|
تحدي ما بعد الصهيونية[*] إطلالةٌ على الحركة وأفكارها السِّجالية
شارك في تحرير هذا الكتاب القيِّم، الذي يحمل العنوان الفرعي "بدائل للسياسات الأصولية الإسرائيلية"، تسعة من الكتَّاب اليهود والعرب، من أبرزهم في الجانب اليهودي داهان كاليف وحنَّه هِرتسوغ وإيلان پابيه وإفرايم نيمني، ومن الجانب العربي أسعد غانم وإدوارد سعيد.
يقول المحرِّر في مقدمته: ""ما بعد الصهيونية" عبارة تحمل معنى الأمل، وهي تثير كثيرًا من الجدل حول أهداف الدولة الإسرائيلية وطبيعتها ومستقبلها. وقد امتد الجدل، الذي يراه بعضهم محطِّمًا للمعتقدات والمؤسَّسات الصهيونية التقليدية، إلى يهود الشتات وإلى المنظمات الموالية لليهود خارج إسرائيل، التي شنَّ بعضُها انتقادات حادة ضد المنشقين" أي المؤيدين لـ"ما بعد الصهيونية". أما في الداخل، فقد وصل الأمر بليمور ليفنات (وزيرة التربية في حكومة شارون)، مثلاً، إلى التنديد بخطر النصوص التاريخية التي تُدرَّس في الصف التاسع بعنوان "تحديات عالمية" لأنها تنتمي إلى تيار "ما بعد الصهيونية" وليست على درجة كافية من "الوطنية"! فأمرت بسحب جميع نسخ الكتاب، وقالت إنها ستشن "حربًا صليبية" لإعادة فكرة "ما بعد الصهيونية" إلى مكانها الصحيح! بيد أن استمرار الخلاف ما هو إلا دليل واضح على أن الجدل ليس مسألة سياسية تافهة، ولا يدور حول إجراء تغيير مهمٍّ في التوجه الإيديولوجي، بل هو إعادة تقويم شاملة لطبيعة السياسة الإسرائيلية. وعلى الرغم من عدم وضوح تعبير "ما بعد الصهيونية" في أوساط بعض مستخدميه أو المستخفِّين بقدره، إلا أن الجدل يدور حول ما إذا كان على الدولة أن تكون يهودية أو ديموقراطية ويطال التناقضَ الكامن في محاولة تحقيق هذين الهدفين في وقت واحد. ذلك أن مثل هذه المحاولة تنسف علم الاجتماع وعلم السياسة اللذين يرسمان التأييد الأكاديمي والفكري للخطاب الرسمي للحركة الصهيونية. لا تؤكد "ما بعد الصهيونية" أن الإسرائيليين نمط خاص وفذ من الجماعة اليهودية. فالادعاء الذي يثير الخلاف حول "ما بعد الصهيونية" هو أن إسرائيل ينبغي أن ينمِّي هوية مدنية وإطارًا مؤسَّسيًّا، توجِّههما القيم العالمية للديموقراطية الليبرالية، كما أنه لا توجد إثنية تمتاز عن سواها وجوديًّا. وهذا هو الادعاء الذي يرفضه الصهاينة التقليديون الذين يقولون بأن إسرائيل دولة يهودية "عرقية"، وُجِدَتْ لحلِّ الوضع القومي غير السوي للشعب اليهودي، وأنها ستفقد هدف وجودها إذا تخلَّتْ عن هذه الرسالة. ويرد أنصار "ما بعد الصهيونية" على هذا الادعاء بتحدي خصومهم أن يثبتوا إمكانية أن يتوافق هذا الهدف مع الديموقراطية الليبرالية، فيخلصون إلى أن إسرائيل لا بدَّ أن يختار، عاجلاً أم آجلاً، بين أن يكون دولة "ديموقراطية" أو دولة "يهودية" – إذ من المحال أن يجمع الاثنين معًا. ويرد الصهاينة بأن اليهود ينبغي أن تكون لهم مكانة متميزة في الدولة العبرية، ويمكن لهذه الدولة، مع هذا، أن تكون ديموقراطية وعادلة تجاه الأقلِّيات العرقية فيها، وأن تقدِّم تنازلاتٍ تتعلق بالحقوق الوطنية للأقلِّيات العربية. في المقابل، يرى أنصار "ما بعد الصهيونية" أن معظم الديموقراطيات الليبرالية توجَّهتْ، إلى حدٍّ كبير، نحو أشكال أكثر "مدنية" وأكثر "ما بعد قومية" في هوية الدولة، وأنه، على الرغم من انهيار يوغوسلافيا السابقة، فإن الدول المتعددة الأعراق هي القاعدة لا الاستثناء، ويضيفون: إن اليهود ينبغي أن يتعلَّموا من تاريخهم أن محاولات خلق دولة–أمة من مجتمعات متعددة الأعراق أمر مثير للانشقاق، بل لما هو أسوأ. لذا فالخيار أمام إسرائيل هو بين عرقية صهيونية جديدة خالصة وبين ديموقراطية ليبرالية ما بعد صهيونية. ويلفت المحرِّر أنظارنا إلى أن هذا الجدل بين التيارين، داخل إسرائيل وخارجه، قد يبدو غامضًا ومشوِّشًا للقارئ غير المطَّلع. إذ إنه من الصعب إيجاد تعريفات واضحة لـ"ما بعد الصهيونية"؛ وهي – إن وُجِدَتْ – غالبًا ما تكون توفيقية، وكثيرًا ما ينسب إليها مؤيدوها ومعارضوها معاني مختلفة أو متناقضة. كذلك يعزو المحرِّر سبب ظهور "ما بعد الصهيونية" إلى تأثير العولمة في المسرح الإسرائيلي الضيق. ولعل الأفضل أن نعيد أصل الحركة إلى كونها جزءًا من مرحلة انتقالية كبرى في الحياة الاجتماعية الإسرائيلية. ففي القرن المنصرم، كان ثمة تحول مهم في قناعات بعض الشخصيات المؤثرة في الأوساط الأكاديمية، بحيث وفَّر هذا التحول الخلفيةَ الفكرية لتطوير "ما بعد الصهيونية". وكان من بين أهم نتائج التحول، أو "الانشطار الإپستمولوجي" (المعرفي)، كما يسمِّيه المؤلِّف، الابتعادُ الملحوظ عن النموذج الفكري التقليدي للمحافظة على المشروع الصهيوني. ويرى المحرِّر أيضًا أن المجادلات الدائرة اليوم في إسرائيل بين التيارين ليست مناقشات أفراد يعيشون في أبراج عاجية؛ إذ هي لم تعد تتناول قضايا داخلية، بل تعدَّتْها إلى الصراعات الخارجية الحاسمة، كالنزاع العربي–الإسرائيلي وغزو أدمغة يهود الشتات وعقولهم. وهذا ما دعا بعض دعاة المحافظة على الوضع الراهن إلى القول بأن هذه المجادلات ليست حول "تفسير جديد للتاريخ" فقط، بل إنها تنحو نحو تدمير إسرائيل كدولة استيطانية، وبالتالي نسف شرعيته وعلَّة وجوده من الأساس. وكان المرحوم إدوارد سعيد قد دعا المثقفين الفلسطينيين إلى التحاور المفتوح مع "المؤرخين الجُدُد" وممثلي "ما بعد الصهيونية"، ولاسيما حول لاأخلاقية الأعمال التي نجمت عن الاستيطان في فلسطين. وقد التقى هو نفسه ببعض ممثِّليهم غير مرة، ووصف بعضهم، من أمثال بينِّي موريس وإيلان پابيه وزيف ستيرنهل، بالمفكرين اللامعين، ودعا إلى ترجمة أعمالهم إلى العربية، ونوَّه تنويهًا خاصًّا إلى أعمال كيمِّرلينغ، الذي بيَّن أن إسرائيل أضحى مجتمعًا متنوع الثقافات، خلافًا لمجتمع الثقافة الواحدة الذي كان يصوِّره الحلم الصهيوني. تجد ثقافة "ما بعد الصهيونية" ترحيبًا في بعض الأوساط الأوروبية؛ إلا أن هذه الأوساط ترى أن هذا التيار لا يتمتع بجرأة كافية لمجابهة التيار السائد، أو أن أنصاره يقفون موقفًا وسطًا ما بين الشجاعة والمهادنة: فهُمْ "أسُود في التحليل، وحملان في التوجيه والإرشاد"! والحق أن مناقشاتهم تكاد أن تقتصر على الأوساط الأكاديمية وعلى الأدبيات الرصينة، ولم تأخذ طريقها في جرأة إلى النقاش العلني لدى الرأي العام. ومع هذا، يرى المحرِّر أن الجدل حول التعددية الثقافية هو الجدل الواعد. فحتى وقت قريب، كان يصعب الخوض في هذا الموضوع داخل إسرائيل. لكن رؤية المشكلة باتت تتجاوز مواطني إسرائيل الفلسطينيين، لتشمل المهاجرين الروس الذين يطالبون بنوع من الاعتراف بخصوصيتهم ضمن إطار "الصهيونية". ويشرح المحرِّر الغاية من هذا الكتاب بأنها ليست محاولة لاحتضان الخطاب ما بعد الصهيوني. فالهدف المتواضع هو أن أصف للقارئ غير الإسرائيلي التحدي الذي يمثِّله الجدل "ما بعد الصهيوني" من منظورات مختلفة، متناقضة أحيانًا، للنظام الصهيوني القديم. أن أبيِّن الخلاف الذي يولِّده من منظور سياسة إسرائيلية راديكالية ديموقراطية. فبعض المساهمين في هذا الكتاب هم من أنصار "ما بعد الصهيونية"، وبعضهم من منتقديها، وبعضهم الثالث بين بين. [...] إن "ما بعد الصهيونية" التي نشأت في أوساط الطبقة المتوسطة هي أقل اهتمامًا بالأساطير التاريخية، وأكثر التزامًا بالحقوق المدنية منها بالقومية العرقية. ويتفق المحرِّر مع إيلان پابيه في تقسيمه للصهيونية إلى "ثلاث صهيونيات" تتعارض فيما بينها: فهناك الصهيونية التقليدية التي يمثِّلها حزبا العمل وليكود، وتمثِّل التيار السائد؛ وهناك "الصهيونية الجديدة" التي تُعتبَر تفسيرًا متطرفًا للصهيونية، وتمثِّل التحالف بين الحاخامات الأرثوذكس والمستوطنين القوميين المتطرفين؛ أما "ما بعد الصهيونية" فظاهرة يهودية تمثل مرحلة انتقالية للـ"خروج" من الصهيونية، ولكن من غير الواضح إلى أين، ومن الضروري لها أن ترسم المستقبل في نقاش مشترك مع الفلسطينيين. إنه كتاب غني بالتحليل والمناقشات المفيدة حول حركة "ما بعد الصهيونية"، التي يكاد المثقف العربي ألا يعرف عنها إلا أقل من القليل. ولا يسعني هنا إلا الإشارة إلى مجلة الدراسات الفلسطينية التي تصدر في بيروت والتي كان لها قصب السبق في هذا المجال، حين نشرت، قبل سنوات قليلة، بعض المقالات المترجَمة لأبرز ممثِّلي الحركة المذكورة. *** *** *** تنضيد: دارين أحمد [*] Ephraim Nimni, ed., The Challenge of Post-Zionism: Alternatives to Israeli Fundamentalist Politics, Z Books, London and New York, 2003, 202 pp. |
|
|