|
الصانع الماهر ناداه والده
لنَقْل أشجارٍ نَشَرَها ليصنع منها أركان
السماء وحوافَّها، ولكن الابن لم يجبه. فهو قط
لم يحب النجارة هذه التي ابتدعها أبوه وبرع
فيها أيَّما براعة، حتى صار اسمه "النجار". لم يشفق على أبيه، بل نادرًا ما كان يُرى
يحمل غصنًا صغيرًا أو بعض الخيوط الليفية. فهو
إلى اللهو واللعب أمْيَل. ولأن النجار كان
حكيمًا وقادرًا على سبر الأغوار، حزن أشد
الحزن للمصير التعس الذي سوف يؤول إليه ابنُه
إن هو رحل واندثرت من بعده حرفة النجارة.
فقرَّر أن يصنع له كوخًا صغيرًا يضعه فيه،
بعيدًا عن الحياة الرخوة، ليستنطق دواخله
ويستيقظ على نفسه ومكنوناتها، فيكون جديرًا
بعمل شيء مفيد لهذا الكون. وهكذا صنع النجار الحكيم كوخًا صغيرًا
بحجم هذا الولد، فَرَشَه بالرمل الأحمر
النظيف الذي جمعه من غبار المجرَّات والكواكب
المتناثرة، ووضع له بعض الماء الذي اعتصره من
إحدى سحب الكون البيضاء. جلس الصغير مُكرَهًا في كوخه الخشبي،
يتأمل وجوده والسبب الحقيقي الذي دفع بوالده
للقيام بهذا الفعل القاسي. فأعضاؤه تكاد أن
تتفتت من شدة الضغط، وعناصره على وشك أن تصير
جحيمًا قاتلاً. أمضى عشرة قرون من التأمل المضني، إلى أن
وعى الرملَ الخصب تحته، فبدأ يخط بإصبعه
خطوطًا طويلة ومتعرِّجة يسميها "مجاري"،
ويضع حصاةً فوق أخرى ويدعوها "بناءً".
أعجبتْه الأشكال التي صَنَعَها؛ فقد وجد فيها
تسلية لا تُدانيها تسلية. أخذ بعض الماء ودلقه في المجرى، فتحول إلى
نهر عظيم؛ وطفق يرص الأحجار بعضها إلى بعض، فأصبحت سلسلة من الجبال.
تعجَّب كثيرًا من فعلته. "ولكن هذا غير كافٍ"،
قال في نفسه. فاخترع مجرفةً، وبدأ يمسح سهولاً
ووديانًا يغطِّيها بتعبه واهتمامه البالغ،
ويسحب عروقًا كثيرة يسميها أنهارًا، موانئ،
وشطآنًا، وكثافة حقيقية. ومن بين التعب والكثافة، وتحت رنين حبات
العرق المنسكب، نَبَتَ كائن عجيب دعاه "شجرة".
فرح كثيرًا لدرجة أنه قبَّلها، فشعَّت الشجرة
من لهيب قبلته، وأخذت تتفرَّع وتتلون؛ فتارةً
هي خضراء، وأخرى صفراء، وبعدها بنية اللون. سنوات عدة مضت وهو يتأمل تلونها
واهتياجها، وبفرح ما بعده فرحٌ يصبُّ حبَّه
ولهفته على الأغصان المتفرعة الكثيرة،
ويداعبها بأصابعه ليزيدها تفرعًا ونموًّا. وفي يوم من أشقِّ الأيام، بدأت الشجرة
بالشحوب والألم، وأخذت تتأوَّه وتعتصر،
وكأنها على وشك الرحيل. ارتعد وخاف. "ما
أجملها من كائن!"، قال في نفسه. وتذكَّر
أباه النجار الماهر الذي لم يكن قد رآه منذ
آلاف السنين، وتذكَّر قلة وعيه وصبره، فأصابه
الهمُّ وبكى بكاءً شديدًا، فانهمرتْ أحزانُه
وأفراحُه، وهطلتْ بركاتُه كلُّها فوق الشجرة. ومضى يوم، وآخر، ومضت أيام عدة. وعند ألق
الضوء الأول تشققت رؤوس الأفرع الصغيرة عن
كائنات وردية وبيضاء وملونة بكلِّ الألوان،
جميلة مفرحة حتى الاغتباط، سمَّى الواحدة
منها "زهرة". كانت سعادته كبيرة جدًّا، بحيث تحولت إلى
صمتٍ كبير أزال ضيق المكان. وخلق سماءً واسعة
أهداها زهرة من تلك الأزهار، ودعاها "سحبًا"،
وزيَّنها بزهرتين أخريين: واحدة فضية،
وأسماها "قمر"، والثانية ذهبية أسماها
"شمس". أما باقي الزهرات فتركها تنمو
وتنضج مع صمته الذي عمَّر كلَّ أرجاء الكوخ. في هذه الأثناء كان
أبوه قد اشتاق له جدًّا، وبحكمته الكبيرة شعر
أنه لا بدَّ وَجَدَ كينونته، فأراد أن يفتح
عليه باب الكوخ الخشبي الذي أغلقه منذ زمن
بعيد. وكانت فرحته جدُّ كبيرة عندما دخل بنفسه
ذاك الكوخ ليجده مليئًا بالعوالم والكائنات،
وبأشجار خشبية صغيرة الحجم تشبه تلك التي كان
يقتطعها من أرجاء الكون ليبني بها الأركان
والحوافَّ اللانهائية. ووجد ابنه الذي تركه صغيرًا وغير ناضج وقد
أصبح حكيمًا يشبهه تمامًا، إلا أنه يفوقه
صمتًا. فقرَّر في داخله الثري: "أيْ ابني
الحبيب، لقد اقتطعت كلَّ أشجار الكون وبنيت
بها العوالم، ولم تبقَ شجرة أخرى. فهلا
أسكنتَني كوخك هذا لأصبح نجارًا، أصنع
المنشآت وأبني الأكواخ والأعشاش، فأفيد من
خبرتي الكائنات كلَّها." ومن قلب الصمت العميق وعى الأب موافقة
الابن. فاستقر في غابة سنديان كبيرة، وأخذ
يعلِّم الأرض كيف تصنع سمادها، والأشجار كيف
تمشق قامتها. والطيور علَّمها أن تبني
أعشاشها بنفسها، والنمل أين يضع بيوضه،
والضفدع كيف يصطبغ بلون الشجرة. وهكذا راح
يجوب السهول والمدن، لابسًا في كلِّ مرة
شكلاً جديدًا، فيتقبَّله البشر، والغزلان لا
تنفر منه – فهو ظبية جميلة حَيِيَّة، وهو
فراشة ملونة بأزهى الألوان. ومع مرور العقود، صار الابن الصمت الأبدي
الذي لا تحده الخرائط ولا ترسمه يد، والأب روح
هذا الصمت وعبقه المُغبِط الشفيف. *** *** ***
|
|
|