|
الأفعى 1 في
جدار ساحة البيت، الجزء الترابي، وفي جوار
شجيرة غريبة معطَّرة، ثقبٌ بحجم القبضة
المضمومة، كثيرًا ما استقطبَ فراخ الأفاعي في
فرارها منِّي عندما كنت ألاحقها صغيرًا. بل
والأفاعي البالغة أيضًا، ذوات الأطوال
والأنواع المختلفة، من ثلث المتر حتى المتر
وقليل – إلا أن تكون "حنيشًا"، مرعبًا
بقدراته الاعتصارية، أسود، يمرُّ ككابوس من
فرط بطء السرعة. إذ كنت أخشى أن يلاحقني في
واقعه، وسيكون عندئذٍ أطول. ولأنها
كائنات لا تمكث في مكان واحد، متنقِّلة
مكانيًّا من ربيع إلى آخر، كانت تتبدل
باستمرار. فكنت أرى دائمًا فرخًا أو أفعى تلج
أو تخرج من الثقب، الذي صار يخطر لي الآن أنه
يحوي في الأعماق شيئًا جذابًا – أمانًا أو
دفئًا أو غذاءً حيًّا – مادام يجذب بهذه
الصورة. ربما
خطرت لي فكرة إغلاقه والاستراحة من شاغله،
ولم أفعل. في
الطفولة، كان موضوعًا ملهيًا خطرًا، وفي
شيخوختي الحالية، مبعثًا على التسرية، منذ
عام ونصف. وكأية
حياة أخرى، دارت حياتي دوراتها المختلفة:
صراعات، ارتطامات – ثم إلى الهدوء مآلنا
جميعًا. فأجلس في الساحة. قد مضى ما مضى. أتأمل.
قد هدأت روحي. ورأيتها. لا
أعرف عن أنواع الأفاعي الكثير، وإن كنت
أميِّز أشكالها وأستطيع وصفها. لكنها كانت
مختلفة عمَّا عرفت: تُقارِب المتر طولاً،
بقامة تستدق أولاً عند الرأس بلطف، وتزداد
عرضًا، لكنْ بانسياب، ثم تستدق ثانية، كنصل
السيف وهو يمضي إلى نهايته. الألوان
جذابة جدًّا، خطرة جدًّا، بالأحرى منذرة
محذِّرة: بُنِّي لامع، يتدرَّج حتى الأصفر،
ثم يتقلَّب بين لون ثالث لا أعرف كيف أصفه:
أحمرةٌ توحي بالسواد، أم سواد قانٍ؟ وباستثناء
الألوان السابقة التي تتكرر، مثل إيقاع
منتظم، متناسب، زيادةً ونقصًا، كانت ألوانها
صافية جميلة، وأليفة، على الأقل لشيخ هدأت
روحُه. وخلال
العام والنصف، باستثناء الخريف والشتاء، كنت
أراها تزحف جانبيًّا، والجةً بتخفٍّ،
وخارجةً بتسارُعٍ – إلا أن تقف للحظات تطرق
برأسها، الحركةَ والنسمةَ تستكشف، فتمضي
فيما يشبه الدرب الخفيف بين الحشائش
والأعشاب، الخضراء والجافة على حدٍّ سواء،
بمعدِّل مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع
الواحد. على
الأغلب، كانت تذهب لتصطاد، لأنني كوَّرتُ
فجوة في الأرض، زرعتُها بنصف زجاجة بلاستيكية
سفلي، فجنَّبتُها هي – والعصافير – عناء
البحث عن الماء. وكنت أحيانًا ألقي ما سيفسد
من بيض بعد أن أثقبه، أو فاضل طعامي، فكانت
تزدرد ما تزدرده. إن رأيت تلك "الدروب"
الناعمة من التراب، متموجة في العمق والسطح
كنهيِّر، حين تمرُّ متمايلة بثقلها، أعرف
أنها تناولتْه. أو متكوِّرة في ذرات من هضبة،
إن تلوَّتْ على نفسها متوقِّفة تشمُّ، أعرف
أنها تركتْه لتتخطَّفه قططٌ سائبة، كرهتُها
بشدة. ربما
وحدتها، مثلي، ما شدَّني إليها، على الرغم من
خطورتها، أو ما يصلني منها عبر اللون. أمرٌ
غريب أن يستأنس أحدنا بالخطر (لكنه مألوف إن
عاش المرء وحده). حتى
إذا أمضيت يومًا على عادتي لأضع شيئًا لها،
غافلاً عما أمامي، إذا بي أدوسها عند الذيل،
جاهلاً وجودها، سائبًا في فكرة ما. تلتف على
قدمي حول الكاحل، وتلدغني في ظاهر القدم،
لأنني كنت أنتعل خفَّ المنزل. وأظنها
همَّت بي لتلدغني ثانية، لولا أنني ألقيت
عليها الإناء ورفعت قدمي، فتحررت. وفرَّتْ
تلج الثقب بسرعة. خفت، وشعرت بكلِّ ما فيَّ
يضطرب. شرطتُ
مكان الناب، واعتصرتُه قدر ما استطعت، وخرجت
إلى الشارع أعترض سيارة نقلتني إلى المستشفى. وهناك،
بعد المصل السريع والدواء والفحص، كانت
المفاجأة: لا سمَّ في عروقي! – مع أنها
لدغتني، والمكان جلي. 2 -
والأعراض التي شعرتُ بها؟! -
ربما ضربة شمس أو مخاوف. سكتُّ
أمام صنف من المهن لا يريد صاحبُه، حتى عندما
يريد، أن يدعك تفهم أو يشرح لك شيئًا، بل أن
تسلِّمه أمرك، ولو كان جزارًا. -
هل كنت تعرف عن الأعراض
مسبقًا؟ كنت
فعلاً. لأنني، وإن كنت شيخًا استأنس بالخطر،
فذلك لا يجعل منِّي غبيًّا. فقد طالعت كراسات،
وعرفت ما يجب عليَّ فعله عند اللدغ. -
نعم. -
ربما أوحيتَ بها لنفسك... -
هراء أطباء! بعد
قليل يوصي بي إلى بيت للعجزة! فكَّرت
في احتمال آخر: أن تكون الأفعى من النوع الخطر
لونيًّا، شكلاً وتقليدًا، تُشعِر أعداءها
بالخطر عبر اللون فقط. لمَّا أخبرته بذلك
استَخبَرَ عن وصفها، فوصفتها له، فتمتم
بكلمتين لاتينيتين طويلتين، قدَّرت أنهما
فصيلتها أو اسمها. -
يستحيل! هذا النوع لا مقلِّد
له. ولم
أقتنع. أنفقت الأسبوعين التاليين أتفحَّص
مجلدات من الصور، وأشفقت على البشر من هذا
التنوع الضخم في الأفاعي وحسب – فكيف الحال
بالنسبة للكائنات الخطرة الأخرى؟! خيرًا
فعلتُ عندما لذت بنفسي، لأن البشر فصيلة أكثر
تنوعًّا من كلِّ المخلوقات، بفصائلها
المتنوعة. كان كلامه، حسب الصورة، صحيحًا: لا
مقلِّد لنوعها. مع
ذلك لم أقتنع. لأنني لم أقتنع بشيء بهذه
البساطة من قبل. سأستبعد كلَّ الاحتمالات غير
المنطقية: نوعية سامة لا مقلِّد لها – ومع
ذلك، لم تسمِّمني! أمر حميد بالطبع، لكن
الفضول أعظم! خطرت
لي أشياء كثيرة، لكن البرد كان قد حلَّ،
واختفت هي في الثقب تغفو غفوة طويلة، أو ماتت.
دعوت ربِّي ألا يقتلها حتى أختبر أفكاري. وكان
عليَّ أن أنتظر طويلاً. 3 وفعلتها: قيَّدت
فروجًا صغيرًا، اشتريت دزينة منه رعيتُها
لهذا الغرض، وغلَّفته بشبك يتيح اللدغ ولا
يتيح البلع، وكمنت داخل البيت خلف زجاج
الشباك، لا رائحة تتسرَّب منِّي ولا حركة
تُخيفها، أرقبُ. انتظرت
ساعات، حتى رأيتها تُخرِج بحذر رأسها، وقد
جذبها الصوت. يتخبَّط الفروج المسكين. فقد
أحسَّ بها، بدوره. وزحفتْ
– أخيرًا - بعد محاولات استكشافية، كأنها
تفترض الرقيب افتراضًا (ولو لم يكن!). ووصلتْ
إليه، لكنها لم تلدغه، بل مضى لسانها
المتراقص يتفحَّصه. وأحسبها قد "ذاقت"
المعدن، فرجعت عن سعيها كسلى، مثلما أحسب
الطير ميتًا من الخوف. ارتابت
في المعدن، إذن، لكنها لم تلدغه؟ عدت
إلى الطير وحرَّرتُه من شبكه، لكنِّي أبقيته
مقيدًا من قدميه. فعادت، عندما عادت بعد وقت،
فعضَّتْه وازدردتْه. وسجَّلت
في رأسي الملاحظة: تعتمد على البلع ازدرادًا. لكن
الطير ولج إلى معدتها الآن، ولن أتحقق من
الأمر الآخر. فربما لدغتْه عندما أطبقتْ عليه
في المرة الأولى فقتلتْه. وفعلتها
ثانية بعد أيام: قيدت
طيرًا آخر، على أن يكون رأسُه، هذه المرة، في
مأمن، لأنني أريده ملدوغًا وحيًّا. لهذا صنعت
من الخشب شيئًا كمصيدة من صندوق صغير يحمي
الرأس، ومجرى ثبتُّ إليه جسم الطير، متحررًا
عند ساقيه، حيث أردتها أن تلدغه أو تبتلعه. بدَّلتُ
الطير مرتين، لأنها تأخرت – وإن حصل ما أردته
في النهاية: ما أن أطبقت عليه، متوثِّبة
بنذائر الخطر الملوَّن، حتى نقرتُ الشبك
وجررته على سكَّته، فرأيت كيف تناضل لانتزاعه. كان
مقيدًا جيدًا، ما عدا الجزء المتحرر منه.
فاضطرتْ إلى تركه، مسحوقًا. كان
قد مات، إنْ ليس من الإطباق أو السحق أو اللدغ
فمن الخوف. وحملتُه إلى المختبر البيطري،
لتأتي النتيجة ثانية تؤكِّد نتيجة المستشفى:
لا سم! بقي
أن أتأكد من احتمالين آخرين: هل هي من نوع غير
سام غير معروف؟ أم أن خللاً عضويًّا طرأ
عليها، فجعلها لا تفرز السمَّ؟ وفعلتها
ثالثة بعد أسبوع أو أكثر قليلاً: الطير
الثالث مقيَّد داخل قفص، يؤدِّي إليه ممرٌّ
من أنبوب يصل بين كوَّة باب القفص والفجوة،
على صعود إلى الأعلى. بمجرد أن أسحب خيطًا
متينًا دقيقًا يمتد إلى الشبك، يصير القفص
قفصًا للاثنين: الأفعى والطير. وتأخَّرتْ
طويلاً هذه المرة: أربعة أيام أوشكتْ أن
تصرفني عن فضول لا يتناسب مع الشيوخ (ولا حتى
مع الصبيان). وخشيت أن تكون قد ماتت. بعد
عناء، لمحتُها تلج القفص عبر الأنبوب المخفي،
وترتد في تلك المحاولات الاستكشافية. وصبرت
ما استطعت الصبر، وأنا أراها قد دخلت، ينسلُّ
ذيلُها ويستدق أكثر كلما انسل. ولم أُطِقْ
صبرًا أكثر، فأطبقت الباب على بقية ذيلها
فانسل... إلى الداخل. وفعلتها
رابعة: حملت
القفص إلى جانب المستشفى، ومددت يدي داخل
القفص، وتحرَّشت بها، فلدغتني. وكالمرة
الأولى، أخذتُ المصل، وأنا أرنو إليها كيف
تتلوَّى وتفح خلف شبك القفص في وجوه الممرضين
المتمرِّنين الشبيبة، يثيرهم الخطر مأسورًا (حيث
لا خطر)، فيضحكون، مع ذلك، مذعورين. وأتت
النتيجة ثالثة: لا سمَّ في عروقي! بقي
أن أتأكَّد من الاحتمال الأخير. مضيت
على بطء إلى المختبر البيطري، فعرضت عليهم
القفص، ورجوتهم ألا يشرِّحوها، بل أن
يتأكَّدوا من عطل سمِّيتها حيةً. ثرثروا
كثيرًا عن صعوبة هذا دون تشريح. فوافقت على
تنويمها و"شرحها" دون قتلها. وأتت
النتيجة مألوفة مذهلة معًا: لا غدد سمِّية لها! وعُدتُ
بها، مبقيًا عليها في الأسر الذي كنت أوسِّعه
لها بالتدريج من قفص إلى آخر أكبر، إلى صندوق
من الزجاج أوسع. وتأكدت من شفائها. فقد اندمل
"الشرط" في أثر كالخط. فأعدتها إلى
الثقب، فإلى وكرها، حيث أقامت طويلاً، على
غير عادة الأفاعي. وخشيت
بعد أسْرها أن تفرَّ. هي أنيسي – أنا الشيخ (ونسيت
أن أقول إنها أفعى أنثى!) – فحرصت أيضًا على
"التدرُّج" في عكس عملية اصطيادها. وحانت
اللحظة التي تعود فيها إلى ما كانت عليه،
أغذِّيها كما كنت أفعل بفاضل طعامي. ثم قطعته
لأجبرها على الخروج. استغرقتْ
وقتًا أطول هذه المرة لتخرج، أي بعد أسبوعين،
فسعدت بها، وإن لم أعد ألمحها كما كنت: أفعى لا
خطر منها، رغم نذائر الخطر الملوَّن. 4 أما
ما حدث بعد وقت فأربك حساباتي كلَّها، وأنا
أفتح باب منزلي ذات صباح. بجوار الشجيرة
المعطَّرة كانتا اثنتين، لا أفعى واحدة – لكن
الأخرى عادية بُنِّية، لولا رقش أصفر طفيف،
وأطول: أفعى الحقول ربما – تتلويَّان على
نفسيهما. داخلتْني
بهجةٌ شديدة، من النوع المخيف أيضًا. فقد
وَجَدَتْ وليفًا. إذا كانت وحيدتي قد وجدتْه
فلم لا أجده أنا؟ – أو هكذا حسبت. لأنه لم يكن
"غزلاً" تلتف "الساق" فيه على
الساق، بل كان صراعًا مريرًا، مليئًا بالفحيح
والارتداد والتوثب والتهديد الرطب. وكدت
أتدخل لأفضَّ الصراع، عالمًا أن أفعاي خاسرة
مسبقًا. لكن الفضول – فضول الشيوخ العنيد –
راودني مجددًا: "لأدع الشيء المحدوس يحدث
فأراه بعينيَّ." وتصرَّفتْ
كأفعى سامَّة فعلاً. فاتصل الرأسان بالأنياب
على منتصفي الجسمين، كأن حسابًا رياضيًّا،
بمعادلة قَدَرية مبهمة، قام بتحديد مكانَي
اللدغ، على التساوي. ورأيت
كيف اختلجتْ الألوان، وكيف تباطأت، وكيف
تراخت نهائيًّا، وكيف انسلَّت الأخرى إلى
الأعشاب – التي لم أعد أهتم بحصدها – جريحةً،
غير أنها تتحرك. جررتُها،
ودفعتُها في الثقب الذي أقامت فيه طويلاً،
كأنها كانت تعلم أنه قبرها. وكيلا يُسكَن
ثانية، حشرتُه بحجر، وأكملته بالماء والتراب
ممزوجين. 5 عدت،
كما كنت، وحيدًا، يتفرَّج على شجيرة برائحة
ستذهب، وساحة معشوشبة بجفاف واخضرار لا شيء
فيها. قد مضى ما مضى. أستعيدها
أحيانًا. أتفكَّر، فأحاول أن أعرف جواب
السؤال: إذا كانت تعي نفسها ولاسُمِّيتها (ولديَّ
التجارب تؤكِّد)، فلماذا تصرَّفتْ هكذا؟! *** *** *** |
|
|