|
باودولينو مديح الكذب وتأليف
الماضي بعد عشرين عامًا من صدور رواية اسم الوردة، التي فتحتْ أمامه آفاق الرواية ووسَّعتْ له الدربَ ليكون حاضرًا في خارطة هذا الفن الإبداعي، يعود أومبرتو إيكو، مع روايته الجديدة، إلى العصر الوسيط، الذي يجد فيه كامل أناقته الأسلوبية وبهائه الحكائي كلِّه. صحيح
أن الروائي وعالِم الألسنيات والمثقف
الموسوعي لم يتوقَّف عن كتابة الرواية خلال
هذه السنين الماضية، بيد أن كتابات من مثل بندول
فوكو وجزيرة اليوم السابق لم تكن على
هذا القدر من البريق التي امتازت به الرواية
الأولى. فمع روايته الرابعة، باودولينو،
الصادرة حديثًا عن "المركز الثقافي العربي"
في ترجمة عربية جميلة، يوقِّعها كلٌّ من نجلا
حمود وبسام حجار، نعود لنجد كلَّ هذا الفنِّ
المتكامل والمتمكِّن الذي كان وراء هذا الألق
الذي نصب هالته فوق رأس أحد آخر "الموسوعيين"
المتحدِّرين من صُلب عصر الأنوار الأوروبي. فإذا
كانت رواية اسم الوردة وجدت ضالتها في
الذهاب إلى عمق "جذور اللاهوت الغربي
والفلسفة الدينية" (يُذكَر أن أطروحة
دكتوراه إيكو تدور على القديس أوغسطينوس)،
نجد أن روايته الرابعة هي محاولة في فهم
وتفسير كيفية "تشكُّل الصيغة العلمانية
لهذه المعرفة البشرية": ما من تَعارُض بين
فكرتي الروايتين، مثلما قد يتبدَّى للوهلة
الأولى؛ بل لنقل إن تاريخ الفكر الغربي
الديني أساسًا نجح في تخطِّي هذه الإشكالية،
ليقيم حدًّا فاصلاً بين المجتمع والدين.
وبالأحرى، ما سمح له بذلك هو الدينُ نفسه، لأن
المسيحية ليست لـ"هذا العالم الآني". أضِفْ إلى ذلك كلِّه، يجد القارئ في هذه الرواية جميع البهارات التي لعبت الدور الكبير في توكيد نجاح الرواية الأولى وتوطينها: الميل إلى المفارقات التناقُضية، لعبة الألغاز الغامضة، الجنوح إلى المعارضات القريبة من النوع البوليسي، التبحُّر في المعرفة المشوبة بالفكاهة، من دون أن ننسى بالطبع ذلك الانتفاخ الحكائي الذي يقوده إيكو إلى أقصاه. إلا أن المناخ الخانق، الميتافيزيقي، العائد إلى دوران الأحداث في مكان واحد (الدير) في اسم الوردة، يُخْلِي مكانه هنا إلى قصة سَرْدِ رحلةٍ وسَفَرٍ يحملاننا إلى تخوم العالم المعروف: حروب، حملات صليبية، البحث عن الـ"غرال الأقدس" (أو الـ"غرادال"، الكأس التي كرَّس فيها المسيح الخمر خلال العشاء الأخير والتي بها أيضًا تلقَّف يوسف الرامة الدمَ الذي سال من جنب المصلوب عندما طعنه بالحربة الجندي الروماني)، كما والبحث عن جمجمة يوحنا المعمدان وملوك المجوس – بعثات من جميع الأنواع: من هنا نجد أن حياة باودولينو تتبعثر على انقلابات مدهشة الواحدة أكثر من الأخرى، وذلك لأن هذا الشخص الماهر ليس سوى "كاذب" لبق وصاحب "وحي". إن ميله إلى "الأسطورة" أو إلى الحكاية جَلَبَ له صداقة فردريك بارباروسا ("اللحية الحمراء")، الذي سحرتْه موهبتُه الظاهرة للعيان، فعامَلَه الإمبراطورُ كابن له، وجعله مستشاره الخاص، في السراء والضراء. عالم
أليم ليس باودولينو سوى "حرباء" حقيقية، تغيِّر جلدها وفقًا لمحيطها. إن "إبداعاته" (أو لنقل أكاذيبه) تنجح في النهاية في تغيير مجرى التاريخ حتى. فحين لم يكن (باودولينو) فريسة إغواءات هذا العالم كان يقضي وقته في تخيُّل عوالم أخرى: إذ ما من شيء أفضل من تخيُّل عوالم جديدة كي ننسى كم أن العالم الذي نعيش فيه عالم أليم! هذا، على الأقل، ما كان يظنه باودولينو؛ إذ لم يكن قد فهم بعدُ أنه، في تخيُّله لعوالم جديدة، سينتهي به المطاف إلى تغيير العالم الراهن الذي يعيش فيه. إزاء ذلك، كان يتراءى وكأنه محكوم بالتلفُّظ دومًا بالأكاذيب؛ وفي كلِّ مرة كان ينجح فيها بالشغف بشيء حقيقي كان يعاقبه القَدَر: المرة الوحيدة، في حياته، التي قال فيها الحقيقة كاملة من دون أية إضافات تعرَّض للرجم! ومثله
كمثل كلِّ الكاذبين، انتهى به الأمر لأن
يصدِّق أكاذيبه! فمشكلة حياته الكبرى كانت في
أنه كان يخلط بين الذي يراه وبين الذي يتمنَّى
أن يراه. يروي باودولينو مغامراته لمؤرِّخ
بيزنطي (نيستاس خونياتيس) كان أنقذه من بين
فكَّي الموت. وتعبيرًا عن امتنانه، يَعِدُه
هذا الأخير بأن يعلِّمه كيف يكتب "ملحمته"
بأسلوب جديد؛ إذ من شذرات الأحداث التي تصله
سيستلُّ قصة منسوجة بتدابير إلهية. يقول له
المؤرِّخ إنه، عبر إنقاذه لحياته، مَنَحَه
الزمن القليل المتبقِّي له، بينما، في مقابل
ذلك، سيُظهِر له شكره عبر إعادة تركيب ماضيه
الذي فقده. وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع، يحذِّره حكيمٌ عجوز بأن لا يعتبر نفسه المؤرِّخ الوحيد في هذا العالم: فعاجلاً أم آجلاً، سيأتي شخص آخر، أكذب من باودولينو، يستطيع روايتها. وقد
لا يكون هذا الكاذب "الإلهي" سوى أومبرتو
إيكو نفسه الذي يُلقي، هاهنا، إلى قرائه
بنظرة ساخرة. ففي الواقع، من الصعب جدًّا ألا
نرى في رواية باودولينو هذه السيرة
الذاتية المقنَّعة. فباودولينو ولد، كما
الكاتب الإيطالي، في منطقة البييمونت. بل
أكثر من ذلك: نجد الشخصية الرئيسية تشهد ولادة
مدينة ألكسندريا – وهي مسقط رأس عالم
السيميولوجيا. وقد كانت لهجة المنطقة حاضرة
بقوة في النصِّ الأصلي. على
مرِّ النص، يعود القارئ ليجد اهتمامات إيكو
كلَّها، بدءًا من تساؤلاته حول لغة آدم. كذلك
لا يهمل الكاتب أبدًا عشاق القرون الوسطى (وبخاصة
القرن الثاني عشر)؛ إذ نجده يعرض لأساطير تلك
الحقبة المدهشة كلِّها، من مغامرة البحث عن
الـ"غرال" الشهيرة حتى "السلطة"
المنسية للراهب الخوري جان الغامض. وقد تكون
أكثر القصص إدهاشًا هي تلك التي جرت مع
هيباشيا، حب باودولينو الأخير. أما فيما
يتعلق بالحبكة البوليسية، فالكاتب لا يقترب
منها بصفتها هذه إلا في رمقها الأخير (مما قد
يخيِّب أمل بعض القراء؛ وهذا ما حصل مع بعض
الإيطاليين، على ما تناهى إلينا من أصداء وقت
صدورها بلغتها الأصلية). ومع ذلك، يبرهن
الكاتب على مقدرته هذه في الفصول الأخيرة،
التي تبدو على جانب كبير من البراعة الجديرة
بـاسم الوردة. عند
نهاية مغامراتهم، تكتشف شخوص أومبرتو إيكو
بأنه يجب عدم امتلاك هذه الكأس، بل أن نُبقي
شعلة البحث عنها متوهجة. المهم، في نهاية
الأمر، هو "الحلم"، وليس الشيء نفسه؛
المهم هو المتخيَّل، وليس الواقع. قصة
باودولينو كلُّها لم تكن لتبقى لولا الكلمة –
وهذه الكلمة كانت أجمل الأحلام! إنها تحية
قصوى ومؤثرة لهذا "الكاذب"، المغالي في
كذبه، الذي هو عليه كلُّ كاتب. هذا
الميثاق ما بين الكاتب والقارئ، نظَّر له
أومبرتو إيكو تنظيرًا لامعًا ورائعًا في
كتابه الموسوم القارئ في الحكاية، حين
قال إن على القارئ أن يتكهَّن بما هو مُضمَر،
بينما على الكاتب أن يثقِّف وهو يسلِّي. يدفع
أومبرتو إيكو، في باودولينو، هذا الفنَّ
"الرهيف" للإغواء (الأدبي) إلى ذروته:
فالصفحات الخمسون الأخيرة من الرواية تبدو
على قدر كبير من السحر والمتعة، حتى إنها تحمل
سِمَة هذا الروائي العبقري. مرَّة
جديدة، يبرهن إيكو عن تبحُّره المعرفي الضخم.
غير أن فرادة هذا العمل الممتلئ بالشغف تنبني
وفق المثال الحكائي العائد لمسرحية أوديب
ملكًا لسوفوكليس (التي يعتبرها إيكو أول
رواية بوليسية في تاريخ الأدب)؛ لكنه هاهنا
يشدِّد على أن نجد فيها سائر الأساطير الكبرى
التي سحرت مخيِّلة العصر الوسيط. في تشديده
هذا، يقدِّم لنا إيكو مديحًا رائعًا
للمتخيَّل، الذي ليس سوى محرِّك لهذه
اليوتوبيا ولهذه "الأكاذيب" التي تحرِّك
العالم، بقدر ما تأتي، في الوقت عينه، لتقلب
"القصة الرسمية". فهل
نحن أمام حيلة جديدة من حيل الكاتب الرائعة؟
فكما أن قصة الكأس الأقدس كَتَبَها رجلٌ
مجهول يدعى روبير دُهْ بورون، يكتب إيكو هذا
الشهير قصة عصر مجهول، لم ينوجد إلا عبر ما
تبقَّى من أساطيره – بالأحرى عبر "أكاذيبه"
هو. فالمتخيَّل،
هاهنا، هو الواقع بامتياز! ***
*** ***
|
|
|