|
الأديان العامة في العالم الحديث لكلٍّ أن يعتنق أيَّ "إيمان" من أجل "ولادة ثانية" وذات جديدة
خوسيه كازانوفا في الأديان العامة في العالم الحديث[*]، بترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، يسعى إلى الإجابة عن سؤال قد يبدو، ضمنيًّا على الأقل، مفارقةً بالنسبة إلى نظريات العَلْمَنَة، وكذلك بالنسبة إلى معظم نظريات الحداثة: ما هي الظروف المتاحة لقيام الأديان العامة الحديثة؟
الفصل الأول من الكتاب – "العَلْمَنَة والتنوير والدين الحديث" – عرضٌ نقدي لمفهوم "العلمنة" ونظريتها، على الخلفية التاريخية لتطور الحداثة الغربية. ويَعتبِر هذا الفصل أن خروج الدين من النطاق الخاص يحملنا على إعادة التفكير في نظريات العلمنة الحالية وإعادة صوغها، لكنْ من دون التخلِّي عنها، بالضرورة، ومن دون انتقادها. ويُظهِر التحليل أن ما يصلح لنظرية علمنة واحدة يتألف فعليًّا من ثلاث مسائل مختلفة: العلمنة بوصفها أفولاً دينيًّا، والعلمنة بوصفها تميزًا، والعلمنة بوصفها خصخصة. يلح هذا الفصل على الحاجة إلى التمييز، تحليليًّا، بين المقدمات المنطقية الثلاث الرئيسية التي يقوم عليها المثال النموذجي التقليدي، وإلى تقويمها تفاضليًّا، ويبيِّن أن أصل الادعاء الذي يرى أن الدين سوف ينزع إلى الاندثار مع العَصْرَنَة التدريجية – وهي فكرة أثبتتْ بطلانها في وضوح كاقتراح عَمَلاني عام – يعود إلى نقد الدين في عصر التنوير؛ فيما يؤكد التحليل أن مقولة تميُّز النطاقين الديني والعَلماني لا تزال تشكِّل النواة التي يتسنى الدفاع عنها في نظرية العلمنة. لكن المؤلف كازانوفا يرى أن هذا التحليل يشير إلى أنه لا يمكن بعد اليوم الدفاع عن الرأي الذي يعتبر أن التميز الحديث يؤدي بالضرورة إلى تهميش الدين وخصخصته، أو عن المقولة المناظِرة منطقيًّا، وقوامها أن الأديان العامة تهدِّد بالضرورة البُنى المتميزة للحداثة. الفصل الثاني من الكتاب – "الأديان الخاصة والعامة" – لا يقترح نظريةً عامة أو تصنيفًا شاملاً مفصلاً للأديان العامة، بل إنه، في قسم منه، تمرين نظري، وتصنيفي في قسم الآخر، يستند إلى تقليدين مختلفين، هما: سوسيولوجيا الأديان المقارنة ونظريات النطاق العام والمجتمع المدني، بغية دراسة تلك الأشكال من الدين العام الحديث، التي قد تكون، في آنٍ واحد، قابلة للاستمرار ومنشودة من منظار معياري حديث. والمؤلِّف يعني بـ"قابلة للاستمرار" تلك الأشكال من الدين العام المتكافئة في جوهرها مع البُنى الحديثة المتميزة؛ فيما يعني بـ"منشودة" تلك الأشكال من الدين العام التي قد تساهم فعلاً في تعزيز النطاق العام للمجتمعات المدنية الحديثة. أما لب "الأديان العامة في العالم الحديث" (من الفصل الثالث حتى الفصل السابع)، فيعرض دراساتٍ تجريبيةً لما يمكن أن يُسمَّى أنواع الدين العام في العالم الحديث، ويقدِّم خمس حالات من التحول الذي طرأ على الدين المعاصر وَقَعَ عليها اختيارُه، وذلك انطلاقًا من تقليدين دينيين، هما الكاثوليكية والپروتستانتية، في أربع دول مختلفة هي: إسبانيا وبولونيا والبرازيل والولايات المتحدة. يدل كلٌّ من هذه الحالات الدراسية على قصة تحوُّل مختلفة مستقلة. ففي حالة الكاثوليكية الإسبانية، تتمثل المشكلة المطروحة في الانتقال من كنيسة دولة سلطوية معترَفٍ بها إلى كنيسة غير معترَف بها لمجتمع مدني تعددي. وفي حالة بولونيا، يصوِّر التحليلُ التغييرَ الأدق المتمثل في الانتقال من كنيسة غير معترَفٍ بها تحمي الأمَّة من الحكم الأجنبي إلى كنيسة قومية تعزِّز نشأةَ المجتمع المدني في مواجهة دولةٍ بولونية سلطوية. ويحلِّل الفصل المخصص للكاثوليكية البرازيلية التحولَ الجذري للكنيسة البرازيلية من مؤسسة دولة أقلوية ونخبوية إلى مؤسسة شعبوية مدنية. وبالانتقال إلى الولايات المتحدة، يحلِّل الفصل السادس من الكتاب تحوُّل الپروتستانتية الإنجيلية في أمريكا من وضعها المهيمن العام كديانة مدنية خلال القرن التاسع عشر إلى انكفائها المذهبي إلى ثقافة فرعية أصولية في أواخر العشرينيات من القرن العشرين، حتى عودة ظهورها على الساحة العامة وتعبئتها في ثمانينياته. أما الحالة الدراسية الأخيرة، فتحلِّل تحوُّل الكاثوليكية الأمريكية من فرقة دينية غير مستقرة إلى مذهب خاص دفاعي، ثم إلى مذهب عام فَرَضَ مكانتَه. وبما أن المعايير لانتقاء هذه الحالات الدراسية الخاصة قد لا تكون بديهية في حدِّ ذاتها، يطرح المؤلِّف تعليلاً لهذا الاختيار، فيرى، من الناحية التأويلية، أن كلَّ قصة من هذه القصص الخمس ليست شائقة فحسب، بل مفيدة كذلك لتوضيح الأمثلة التجريبية للأنواع المختلفة من الدين العام؛ فيحاول، بالتالي، قدر المستطاع، أن يدع تلك القصص المختلفة تتحدث عن نفسها من دون فرض إطار تحليلي خارجي عليها، فيما يبرِّر المبالغةَ في التركيز على الكاثوليكية لأسباب نظرية: إذ كانت الكاثوليكية محور النقد التنويري للدين، وشكَّلت لقرون عديدة أكثر أشكال المقاومة الروحانية والمبدئية والأصولية لسيرورات العلمنة والتحديث في النطاقات كافة (ولو ظهرتْ هذه المقاومة ضعيفةً أحيانًا)؛ بل حاربت الرأسمالية والليبرالية، والدولة العَلمانية الحديثة والثورات الديموقراطية والاشتراكية، وحتى الثورة الجنسية. في اختصار، كانت الكاثوليكية الشكل النموذجي للدين العام المناهض للحداثة. غير أن الكنيسة الكاثوليكية، في ستينيات القرن العشرين، استهلَّت مسارًا متعرِّجًا من التجديد الرسمي إلى الحداثة العَلْمانية، وارتضت شرعيةَ العصر الحديث؛ لكنها ترفض أن تصبح دينًا خاصًّا فحسب، بل تريد أن تكون دينًا خاصًّا وعامًّا في الوقت عينه. وفي الفصل الأخير من الكتاب – "تعميم الدين الحديث" – يستعيد الباحث كازانوفا الحجج النظرية الأساسية في الفصلين الأولين، بعد إقامة الدليل عليها بواسطة الأدلة التاريخية المسوقة من الحالات الدراسية الخمس، فيستخلص بعض المقارنات والاستنتاجات العامة من هذه الحالات الدراسية، ويعيد صوغ مقولة التعميم في صورة أكثر منهجية، فيُدرِجها في منظار أعمَّ وأشمل. لكن المؤلِّف يقرُّ بوجود خلل حقيقي: فهو يرى أن مبحثه هو دراسة متمحورة حول الغرب، إنْ لناحية الحالات الخاصة التي اختيرت للبحث، أو لناحية المنظار المعياري الذي يرشد البحث. فهو يشير إلى أنه كان من المستحب للغاية إدراج الثورة الإيرانية كحالة دراسية إضافية، وإلى أن إحياء الإسلام كان، في نهاية المطاف، أحد التطورات البارزة التي أعادت الدين إلى العَلَن، وإلى أنه كان يمكن دراسة تعميم اليهودية في إسرائيل أو تعميم الهندوسية في الهند أو تعميم البوذية في بورما، فيعترف بأن مثل هذه المهمة ربما تطلَّبتْ تعديلاً وتوسيعًا لتصنيفه النموذجي للأديان العامة، ولنظرية التميز الديني والسياسي وللإطار التحليلي العام المعتمَد في دراسته. وهي مهمة ما كانت لتكون مستحيلة، على صعوبتها، لكن ضيق الوقت ومحدودية المعرفة والمراجع حالا دون ذلك. فهو لا يعتقد أن الحضارات غير الغربية هي "الآخر"، لإيمانه أن اللغات البشرية كلَّها قابلة للترجمة وأن الخطابات كلَّها قابلة للفهم في المقام الأخير. ومستند هذا أن احتمال سوء التفاهم وخطأ التأويل أعظم في أوضاع التواصل الحضاري، لكنه ليس بالضرورة مختلفًا من الناحية المبدئية عن الأخطار التي يتضمنها التواصلُ اليومي، حيث يُخفق كلٌّ منَّا مرارًا في إدراك رسالة الآخر. المؤلِّف مقتنع أنه يمكن لأيٍّ كان أن يعتنق أيَّ "إيمان". فهو يقرُّ بأنه، في نهاية المطاف، يبقى الوحي المستديم الذي تدين به البشرية لجميع الديانات الخَلاصية ذات النزعة الكونية الأساسَ الذي يجعل كلَّ كائن بشري – بغضِّ النظر عن الجنس أو العرق أو الطبقة أو العشيرة أو الطائفة أو القبيلة أو الإثنية – قادرًا على "الولادة الثانية" في "ذات" جديدة. ذلك أننا جميعًا – وقد أصبحنا كذلك، شئنا أم أبينا – مواطنون في مجتمع مدنيٍّ بشري واحد، وعلينا تقع مسؤوليةُ إيجاد أو وضع القوانين التي سوف تتحكم في خطابنا التواصلي المحتوم. وفي هذا السياق يقرُّ المؤلِّف بأن الحداثة الغربية خسرت بعضًا من غطرستها واعتدادها، وراحت تشكِّك في موقفها المتعجرف من "الآخر"، ولاسيما في وقت ثَبَتَ فيه ظاهريًّا فشلُ محاولاتها لتخطِّي نفسها عبر الاشتراكية. وهو يلحُّ على أن الحداثة اليوم تقف على مفترق طرق: فإن لم تدخل في حوار إبداعي مع الآخر، ومع تلك المنقولات التي تتحدى هويتها، فإنها سوف تنتصر على الأرجح؛ إلا أن الأمر قد يؤول بها إلى الدمار بواسطة المنطق اللاإنساني الصلب لإبداعاتها الخاصة. وقد يكون من سخرية القَدَر أن يساعد الدينُ الحداثةَ (عن غير قصد، ربما) على أن تحفظ نفسها، على الرغم من كلِّ الضربات التي تلقَّاها منها! وجهة نظر كازانوفا جديرة بالأخذ في الاعتبار، في ترجمة موفَّقة. *** *** *** عن النهار، الثلثاء 16 آب 2005 [*] صدر لدى "المنظمة العربية للترجمة"، في 440 صفحة قطعًا كبيرًا، توزيع "مركز دراسات الوحدة العربية"، 2005، بترجمة فريقٍ مؤلَّف من: هالة حيدر نجار، كاترين سرور، مي صباغ، فادي سكري، وبتنسيق نهلة بيضون ومراجعة الأب بولس وهبة.
|
|
|