|
التوق والرغبة
في التجاوز رواية
التوق*
رواية حياة، استطاعتْ عبرها الكاتبة أميمة
الخش أن تنقل هموم الشريحة الشابة،
المتعلِّمة أو المثقفة، وعلاقة هذه الشريحة
بالمؤسَّسة الاجتماعية وبالسلطة، وبعض ما
تواجهه من صعوبات في الحياة العملية، وأن
تشير إلى الطاقات الشابة الإيجابية التي تحمل
همومًا وطنية وإنسانية وتعيش في الحالات
القصوى من الحب، والإحباط أحيانًا، وتصطدم
بواقع مبنيٍّ على الغش والفساد واستغلال
القوانين لمصالح شخصية أنانية تعمل، عن عمد
وعن غير عمد، إلى تدمير المجتمع وتخريب
الاقتصاد والنفوس. الشخصية المحورية في
الرواية هي شخصية الصيدلانية ثرى التي
تتحدَّر من عائلة بسيطة؛ ولها أخ طبيب (جهاد)
يعمل في مستشفى السجن. تتعرف ثرى إلى الناشط
أدهم وهما بعدُ طالبان في الجامعة؛ يلتقيان
على حبِّ الوطن والرغبة في التغيير. وبسبب
نشاط أدهم السياسي وانتقاده للفساد يدخل إلى
السجن. تتورط ثرى، منذ البداية، في
مشكلة مهنية غير مقصودة، تؤدي إلى وفاة طفل
بسبب إعطائه دواء دون إجراء اختبار تحسُّس،
تحت ضغط والدة الطفل وإلحاحها. وتتعرض في إثر
ذلك للتحقيق والمساءلة والابتزاز من قبل
الصحفي شاهر، شقيق المحقِّق الأمني، بينما
يقف المحقق في جانب ثرى بسبب علاقته بعمِّها،
ويطوي ملفَّ التحقيق. ويقوم شاهر بمحاولات
حثيثة لإجراء لقاء صحفي مع ثرى حول الحادثة،
لكنه، إذ لا يجد تجاوبًا من جانبها، ينشر
مقالاً "يشهِّر" بها من خلاله. تؤثر الحادثة على ثرى
تأثيرًا نفسيًّا وماديًّا، حيث تغلق
الصيدلية قرابة شهرين. وإبان الشهرين تعيش
حياة كئيبة، لشعورها بأنها مذنبة حيال الطفل
الذي مات بين يديها. وتشعر بأنها في حاجة إلى
الصداقة الحقيقية. وهروبًا من الكآبة، تمارس
بعض النشاطات الثقافية، فتزور معرضًا للرسم،
حيث تلتقي بغيث الرسام، صاحب اللوحات
المعروضة. والغريب أن تجد ثرى أن غيثًا قد
تناول حادثة وفاة الطفل في لوحة مؤثرة، مما
يزيد من انفعالاتها واضطراب مشاعرها. ثم يدور
حديث بينها وبين الرسام حول اللوحة، دون أن
تصرِّح باسمها الحقيقي وبأنها طرف معنيٌّ
باللوحة. وتقوم ثرى أيضًا بزيارة
السجن لتلتقي بصديقها أدهم – وكانت تصلها منه
رسائل يحكي فيها عن وضعه داخل السجن، هو
ورفاقه، وما يطرأ على أفكارهم من تبدلات، وعن
صلابة بعضهم وانهيار بعضهم الآخر. وبعد
زيارتها للسجن، تعود ثرى وتستعرض رسائل أدهم،
وتتذكر أيام الجامعة وإعجابها الشديد به،
بشخصيته التواقة إلى الحرية والتغيير،
وبعشقه للثورة فوق كلِّ شيء. وتفيض مشاعرها
نحوه، مما يدفعها إلى كتابة رسالة له، تخبره
فيها عن أحوال رفيقاتها في الخارج (خارج السجن)
وعن تَراجُع الحماس عندهن. الصحفي شاهر يواصل تطفُّله
على حياة ثرى وملاحقته لها، حتى يلتقي بها
لقاءً قصيرًا يصارحها فيه بحبِّه؛ لكنها
تصدُّه. فيلجأ إلى الانتقام وإرسال رسائل
تهديد وتشهير، مثل إرسال صورة لها مع الرسام
غيث، وقد كتب على ظهر الصورة صفات استفزازية
مثل: "متسكعة"، "مبتذلة"، "مستهترة"،
"قاتلة"... ولا يكتفي بهذه الصفات
المقلقة، بل يصعِّد وتيرة الاتهامات لتطال
عائلة ثرى كلَّها – "العائلة المريبة"،
على حدِّ تعبيره. الكآبة والإحباط والضيق هي
المساحة التي تتحرك فيها ثرى، ثم الحنين إلى
البراءة والحبِّ والصفاء. تستعرض بعض مراحل
حياتها الأسرية، وسط أسرتها الريفية، وكيف
خرجت من الضيعة لتستقر في المدينة. وهنا تنساب
شاعرية الرواية، وتتناغم لغتُها السردية
الرشيقة مع جوِّ الحزن والكآبة اللذين
يبرِّران هذا التوق كلَّه إلى الأجمل، إلى
الحرية. ثم تتعمَّق الصداقة بين ثرى
والرسام غيث، لتصل إلى علاقة حبٍّ جديدة
ومتنامية، في الوقت الذي لا يتوقف فيه شاهر عن
الابتزاز وإطلاق الاتهامات وإرسال الصور. ومن
خلال صورة يرسلها شاهر، تكتشف ثرى أن عمَّها
وشاهر والمحقِّق والقاضي (شقيق أدهم) تجمعهم
شبكة علاقات الفساد المنظَّم الذي يتزعَّمه
شفيق بك، الذي تقدِّمه الرواية رمزًا للفساد
والانحلال. والقاضي أيضًا يسعى إلى استخدام
ثرى كورقة ضغط ضدَّ أخيه أدهم لكي يتراجع عن
أفكاره. هذا المحيط المتربِّص كلُّه
الذي يستهدف ثرى، يجعلها في أمسِّ الحاجة إلى
صداقة وحبٍّ تستقوي بهما على هذه الحلقات
المتتالية والمتشابكة التي تشكِّل شبكة من
الفساد. وتجد في غيث رفيقًا ممتلئًا بالنقاء
والثقافة والإيجابية. تدور حوارات بينها
وبينه حول الفنِّ والأدب والتسامي، ثم تتطور
العلاقة لتبلغ قرار الارتباط. غلاف تقدِّم الرواية أنماطًا من
الشخصيات المتصارعة التي تعبِّر عن قيم
وشرائح متصارعة في الحياة. بعض هذه الشخصيات
تنتمي إلى الفساد والشرِّ والتخريب؛ وهي
الشخصيات التي تسود على قطاع واسع من الحياة
العامة وتتحكم فيه. أما الشخصيات الأخرى فهي
الشخصيات التي تقاوم بأشكال مختلفة: شخصيات
لا تزال تؤمن بالحبِّ وبالمعرفة – وإن كانت
عزلاء، لا تمتلك سوى إنسانيتها، التي تنتصر
أخيرًا، على الرغم من الحصار والمشقة، على
قوى الشر. فالرواية تمثل نزوعًا نحو هذه
العوالم الجميلة المتفاعلة، أي نحو الحرية
بأبعادها كافة. وتستطيع الشخصيات المعبِّرة
عن ذلك أن تشقَّ، وسط القتامة والخراب، أفقًا
مفتوحًا. وقد برعت الكاتبة في جعل
شخصياتها الإيجابية مؤثرة ومقنعة، مثل ثرى
وأدهم والطبيب الشاب، الذي فضَّل العمل في
القرية على السفر خارج البلاد، على الرغم من
كلِّ الصعوبات التي واجهها؛ وكذلك معلِّم
المدرسة، الذي يذهب إلى بيوت القرية ليجمع
تلاميذه ويدرِّسهم؛ ثم الفنان غيث، الشخصية
المحورية الثانية، التي تجسِّد، في كلِّ لوحة
من لوحاته، قوة الفنِّ في التعبير عن توق
الإنسان إلى الحرية. وعلى الرغم من تماسُك قوى
الشرِّ وعالمهم التراتبي المُحَكم الذي
يقوده شفيق بك، فإن روح المقاومة والرفض لا
تذوي – وإنْ أبْقَت الرواية الصراع على حاله،
دون أن يُحسَم لصالح أيٍّ من الطرفين. فهي لم
تُرِدْ أن تقسر الواقع وفق حتميات طوباوية.
فالصراع لا يزال قائمًا على الأرض. ولعل
العزاء في أنَّ قوى التغيير والحب والحرية لا
تزال موجودة، على الرغم من الحصار. يبقى أن نشير إلى أن
الكاتبة، على الرغم من الحوارات الطويلة، ومن
الاستفاضة في الوصف الشاعري، تمكَّنتْ من
اختراق الرتابة السردية بالاسترجاعات
والمونولوجات، وتميَّزتْ بلغتها الشفافة
والمتماسكة، واستطاعت أن تعبِّر بنجاح عن
التسامي و"التوق" نحو الأفضل. بـالتوق أثبتت الروائية
أميمة الخش أنها صوت أدبي نسائي راسخ، يُضاف
إلى الأصوات النسائية الإبداعية العربية
المعاصرة. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة *
أميمة الخش، التوق، دار الكنوز
الأدبية، بيروت، 1997. لوحة الغلاف وتصميمه
للرسام ناظم عزيز حمدان. |
|
|