من منهاتن إلى بغداد

ما وراء الخير والشر[1]

الشرق والغرب لم يصطدما فكريًّا، بل عِبْر تصورات إيديولوجية يطغى عليها الخيال

 

حوار مع محمد أركون

 

في سياق الكتب الكثيرة التي صدرت – ولا تزال تصدر – حول أحداث 11 أيلول ونتائجها وانعكاساتها، نشرت دار "ديكليه دو برووِر" الباريسية كتابًا بعنوان من منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر، وهو من تأليف محمد أركون وجوزيف مايلا[2]. الكتاب يتحدث بصوتين: صوت مؤرخ وباحث في الفكر الإسلامي وفي الحداثة الأوروبية، وصوت باحث ومحلِّل سياسي يركز في أبحاثه على الجوانب الجيوسياسية؛ وكلاهما أستاذ محاضر في جامعات باريس.

ينطلق الكتاب من أحداث 11 أيلول ومن المعاني التي تكتسي بها، ليس فقط على المستوى السياسي البحت، وإنما أيضًا على المستويات الفلسفية والفكرية. يتناول الكتاب كذلك آثار هذا الحدث على العلاقة بين الشرق والغرب، بل بالأحرى، بين الإسلام والغرب.

يشير المؤلِّفان إلى أن الحرب المعلَنة اليوم، إعلانًا مباشرًا أو غير مباشر، غير متكافئة على الإطلاق، لأنها تضع وجهًا لوجه مجتمعاتٍ شديدة التناقض: مجتمعاتٍ تعيش الآن حالاً من التخلف والتراجع التاريخي، ومجتمعاتٍ أخرى تمتلك أحدث المعطيات التقنية والتكنولوجية، ولا تترك تأثيرها في الواقع المباشر وحسب، بل تطبع بمفاهيمها أيضًا مستقبلَ الوجود الإنساني ككل.

وإذا كان الفعل العسكري والحربي هو المهيمن اليوم، فإن المسائل الكامنة وراء هذا الفعل هي، بحسب المؤلِّفين، من طبيعة فلسفية وروحية. غير أن هذا الجانب يتم تجاهلُه للأسف في معظم الأحيان، كما يتم تهميشُه أمام التفسيرات السياسية الآنية. وهذا الجانب المهمَّش هو بالفعل أحد الهواجس الأساسية التي ينطلق منها كلٌّ من محمد أركون وجوزيف مايلا في كتابهما.

وإذا كان الكتاب يتناول المنطلقات الموضوعية للأحداث التي يعيشها عالمنا الراهن، وإذا كان يتناول أيضًا بعض المسائل الجيوسياسية التي تطرحها سياسةُ الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، بل وفي الشرق الأوسط ككل، ويتناول السياسة الأوروبية وضرورة تجديدها، فإنه يلتفت – بقوة – إلى الجوانب الذاتية التي تتمثل هنا في الواقع الديني، أي في حاضر الإسلام ومستقبله، وكذلك في العلاقة بين الدين والحداثة. ومن هنا يقترح الكتاب إعادة اكتشاف تاريخ الإسلام وموضعه في التاريخ العالمي في صورة عامة.

فيما يلي لقاء مع المفكر الجزائري محمد أركون، أحد مؤلفَي الكتاب.

هـ.س.

***

 

ينطلق كتابك الجديد من أحداث 11 أيلول، لكنه لا يتوقف عندها فقط، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، ليتناول موضوعات كثيرة تحتاج هي الأخرى لمعالجتها إلى كتب قائمة بذاتها. فما هو الهاجس الأساس من وراء وضعكما هذا الكتاب؟

هناك هواجس عدة تقف من وراء وضعنا هذا الكتاب. إنه يندرج في سياق اهتماماتي وأبحاثي الشخصية كمؤرخ للإسلام. وهذا ما يدفعني دائمًا إلى تسليط الضوء على الأحداث المهمة من خلال استعمال المناهج التفكيكية والتساؤلية لطرح ما يجب على كلِّ مؤرخ طرحُه في مثل هذه الأحداث. إن حادث 11 أيلول يستحق أكثر مما خُصِّصَ له من اهتمام، وبخاصة عند المثقفين العرب. فكل ما قرأنا وسمعنا حتى الآن ليس سوى تحليلات عادية تعوَّدنا على قراءتها عند الباحثين المتخصصين في العلوم السياسية. غير أن هذه البحوث تكتفي بالنظر إلى المدى القصير جدًّا: فهي تحليلات تخص الحادث، تنطلق منه، فتبحث ردود الفعل في الغرب والشرق، مكتفيةً بهذه النظرة السطحية. لذا قررتُ والصديقَ جوزيف مايلا أن ننجز هذا الكتاب، فساهم هو من جانبه بخبرته وثقافته كمتخصص في العلوم السياسية، وساهمت أنا كمؤرخ يعتني بالبُعد التاريخي. تساءلنا في هذا الكتاب عن مدى تأثير بعض النصوص القرآنية في الذين قاموا بهذه الأحداث، وكيف فهموا وترجموا آياتٍ قرآنية من سورة التوبة التي يعرفها كل مسلم، أو بالأحرى كيف فُسِّرَتْ لهم هذه الآيات.

من هنا، ولكوني مؤرخًا للفكر الإسلامي، لا أزال أربط بين الأوضاع التي نعاني منها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبين ما أسمِّيه بـ"تاريخ الفكر الإسلامي"، فأبحث عن الجذور التاريخية والعقائدية والفكرية والثقافية للأوضاع التي نشاهدها في المجتمعات الإسلامية كافة، ولاسيما المجتمعات العربية التي تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، مشيرًا بذلك إلى الثقافات الكثيرة الموجودة في تاريخ الفضاء المتوسطي.

إن الفكر العربي لم يهتم بعدُ بعملية البحث التاريخي حتى يُبرِز العلاقات بين الأوضاع الاجتماعية والثقافية التي شاهدناها في هذه المجتمعات بعد استقلالها من الاستعمار والحوادث المتتابعة منذ الحروب التحريرية، كحرب الجزائر والحروب الأخرى. هناك أيضًا الحروب الأهلية التي كانت نتيجة عاملين: العامل الخارجي، وهو ما يُسمَّى في الغرب بالجغرافيا السياسية، والعامل الداخلي المتمثل في الأوضاع الداخلية وما تشهده من حوادث تحصل يوميًّا، وأقصد بها ظاهرة الإرهاب المرتبطة بالسياسات التي فرضتْها الحكوماتُ الوطنية بعد استقلالها. هذا النوع من المقاربة ضروري لتفهُّم ما يجري في تاريخنا المعاصر وشرحه وإيصاله إلى المواطنين في المجتمعات العربية.

أقول إن هناك مسؤوليات تاريخية ترجع إلى تطور الفكر العربي، ليس فقط منذ عهد الاستعمار في بداية من القرن التاسع عشر، كما يلح على ذلك الخطابُ الوطني القومي، بل منذ المرحلة السابقة للاستعمار بكثير. وأتساءل: ماذا حدث عندنا في الفضاء الفكري؟ وهذا ما دفعني إلى دراسة جميع العوامل التاريخية والثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية التي لعبت دورًا مهمًّا في التطور التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية، من إندونيسيا إلى المغرب ومن الشيشان إلى أفريقيا السوداء. أحلِّل هذه العوامل كلَّها، ليس تحليلاً تاريخيًّا سرديًّا، كما تعوَّدنا في دراستنا وتدريسنا للتاريخ في المدارس الثانوية، ولكن بالاعتماد على منهج تفكيك البنية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في هذه المجتمعات، وبتتبُّع ذلك كله عبر التاريخ. فهذه التساؤلات الفكرية والعمليات العلمية المنتهَجة في الكثير من مجتمعات العالم اليوم، لا نجدها في الكثير مما يُنتَج في الإنتاج الفكري والعلمي والتاريخي والسوسيولوجي العربي، ناهيك عن الإنتاج الأنثروپولوجي، أي علم البحث في أصل الجنس البشري وتطوره، بأعراقه وعاداته ومعتقداته، لأن الفكر العربي لا يهتم بهذا العلم، على الرغم من أنه العلم الذي يمنحنا مفاتيح معرفية شديدة التأثير والأهمية.

إن إحدى مشكلاتنا الأساسية في العالم العربي اليوم هي أن المواطنين العرب لا يقرؤون ولا يشاركون في الجهود التي يبذلها الباحثُ المجتهد ليغيِّر نظرتَنا إلى أنفسنا كأعضاء في مجتمعات وكمواطنين. وأتساءل أيضًا عن دور مَن تمَّ تكليفهم تدريسَ التاريخ، مثلاً، وتدريس تاريخ الفكر والأدب في مدارسنا العربية؛ أتساءل عن تأهيل المدرِّس والمعلِّم عندنا، ليس فقط في مرحلة الجامعة، بل في متابعته للقضايا المطروحة في المجتمع كافة أيضًا. إذًا فلنسأل: مَن يقرأ؟ وماذا يُقرأ؟ ومَن يهتم بالاستفهام عما يحصل في بلداننا للمساهمة مع الباحثين في تبليغ التلاميذ وشرح الرؤية لهم وتوضيحها. ولذلك فمهما أنتجنا من كتب، ومهما اجتهدنا في تقديم مادة غزيرة للجمهور العربي في سائر المجالات، فإننا لا نصل إلى نتيجة، لأن شعوبنا لا تقرأ لأسباب عدة، لا يتسع المجالُ هنا لذكرها.

إلى أيِّ مدى تركتْ أحداث 11 أيلول أثرَها السلبي في العلاقة – الصعبة أصلاً – بين الشرق والغرب؟

ما ذكرتُه عن الجمهور العربي، كونه لا يقرأ ولا يهتم بالكتب التاريخية، يصح قوله أيضًا في خصوص الجمهور الغربي. فهذا الجمهور لا يرجع إلى التاريخ البعيد، ولا يتساءل عما حَدَثَ بين الإسلام كدين وبين الإسلام كعامل تاريخي، منذ ظهوره إلى يومنا هذا، في حوض البحر الأبيض المتوسط؛ وكذلك عن الحروب المتتابعة التي وقعت بين الإسلام، كنظام سياسي وكقوة تاريخية وعسكرية واقتصادية، وبين المسيحية التي كانت أيضًا قوة سياسية واقتصادية منذ القرون الوسطى – إلى أن انفجرت الثورة الحديثة في الأمم الأوروبية وفصلت بين القوة السياسية وبين المسيحية كدين. الجمهور لا يهتم بهذا التاريخ الطويل والمهم، لا من جهة الغرب ولا من جهة المسلمين؛ وهو ما يجعل الطرفين يصطدمان عبر تصورات إيديولوجية، وهي تصورات يطغى عليها الخيال: فكلٌّ من الطرفين يتصور الآخر بحسب ما يشاهده على شاشة التلفزيون وما يقرأه في الجرائد. فوسائل الإعلام لا تقدم التفسير والتحليل المبني على العلم والموضوعية؛ وهو ما أسهم في سوء الفهم وحدوث الصدامات والحروب العنيفة المستمرة إلى الآن. ومع الأسف الشديد، ستستمر هذه الحروب، لأن الطرفين لم يوليا الأهمية اللائقة للجانب الفكري والثقافي، لتثقيف المواطنين أو توعيتهم، ليفهموا، مثلاً، ما هي وظيفة الأديان في كلِّ ما يجري الآن، وما هي الوظيفة السياسية، التي يجب أن تتميز عن الوظيفة الدينية، في إنتاج هذه الحروب المتجددة والمتتابعة من الجهتين.

هل تركتْ هذه الأحداث أثرَها المباشر فيك وكيف؟ – خصوصًا أن الإسلام هو موضوعك الأساس – أنت المقيم في الغرب.

لا أقول عنه إنه أثر سلبي، بل إنه أثر متعب ومؤلم، لأنه يصعب على المثقف أن ينتج خطابًا موضوعيًّا مدققًا مربيًّا للعقل، ليتمكن هذا الأخير من اكتساب وسائل النقد. فمن دون وسائل النقد والتساؤل وتوضيح الرؤية لا يمكن للإنسان أن يخرج من نطاق التشويش الإيديولوجي والخلط الدلالي. فمعظم الناس يتخبطون في ما أسمِّيه بـ"الفوضى الدلالية" chaos sémantique، لأنهم لا يستعينون بِمَن يعلِّمهم وسائل النقد والتحليل، ليميزوا، مثلاً، بين الميدان السياسي وتدابيره وبين المواقف العقائدية الدينية، فيخلطون بينها – وهذا ما يولد العنف في الواقع. فلا المدارس تقوم بوظيفتها في تربية الشباب، ولا وسائل الإعلام تؤدي دورها بالقيام بتوعية موضوعية لتغيير هذا الوضع.

وبالتطرق إلى حوادث 11 أيلول، ألاحظ، بعد مرور سنتين، أن كثيرين من المساهمين في تحليلها اندفعوا في متابعة نوع من النقاش والشرح القائم على الجدال الإيديولوجي، وليس على الفكر النقدي، كالقول، مثلاً، بأن هذا الفريق يستحق العقاب وذاك يدافع عن حقوقه! وهذا المنطق غير قادر على الإطلاق على الحدِّ من ظاهرة الإرهاب المنتشرة في العالم.

زرتَ أمريكا مباشرة بعد هذه الأحداث، بدعوة رسمية من الكونغرس، وتحدثت عن الإسلام أمام أعضاء الكونغرس. ماذا كانت انطباعاتك؟

كانوا متحمسين لمعرفة المزيد عن الإسلام وعن تاريخه. ولكنهم يتساءلون: لماذا جرى الذي جرى؟ – والولايات المتحدة حضارة وثقافة وديموقراطية كبيرة في العالم! كمواطنين أمريكيين، كان شعورهم هو الدفاع عن وطنهم وحرياتهم وكلِّ القيم التي تكوِّن المجتمع. وهم متفقون على أن محاربة الإرهاب تتم بتدبير سياسة خاصة تعالج هذه الظاهرة معالجةً دولية على مستوى الأمم المتحدة – وهذا هو موقفي أيضًا في محاربة الإرهاب.

كيف تقوِّم موقف المثقفين الأمريكيين حيال الأحداث الراهنة؟

استغرب المثقفون الأمريكيون ما حدث؛ إذ لم يكن لأيِّ أحد أن يتوقع حدوث ما حدث! ومن هذه الحيثية، ليس هناك فارق بين المثقف وسائر الناس. فكيف يمكن لمثل هذا الحادث أن يحدث في قلب نيويورك؟! وبعد زوال الدهشة الأولى، تساءلوا عن كيفية مواجهة هذا التهديد، لأنه تهديد يطال حياة الناس واقتصاد الوطن وسائر النشاطات القومية. فجاءت "رسالة المثقفين الأمريكيين" بعدما ظهرت لهم درجةُ خطورة الوضع، حيث تبيَّن دعمُهم لسياسة واشنطن في اختيار وسيلة الردِّ على الإرهاب – وهذه هي المشكلة: ذلك أن المثقفين لا يولون أهمية للبحث عن الجذور التاريخية.

وهذا ما يعانيه المسلمون والعرب أيضًا، كما سبق أن ذكرنا، لأنهم لا يتساءلون بدورهم عن الجذور وعن الطريقة التي توصلهم إلى حقوقهم. بمعنى، هل يسمح لهم القانون الدولي، وتسمح الأخلاق والقواعد الإسلامية، بأن يقوموا اليوم بهذه العملية للدفاع عن الحقوق المهدورة؟ – وهم في ذلك لم يحدِّدوا هذه الحقوق ولم يبيِّنوها. فما هي هذه الحقوق التي يدافع عنها هذا الإرهاب إذن؟ أهي حقوق الفلسطينيين؟ أم هي حقوق الشعب الجزائري الذي ظل يتخبط في حرب أهلية ويعاني ويلاتها؟ أهي حقوق العراقيين الذين سيطر عليهم رئيس واحد طوال ثلاثين سنة؟ إذًا، ما هي هذه الحقوق التي لنا الحق في الدفاع عنها وعلينا واجبه؟ هكذا يجب أن يُطرَح السؤال، حتى نجيب وتجيب الشعوب.

لكن هذه الشعوب لن تجيب؛ فهي تتخبط في حال من الجهل والمعاناة والظلم، الداخلي والخارجي. علينا أن نرى، مثلاً، حال الشعب العراقي الذي انتقل من مأساة إلى أخرى! فهل هذا حل للقضايا التي نريد حلَّها؟! ومثل هذا الأمر أُرجِعُه إلى عدم التفكير وعدم المساهمة بيننا في البحث عن المواقف التي يجب أن نعتمدها أمام التاريخ العام في العالم، وليس أمام الولايات المتحدة فقط.

وهنا أتساءل عن موقف العرب حيال الاتحاد الأوروبي وسياسته التي تلح، منذ مؤتمر برشلونة في العام 1995، على أن يساهم جميع الأطراف في تغيير النزاعات القائمة بين الدول العربية وفي توحيد كلمة العرب التي لم تتوحد حتى اليوم! الاتحاد الأوروبي يقترح سياسةً للمستقبل بين دول حوض المتوسط. فما هي الأجوبة الواضحة التي ينبغي الاعتماد عليها، ونقول إنها صالحة للشعوب، ويمكن للمواطن المساهمة فيها وتحقيقها؟ من جهة أخرى، ما هو البرنامج السياسي الذي قُدِّمَ للجمهور العربي ليحلَّ قضاياه – وهي مسائل لم تُطرَح على هذه الأسُس أصلاً حتى نقف في وجه الإرهاب، الداخلي والخارجي.

أنت تركِّز في الكتاب على حاضر الإسلام ومستقبله، وتدعو إلى إعادة اكتشاف تاريخه وقراءته قراءة جديدة. في رأيك، كيف ستتم هذه القراءة؟

شرحت هذا في كتب كثيرة، ولم أنتظر أحداث 11 أيلول لأقدم حلولاً وسُبُلاً في إمكاننا السير فيها لتحقيق نتائج سليمة. من هذه الحلول ما يتصل بتثقيف أبنائنا ورفع مستوى الفكر لدى الجماهير العربية. لقد اعتنيت في مجال الفكر الإسلامي بتقديم قراءات جديدة للخطاب القرآني لنتفهم، أولاً، على أية أسُس علمية ينبني ما أسمِّيه بـ"التفسير الموروث"، أي تفسير القدامى – ذلك لأنه تراث موجود، لا بدَّ من قراءته، وينبغي تقويمه تقويمًا علميًّا، حتى نفرز ما يمكن لنا أن نعتمده اليوم ونتبنَّاه كأسُس صالحة لفهم القرآن – هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ما هي الأسُس التي فات أوانها ولم تعد مقبولة علميًّا؟

لقد أحدث علم اللسانيات، مثلاً، تغييرًا جذريًّا في التحليل الألسني لأيِّ خطاب من الخطابات، سواء كان أدبيًّا أو فلسفيًّا أو شرعيًّا أو دينيًّا. فلا بدَّ لنا من أن ندرس أو نحلِّل جميع أنواع الخطابات، بما فيها علم الحديث وكتب الفقه، باستعمال الوسائل التحليلية التي قدَّمها كلٌّ من اللسانيات والأنثروپولوجيا، لفتح آفاق جديدة لفهم القرآن وتاريخ الفكر الإسلامي وإيصاله إلى الجمهور الواسع، لا باستعمال طريقة عمر خالد الذي يقول بالخرافات لتنويم العقول، كتلك القصص التي لا تحترم القواعد التاريخية والألسنية والسوسيولوجية، وإنما تحرِّض الخيال الاجتماعي وتدفعه في اتجاه عمليات إرهابية كالتي شاهدناها.

ولكن، كيف يستقيم ذلك ضمن الأوضاع الراهنة التي تعيشها المجتمعات العربية وضمن الوضع الذي يعيشه المثقفون العرب أنفسهم؟ – ونسبة كبيرة من هؤلاء – وأنت منهم – تعيش في الغرب؟

المثقفون عندنا مقموعون، والتفكير ممنوع، ومجردُ أخذ المبادرة يُعَد خطرًا علينا. ولا شكَّ في أن الأنظمة السياسية القائمة تتخوف من هذا النوع من التجديد في الفكر الإسلامي. غير أن في إمكانها فتح الأبواب وتأييد الباحثين والمفكرين الذين يريدون مصلحة الأمة أو تشجيعهم. فلماذا لا يغيرون مواقفهم برؤية الطريق المؤدي إلى حلول غير الحلول الإرهابية؟ – وهذا أمر من اختيارهم. فنحن، كمثقفين عرب موجودين في الغرب، مجرد عمال. ليس من مهمة المثقف أن يتدخل في أمور السياسة. فإذا اتفق لمثقف أن يأتي بفكر يزلزل قواعد الأنظمة القائمة، فذاك ليس مقصودًا. أنا لا أرمي ولا أقصد أيَّ نظام سياسي؛ لا يهمني ذلك. فمهمة التغيير من مسؤوليات النظام الذي عليه أن يدرك أين مصلحة الشعب والأمة والحكومة ذاتها. فإذا غيرتْ هذه الحكوماتُ موقفَها وقالت "نعم" للإصلاح، فأهلاً وسهلاً؛ وبذلك تُفتَح كلُّ أبواب الجامعات ومؤسَّسات التفكير لتشجيع التغيير، بخاصة بعد التجربة المُرة التي نجتازها، وهي تجربة الإرهاب على كلِّ المستويات، بتأثيراته وتداعياته على شعوبنا.

لا يمكن لنا أن نختتم هذا الحديث من دون التطرق إلى المشروع الفرنسي – وأنت أحد أعضائه البارزين – والمتمثل في "الهيئة العلمانية" التي أُنشِئَتْ بمبادرة من الرئيس جاك شيراك، وهي ستُعنى بقراءة علمية–مدنية للأديان السماوية. ما هو دورك في هذا المشروع؟ وما هي مهمات هذه الهيئة؟

تُعَد هذه اللجنة مثالاً من الأمثلة الكثيرة التي يمكن أن تُضرَب لشرح أو توضيح كيفية التسيير السياسي بطُرُق ديموقراطية في مجتمع ديموقراطي. فرئيس الجمهورية لا يمكن له أن يطلب من البرلمان إصدارَ قانون من دون استشارة الشعب الذي هو مصدر السيادة. وهذا أول درس يمكن استنتاجه كجواب على سؤال: لماذا تأسَّست هذه اللجنة؟ وثانيًا، لا يمكن للنظام الديموقراطي التشريع من دون بناء ذلك على أسُس علمية وفكرية. وقد أدرك الرئيس الفرنسي ومَن معه أن مفهوم العَلمانية لا بدَّ له أن يتكيف مع الظروف الجديدة الطارئة على المجتمع الفرنسي وأن يستجيب لمتطلبات المواطنين الجُدُد الذين دخلوا وسُمِحَ لهم أن يكونوا مواطنين فرنسيين يتمتعون بكلِّ الحقوق التي تضمنها الجمهورية لمواطنيها.

نلاحظ أن هناك مسلمين جاؤوا حديثًا إلى هذا البلد، وطلبوا أن يكونوا فرنسيين وأن يقتنوا الجنسية الفرنسية، ولكنهم، في الآن نفسه، لم يقتنوا الثقافةَ الأساسية لفهم كيفية تسيير المجتمع الديموقراطي: لا يزال هؤلاء المسلمون يحملون رؤيةً قوامها ما تعلَّموه في المجتمع المصري، مثلاً، أو الباكستاني أو المغربي. وهنا نرى أن المسلمين في فرنسا يخلقون مشكلات عويصة لا نسمع بها حتى في بلداننا الإسلامية، وهم لا يعرفون ما هو موقف المجتهد المفسِّر من الآيات القرآنية حتى يفسِّرها على حساب السياقات الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي يعيش فيها المسلم اليوم.

لقد فضَّلتْ الديموقراطية اختيار التربية بديلاً عن العنف، وهي تريد أن تقدم براهين مقنعة قبل أن تفرض حلاً بالقانون؛ وهو الأمر الذي دفع بالرئيس الفرنسي إلى إنشاء لجنة خاصة للدفاع عما يسميه الفرنسيون بـ"العَلمانية". وكلمة عَلمانية في العربية كلمة فارغة؛ بينما الكلمة الفرنسية laïcité تدل على تاريخ فكري طويل، يمتد من عهد مفكرين من القرنين الثاني عشر والثالث عشر، عندما انطلق التفكير في الكنيسة الكاثوليكية وعند الفلاسفة الذين كانوا يتناقشون في الخطاب الديني وتفسيره الفلسفي. أما العربي، للأسف، فلا يعرف شيئًا عن هذا، ويقول إن العَلمانية إنما هي هدم للدين وكُفْر به. من مهمات اللجنة التي ستقدم أعمالها في شهر أيلول المقبل دعوة ممثِّلي المواقف الفكرية والدينية والفلسفية والسياسية الموجودة في المجتمع الفرنسي للاستماع إليها بهدف الوصول ليس فقط إلى نتائج يعبَّر عنها بقوانين يصوِّت عليها البرلمان ويفرضها، وإنما التوصل أيضًا إلى صوغ فلسفة سياسية يجب أن تكون قاعدة قوية يساهم فيها المواطنون جميعًا ويتبنونها، مهما اختلفت أديانُهم ومعتقداتُهم وأفكارُهم. وهذا، في حدِّ ذاته، تجسيد للعملية الديموقراطية. فأين نحن من هذا كلِّه؟!

*** *** ***

حاورتْه في باريس: هاجيرة ساكر

عن صحيفة الحياة

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[1] Mohammed Arkoun & Joseph Maïla, De Manhattan à Bagdad : Au-delà du Bien et du Mal, Desclée de Brouwer, Paris, 2003.

[2] راجع ما كتبه هاشم صالح مراجعةً لهذا الكتاب، معابر، إصدار أيلول 2005، باب "كتب وقراءات". (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود