكتفي فيه بإيراد وثائق مقتضبة وتساؤلات محدودة. إنها على أية حال تساؤلات عجيبة، موجهة ضد آلهة غريبة تسمِّي نفسها "آلهة الغضب". وتنهض تلك الأسئلة على مفاهيم قليلة الأهمية ظاهريًّا وموضوعات خارجة على المألوف، كالمدلولات التي تتضمنها تفاصيل شعائرية فنية، من نحو "الطوب المثقوب"، و"لغة الآلهة السرِّية"، و"مسار السكين في جَزْر الذبيحة"، إلخ.
يسبر شارل مالامو أغوار أقدم الكتب الهندية، تلك التي تتحدث عن زمن ما قبل التاريخ والكتابة، ويعاود قراءة مدوَّنات حول شعائر سرية لا تزال تُعرَف أو تمارَس إلى اليوم، ويُبرِز رويدًا رويدًا هياكل خفية وكتابات مطمورة. كتاب التوأم الشمسي عصارة سلسلة دراسات تتمحور حول شخصية ياما، إله الموت. وهو دليل صارخ على المآثر الميثولوجية التي بات مالامو معتادًا على التصدي لها. ويهدف الكاتب من خلاله إلى تقديم نظرة شاملة عن الحضارة الهندية القديمة، عبر مدوَّنات قد تبدو للناظر زهيدة وتافهة. وشخصية ياما عبارة عن مجموعة ملامح تبدو، للوهلة الأولى، متباينة ومتنافرة للغاية: فهو ابن الشمس، وقد جُبِلَ من مادة الموت نفسها! وقد اختبر هذا الإلهُ الخالد الموتَ للتعرف إلى مصير البشر الذين ينبغي أن يدينهم في نهاية المطاف. وتنتفي أشكالُ الخلاص كافة في هذا الموت الإلهي: ياما العائد من الهلاك يراجع ملفَّ كلِّ بشري أعدَّه له كاتبُه لمعرفة كيف أدى المتوفى واجباتِه dharma على الأرض. وهنا نسجل الملاحظة الآتية: ياما – عالَم الحدود القصوى – هو الموت الذي يعود لاسترداد الحياة التي مُنِحَتْ للكائنات البشرية، ويجدِّد بهذه الكائنات أداء الشعائر وصون النظام الكوني بغية الحفاظ عليها. وتلك ليست سوى البداية. فكل شيء لدى ياما يتمتع بوجهين، بمنحيين مختلفين، بدءًا باسمه الذي يعني، من ناحية، "التوأم"، ومن ناحية أخرى، "القيد" – هذا لو شددنا في اللفظ على الجزء الأول.
ياما–يامي فقد راحت شقيقتُه التوأم المسماة يامي تشتهيه وتتوسل إليه أن يجامعها. لكن ياما رفض الأمر تمامًا. وعندما وافتْه المنية، غرقت يامي في الأحزان وتعذرَّت تعزيتُها. وقد جاء في نصٍّ سنسكريتي ما يلي: لم تنسَ يامي شقيقَها، وكانت إذا سُئلتْ: "متى توفي شقيقك، يا يامي؟" تجيب: "توفي اليوم توًّا." فاجتمع الآلهة وقرروا: "علينا وضع حدٍّ لهذه الحال. فلنخلق الليل إذن." وهكذا وُلد الليل الذي ليس نسخة عن النهار، بل انقطاع لامتداده. فالمسألة لا ترتكز على الشمس والموت فقط، إنما على مفاهيم النسخ والازدواجية وتعدُّد المعاني. ومن هنا تبرز عبارات محيرة كهذه: إن هذا الرجل الذي ينتصب في قرص الشمس وهذا الرجل الذي يتطلع إلى المستقبل هما، في الحقيقة، الموت بعينه. ومن خلال جمع تلك المعطيات المختلفة، يستقي مالامو بعضًا من موضوعاته الأثيرة: الدَّيْن وسدادَه، السلطةَ الملكية (التي كان الإله ياما مسؤولاً عنها)، مسألة تقديم الذبائح وشعائره (توضع عظام الميت، أو نسخة عنها، في نار مستعرة، ولا يحُول رحيل مقدِّم الذبيحة دون إتمام العملية حتى النهاية)، فضلاً عن التساؤلات حول التوأمة، واختلاف الجنسين، والشهوة، والقانون، والواجبات، إلخ، في تحقيق شائق عن الكتابة الهندية. وهكذا يقترن سوادُ الحبر بسواد الموت! والعبارة الأخيرة، التي لا نزال نجهل كيف نشأت، والتي ظهرت للمرة الأولى في منتصف القرن الثالث، تثير الارتياب والحذر دومًا. ففي الهند، لا يمكن قَرْنُ تقاليد المعرفة بتقاليد الثقافة. ويذكر مالامو في هذا الصدد: إن الإلمام بالكتابة والنصوص المكتوبة لا يمتزج بالمعرفة. قد يكون المرء على معرفة واسعة بالهند من غير أن يكون مثقفًا. فنواحي المعرفة التي تُعَدُّ الأبرز والأهم محظورةٌ على الكتابة، ويحظَّر الاطلاع عليها عِبْرَ النصوص المكتوبة. يبدو واضحًا مما سبق أن كتابًا كهذا لا يفصح عن مكنوناته كلِّها عند القراءة الأولى. ينبغي، إذن، العودة إليه عودةً متكررة لكشف نواحٍ جديدة عن الهند. فكما يقول سپينوزا: "كل جميل فهو صعب بقدر ما هو نادر." *** *** *** [*] Charles Malamoud, Le Jumeau solaire, « La Librairie du XXIe siècle », Éditions du Seuil, Paris, 2002 ; 228 p.
|
|
|