|
يوم زَرَبَ حياءُ
مدينتي يقال زَرَبَ الوعاء، أي أن
السائل الذي يحويه
تسرَّب من ثقب به؛ ويقال
زاروب لطريق فرعي ضيِّق، ينحدر ماء المطر
منه
إلى
طريق أوسع. وهل
من كهل أو شيخ لا يتذكَّر اسكتش كاسر مزراب
العين للأخوين رحباني؟ الأخوان
رحباني حكاية: حكاية هذا الوطن،
بهمومه الصغيرة والكبيرة. ألا يقال إن الشاعر
هو ضمير الأمة؟ ومن
هو أحق منهما بهذا؟ ألم يحفظا تراثنا قبل
أن يضيع؟ ألم
يمجِّدا مدينتنا بأغانٍ
ولا أروع؟ – من "بردى هل الخلد الذي وعدوا به
إلاَّك"، إلى
"سائليني يا شآم"، إلى
"شآم
ما المجد أنت المجد لم يغب"؟ ألم
يكونا أول من غنَّى قضيتنا الرئيسة؟ –
من "سنرجع يومًا"، إلى "راجعون"،
إلى
"جبال الصوان"،
إلى
"زهرة المدائن"؟ ألم
يلوِّنا حياة كلِّ فرد من شعبنا بأغانٍ
تجعل الليل صباحًا؟ أليست
ألحانهما التي قاربت عامها الخمسين أجمل
ألحان هذه الأمة وآنقها؟ بعد وفاة الرئيس الفرنسي شارل
ديغول تمَّ إطلاقُ اسمه على "ساحة النجمة"
التي يتوسطها قوسُ النصر في باريس، وقام
التلفزيون الفرنسي بسؤال الناس في الشارع إن
كانوا يوافقون على هذه التسمية. وأذكر أن سيدة
عجوزًا تعرف جيدًا ما قدَّمه ديغول لفرنسا
أجابت، والدموع تترقرق من عينيها: "أجل،
أجمل ساحاتنا نقدِّمها له!" في البلدان المتحضرة يقدَّر
الفنان أكثر مما يقدَّر السياسي. وأذكر أن
إينياس باديريفسكي، المؤلِّف الموسيقي وعازف
البيانو الشهير، أصبح بعد الحرب العالمية
الأولى رئيسًا للوزراء ووزيرًا للخارجية في
بولونيا؛ وبصفته هذه، التقى في مؤتمر فرساي
برئيس وزراء فرنسا جورج كليمانصو، الملقَّب
بالنمر، الذي سأله إن كان هو نفسه عازف
البيانو الشهير. فلما أجاب بالإيجاب علَّق
النمر قائلاً: "يا لهذا السقوط!" لقد
ربَّاني والداي. أما الأخوان رحباني فقد
شذَّباني وصَقَلاني بالحسِّ المرهف الذي
يفوح من أعمالهما.
لذا أعتبرهما كوالدين، لهما عليَّ الحقُّ
بالدفاع عنهما إن
مسَّهما ضيم. والضيم أتى هذه المرة من مدينتي
الجاحدة حين فصلت بينهما. فحين
كان يُسأل أحدهما: "هذه الأغنية لكَ أم
لأخيك؟" كان الجواب على الدوام: "إنها للأخوين رحباني."
فكيف تفصل مدينة دمشق بينهما بإطلاق
اسم "عاصي الرحباني" وحده على زاروب في
ضاحية دمَّر؟
زاروب؟! أهذا كلُّ
ما يستحقه عاصي الرحباني من مدينتي؟ كلُّ
هذه التساؤلات تدفعني إلى
تساؤل أخير، تذكِّرني به "يا صوتي ضلَّك
طاير/ زوبع بهالضماير/ خبرهن عللي صاير/ بلكي بيوعى الضمير":
ألم يوجد ضمير واحد في لجنة تسمية الشوارع
يصيح: "هذا عيب!"؟ يا
خجلي من الأخوين رحباني يوم زَرَبَ حياءُ
مدينتي! *** *** ***
|
|
|