|
الجدران إما
أنا، وإما أنت – هذه خلاصة "فلسفة الجدار"! * منذ
أن انفصل الإنسان عن الطبيعة، بحكم تنامي
وظيفته الفكرية، أقام فكرُه أول جدار بينه
وبين ما صار يعدُّه "سواه". لقد كان
الإنسان، قبل أن تتبلور أداتُه الفكرية،
لصيقًا بالطبيعة، يستمد منها جميع معارفه
وخبراته. وتلك المعارف والخبرات كانت معارف
وخبرات حياتية – "حياتية" بمعنى أنها
كانت قابلة للترجمة الفورية إلى فعل وجودي
يعكس نفسانيةَ الإنسان القديم على الطبيعة،
فما يلبث أن يسترجع فعلَه مزيدًا من الخبرة
والنضج. لكن مع ظهور الفكر، باتت معرفة
الإنسان قائمة على التجريد: أي أن الفكر صار
يحوِّل الخبرة الحياتية السابقة إلى نماذج
ذهنية مجردة، ترمز إليها ولا تتطابق معها.
وبهذا، انقسم الوعي الإنساني، في إدراكه
للعالم، إلى ذات عارفة وموضوع معروف، إلى
عالم خارجي (موضوعي) وعالم داخلي (ذاتي)، دخيل،
قوامه جملة النماذج الفكرية التي يشكِّل
مجموعُها فهم هذا الإنسان للواقع. ثم ما لبث الإنسان أن خطا
الخطوة الثالثة في تطوره النفسي، لينشئ
علاقاتٍ تربط ما بين تلك النماذج الفكرية
المنفصلة في ما يشبه منظومة ذهنية متَّسقة.
وهذه العلاقات، ما لبث أن حاول أن يستنبط منها
ما أسماه "المنطق" – تلك المنظومة
الفكرية التي بلغت ذروة تبلورها في العصور
القديمة مع مسلَّمات أرسطو الثلاث الشهيرة: 1.
كل قضية تساوي نفسها؛ 2.
كل قضية لا تساوي نفيها؛ و 3.
لا توجد قضية ثالثة تساوي القضية الأولى
ونفيها في آنٍ معًا. * ترتَّب
على هذا المنطق الفهمُ العلمي، الوضعي،
للعالم، الذي لا يمكن أن تكون فيه أيةُ قضية،
بحسب المسلَّمة الثالثة، قابلةً لتلاقٍ من
أيِّ نوع مع نفيها أو نقيضتها. وقد أدى
الإمعان في هذا المنطق الثنائي – وخصوصًا مع
تحوُّل المنظومات الفكرية إلى إيديولوجيات –
إلى نتيجة بسيطة مفادها: حتى أكون أنا على حق،
أي حتى يكون موقفي الفكري "المبدئي"
صائبًا، لا بدَّ أن تكون أنت على خطأ! لا يخفى ما في هذا الموقف
الفكري، الإيديولوجي، من إلغاء قاطع للآخر،
بإلغاء إمكانية صَوابية فهمه أو موقفه الفكري
المختلف – حتى جزئيًّا. * لم يبقَ
على "الإنسان الإيديولوجي" إلا خطوة
أخيرة يخطوها لكي يلغي الآخر، ليس فكريًّا
وحسب، بل وجسديًّا أيضًا؛ أو، على أقل تقدير،
بفصل نفسه عنه فيزيائيًّا إذا تعذَّرت
الإبادةُ البدنية. وهكذا
بدأ الإنسان يقيم من حوله الأسوار والجدران
التي ليست، في العمق، إلا تنويعات على
المعادل الموضوعي للجدار الأساسي الذي يفصله
عن نفسه الطبيعية، عن الطبيعة، وعن الإنسان
الآخر. * ربما،
عندما كان الإنسان ما يزال مقيمًا في مدن–دول،
كانت للأسوار التي تطوِّق المدينة وظيفة أقرب
إلى أن تكون "دفاعية". أما "الأسوار"
في العصور اللاحقة، التي لم تعد تطوِّق المدن
وحسب، بل أَضحت تطوِّق بلدانًا وشعوبًا
بأسرها، فلم تعد وظيفتها دفاعية، بل "إلغائية": وحدي أنا موجود وحسب. أما أنت
فغير موجود! ولذلك لا بدَّ لي، إذا استعصى
عليَّ إلغاؤك بدنيًّا، من أن أفصل بيني وبينك
فيزيائيًّا – لا أراك، ولا تراني – فلا
تذكِّرني رؤيتُك بأن لكَ وجودًا مشروعًا
بمعزل عنِّي. فمجرَّد وجودكَ فيه تهديد
لكياني! * لكن
الواقع يقول غير ذلك! إذ لا وجود منفصلاً في
هذا العالم. كلُّ شيء يستمد وجوده واستمراره
من خلال علاقاته اللانهائية مع كلِّ شيء،
ويُمِدُّ كلَّ شيء بقسط – مهما تكن ضآلته –
من وجوده. الإنسان، ككلِّ ما في الوجود،
لا يوجد، ويحيا، ويتحرك، إلا من خلال علاقاته
مع مَن يسمِّيهم "الآخرين". لذا فإن كلَّ
مَن يسعى – واعيًا أم غير واعٍ – إلى قَطْع
صلاته، وعَزْل نفسه عمَّا وعمَّن حوله، يحكم
على نفسه، عاجلاً أم آجلاً، بالذبول النفسي
وبالموت الروحي. إن وضعه، إذ ذاك، أشبه ما
يكون بالمزروع الغريب الذي لا تَوافُقَ
نسيجيًّا بينه وبين البنية التي هو مزروع
فيها، والتي تؤول إلى لفظه في النهاية. فلنتصور أيضًا حال ساكن في بيت
في أحد الأحياء، طَرَدَ سكانَ الحيِّ،
واحتلَّ مكانهم، وأصرَّ على تحويط البيت الذي
احتلَّه بالفخاخ والألغام وكلاب الحراسة إلخ
– كيف يستطيع هذا المرء بعدئذٍ أن يحيا حياة
"طبيعية" مع جيرانه؟! * وما
يصحُّ على الأفراد يصحُّ كذلك، آلافًا
مضاعفة، على الجماعات والشعوب. قانون وجودنا
الأرضي هو قانون التعدد والتنوع والتفاعُل.
لا حياة، ولا استمرار – لا لفرد ولا لمجمع –
بغير الانسجام مع هذا القانون، مهما طال
الزمن. أما "فلسفة الجدار"،
والفَصْل، والعَزْل، والانكفاء، فلن تفرز
إلا نفوسًا مريضة، ترى في الصحة مرضًا، وفي
المرض صحة! * الأمثلة
في التاريخ عديدة على فشل "فلسفة الجدار"،
على المدى الطويل: سور الصين "العظيم" –
تلك العجيبة بين عجائب الدنيا السبع – برهان
ساطع على إخفاق كلِّ محاولة لشعب معيَّن
تطويقَ نفسه، وبقاءه معزولاً عن الشعوب
الأخرى. فاليوم، ثمة أجزاء عديدة منه مهددة
بالانهيار لأن سكان القرى المتاخمة له
يستفيدون منه كمقلع، فيستعملون حجارته في
بناء بيوتهم أو ترميمها. إنها الحياة التي لا
تلبث أن تنتصر، وتأبى إلا أن تفرض نفسها على
كلِّ أشكال العَزْل والفَصْل والحدود. جدار برلين كذلك سَقَطَ، وسط
بهجة واحتفالات عارمة. ومآل سور نيقوسيا (قبرص)
إلى السقوط (على الرغم من نتيجة الاستفتاء
الأخير) تحت ضربات معول إرادة شعبين عاشا
قرونًا طويلة من التجاوُر وحالات فريدة من
التآخي التركي–اليوناني، على الرغم من
الاختلافات كافة. * الجدار
الذي تعمل على تنفيذه واستكماله طغمةُ
إسرائيل الشارونية يندرج في هذه الفلسفة –
"فلسفة الجدار". وإذا كان هذا الجدار
اليوم هو الثمرة النهائية للمشروع "القومي"
للدولة الصهيونية فبئس بها من نتيجة! إن الذين ينظِّرون لضرورة بناء
الجدار – بصرف النظر مؤقتًا عن شرعيَّته
دوليًّا أو عدمها – ينتهكون قانونًا
أساسيًّا من قوانين الوجود نفسه. إنهم
يدمِّرون بأيديهم (أو بالأحرى بأذرع آلياتهم
التي تبني الجدار) آخر أمل لهم بأن يصيروا
جزءًا طبيعيًّا من هذه المنطقة، ويطفئون
بصيصًا ضئيلاً من ضوء، يتيح لهم، بمرور
الوقت، أن يعودوا كائنات بشرية سوية، تنمو
وتتفتح من خلال التفاعل؛ بينما لا يرسِّخ هذا
الجدار إلا منطقًا ثنائيًّا مستلهَمًا من فهم
تلمودي حرفي – التلمود الذي لا يرى في
الآخرين إلا مجرد غوييم، "أغيارًا"،
يُحظَّر كلُّ تَعامُل معهم حفاظًا على طهارة
الذات. * مخرج
إسرائيل الوحيد اليوم – إذا شاء حكَّامُه أن
يكون لشعبهم مستقبلٌ ما – هو في التخلِّي إلى
الأبد عن الإيديولوجيا الصهيونية، بمنطقها
الثنائي وتبعاته العملية، فيكفوا عن عملية
الإلغاء المنهجي، الجسدي والنفسي، التي
يمارسونها على "جيرانهم"، أو بالأصح على
شعب فلسطين الصابر الصامد، الذي ألغوه – وهو
صاحب الأرض وصاحب الحق – لكي "يكونوا". مخرجهم الأوحد هو في أن يدركوا،
أخيرًا، أن الشعب الفلسطيني ليس "عدوَّهم"،
بل هو، في العمق، خشبة خلاصهم الوحيدة! *** *** ***
|
|
|