|
هل
يحب الله المرضى؟ الديانات
التوحيدية أمام المرض المرض
عقاب إلهي... حتى في ظلِّ العلمانية هذا
عنوان لكتاب صَدَرَ حديثًا عن منشورات "آن
كاريير" الفرنسية. يطرح السؤال نفسه من
خلال راهنية الخوض الفرنسي في العلاقة بين
الديني والدنيوي. وإذ يدرك المؤلِّفان،
نيكولا مارتَن وأنطوان سبير، مقدمًا، أن
العلمانية، حتى تلك الفرنسية، ظلت مطبوعة
ثقافيًّا بالموروث التوحيدي، الكاثوليكي
تحديدًا، فإنهم يَسِمُون أيضًا كلاً من
اليهودية الفرنسية والإسلام الفرنسي بطابع
الكثلكة. ثمة حاجة لتظهير موقف الديانات
الكبرى من الجسد والصحة والألم والموت، إذن،
من أجل فهم مآل المناظرات الأخلاقية الحيوية bioéthiques في فرنسا. تستند هذه المعالجة إلى خلفية
تاريخية مقارنة: فكاثوليكيًّا، كان الانتقال
تدريجيًّا من رَفْضِ الاستقلالية الدنيوية
للبحث العلمي الطبي إلى الإعلاء من قيمة
البحث، مع إدانة مبرمة لموانع الحمل والواقي
الذكري والإجهاض، فضلاً عن التخصيب المخبري
والقتل الرحيم euthanasie. أما الإسلام، فيبدو أنه اتخذ
طريقًا معاكسة: ففي زمن كانت الكنيسة تماهي
بين المرض والخطيئة، شيد العرب المسلمون
البيمارستانات، وطوَّروا تعليم الطب وتقنيات
الجراحة واللقاحات. وفي زمن عادَتْ فيه
الكنيسة الجسدَ باسم العفة والنقاوة، كان
الأطباء العرب يُعلون من شأن الدور الوقائي
للنظافة. أما اليوم، فلم يعد للمعرفة العلمية
المكانة نفسها التي كانت لها في دار الإسلام،
حيث تسود الريبة من العلم، بوصفه بدعة
مستوردة من حضارة الغرب المادية، في حين أن
السُّنة الطبية النبوية يمكن أن تكفي وحدها؛
أو على الأقل، لا يُقبَل الطبُّ الغربي إلا في
حدود تَوافُقه مع النص. تشترك الإبراهيميات الثلاث في
الإعلاء من شأن الحياة كنعمة يجدر بالكائن
البشري الحفاظ عليها. في هذا الإطار، يندرج
توصيف الحاخام شتاينزالتس للتلمود بأنه "كتاب
الحياة"؛ وهو يفسِّر بذلك سبب حقد الكنيسة
على التلمود، بخلاف مسلكها مع الكتب اليهودية
الأخرى. بيد أن الدفاع الإبراهيمي عن مبدأ
الحياة لم يكن تبنِّيًا لمبدأ الحيوية vitalisme،
كجوهر مفارق للروح والبدن، بل إعلاء من شأن
الحياة بما هي الخصوبة. وهذا ما يفضي إلى
تعريف تناسلي للجنس، بما من شأنه تسطير موقف
قاطع ضدَّ المثلية الجنسية والانتحار والموت
الرحيم. بيد أن الإعلاء من قيمة الحياة
لم يكن ثابتًا على الدوام، خصوصًا في
المسيحية. إذ تذبذبتْ مكانةُ الجسد بين قطب
يحتقره صراحة، حاطًّا من قيمة العمل والجنس،
ومحظِّرًا الشراهة والفكاهة، ويصل، في
غلوِّه، إلى تحريم الألعاب الرياضية اللصيقة
بالوثنية الإغريقية والرومانية، وبين قطب
ثانٍ يمجِّد الجسد، لكن هذه المرة جسد يسوع
المسيح. لذا فقد تعاقبت في تاريخ المسيحية
مراحل نضال ضد الجسد ومراحل نضال ضد الألم. بيد أن هذا الاستقطاب لم يكن
متأصلاً في الإبراهيمية، وإنما استقتْه
المسيحيةُ من مصادر يونانية أفلاطونية يتضاد
فيها الجسد السجَّان مع النفس، حبيسته. هذا ما
ولَّد نزعة تألُّمية تُعلي من عذابات الجسد.
إلا أن الكتاب المقدس، بعهديه، كان يهيِّئ
لهذه النزعة بمجرَّد أن يعتبر انتهاك سُنَّة
الطبيعة وشرعة الأخلاق سببًا جائزًا للمرض –
وإن كان العهد القديم لا يردُّ المرض
بالضرورة إلى ذنب شخصي. هذا ما يوضِّحه مثال
النبي أيوب الذي عوقب على براءته، ثم خرج
نقيًّا كما الذهب من الاختبار في نهاية
المطاف. وفي حين أغفلتْ المسيحية القسم
الثاني من سفر أيوب، حيث تعود له الصحة
والثروة، لم تعتمد اليهودية لا الفقر ولا
المرض كقيمة. أما المسيحية فكانت تجد صعوبة في
الجمع بين الصحة والثروة، من جهة، وبين نعمة
الله، من جهة أخرى، تبعًا لعقيدتها في "الخطيئة
الأصلية" – هذه العقيدة التي تجد تعبيرها
على لسان الأم تيريزا: إن
الجذام ليس عقابًا، بل يمكن أن يكون عطية
جميلة من الله إن نحن أحسنَّا التعاطي معه.
فبفضل الجذام يمكن أن نتعلَّم حبَّ الذين لا
يحبهم أحد. العالم يكسب كثيرًا بفضل تألُّم
الفقراء. بيد أن الديانات لا تقْصِر
تفسيرها على الألم كعقاب، بل تستعين أيضًا
بما يسمِّيه مالبرانش "العذاب التحذيري"
أو الوقائي: فالنار التي تحرق يدي هي "ألم
نافع"، بما هي تجعلني أُبعِد يدي عن النار
كي لا أموت حرقًا. في كلِّ مرض، ثمة تحذير
يرسله الرب إليَّ ويهوِّن الأمر أمام الآتي.
ومَن يتهرب من مصارعة الألم يمنحه شرعيةً. تتصل تعاقبية الإعلاء من أمر
الجسد أو من أمر عذاباته بتداوُلية أخرى تجمع
بين تقديس الجسد وتنجيسه، وتقترن فيها
النظرةُ المنجِّسة للمريض مع النظرة
المنجِّسة للمرأة. المرأة، في الوقت نفسه،
عنصر نَجِس (خصوصًا في المحيض) وعنصر طاهر (العذراء
والأم). ولئن كانت الأنثى أساسية في
الكوسمولوجيا اليهودية، بما يعنيه ذلك
عمليًّا من عدم اكتمال الفرد إلا بالزوج (ذكر
وأنثى)، فإن فكرة "الشخص" هي التي تسود
المسيحية، بما يُسبغ قيمًا دينية على حياة
التبتُّل، إنْ للمرأة أو للرجل. لكن ثمة
فارقًا أساسيًّا بالتأكيد بين يسوع الذي لم
يتردَّد في لقاء النساء، مشافهةً وشفاءً،
والذي أكد أن المومسات ستدخلن ملكوت السموات
قبل الفريسيين، وبين القديس جيروم، الذي لم
يُخْفِ اشمئزازه من المظهر المقيت للنساء
الحوامل، والقديس أمبروسيوس، الذي لم
يتردَّد في مباركة العواقر. في المقلب الآخر،
كانت عقيدة "الحبل بلا دنس" تتجذَّر مع
البابا بيوس التاسع، من خلال عقيدته في عصمة
مريم وتنزيهها عن الخطيئة الأصلية، في حين
كان يحظِّر على النساء، أحيانًا، قراءة
الأناجيل، وكانت المتصوفات تُتَّهمن
بالهرطقة إذا ما ادَّعتْ إحداهن علاقة رؤيوية
مع المسيح. على الرغم من ذلك تشكِّل النسوة
75% من الذين يمارسون حياة الكثلكة في فرنسا.
فلن يكون مقدَّرًا على الإيمان المسيحي أن
يتواصل في فرنسا من دون النساء. ومن الطبيعي
أن تأخذ النسوة الملتزمات مسافة بإزاء التراث
الكنسي الذكوري؛ وفي الوقت نفسه، هنَّ جزء من
كنيسة تحارب وسائل منع الحمل والتخصيب
المخبري، كما تحرم المطلَّقات والمجهضات،
رافضة الفصل بين الجنس والتناسل. وباسم الطهارة الخرافية،
ينجَّس المريض والمرأة كما لو كان مُصابهما
عقابًا إلهيًّا. وتنتظر "النجاسة" مَن
يكتب تاريخها الأشد إيلامًا، أي تاريخ
الجذام، المعزول على هامش المجتمع، في أماكن
احتجاز لا يبارحها: "المبرصات" léproseries. وبمجرَّد المقارنة مع نجاسة
الجذام، تبرز المفارقة الدينية التي نجسَّت
المرأة، أي "جذَّمت" قيم الجمال
والعافية في حدِّ ذاتها. هل لأن المرأة تترادف
مع الحياة والصحة والعافية، كما لو كان على
الإنسان أن يتطلَّع إلى الكمال والطهارة في
ما يناقض الحياة والصحة، وأن يماهي، في الوقت
نفسه، بين انعدام الصحة وبين النجاسة؟ أمام
الطابع القاتم والمشين للسؤال، يخلص مارتَن
وسبير إلى أن مَن يهتم فعلاً بأمر الإنسانية
لا يمكن إلا أن يتمنَّاها نجسة ودنسة! كذلك يهتم الكتاب بالبُعد
الزمني للمرض: قلَّما جرت الإشارة إلى البُعد
الزمني للمرض، مع أنه ينقل المصاب إلى زمنية
أخرى: يحتجزه في مستشفى، ويبدِّل أوقات زيارة
أقاربه وأصدقاءه. وفي زمن المرض، تصبح الكلمة
وسيلة مكاشفة مركزية، مما يدفع الكثيرين إلى
الصمت. هذا جليٌّ في كتاب ماري مينوريه زمن
السرطان، حيث ينقسم زمن المريض إلى أيام
بعلاجات كيميائية وأيام بعلاجات شعاعية! ثم
إن فكرة "الشفاء" نفسها لا تعود محورية
في "السرطانيات" cancérologie، حيث تحلُّ مكانها فكرة كبح تفشِّي المرض.
وهذا ما يدفع المُصاب رأسًا إلى أسئلة ذات
طابع وجودي محورها "الأنا"، وإلى أسئلة
ذات طابع ميتافيزيقي تنطلق من حضور "الآخر"
أمامه. ففي نظر الحاخام جيل برنهايم، في كتابه
الانهمام بالآخرين، غالبًا ما تموت
المجتمعات من يقينيَّاتها. أقصى ما يمكن أن
نقدِّمه للآخر هو أن نجعله قلقًا! في الإبراهيميات الثلاث، لا
يختصر الجسدُ الشخصَ. ثمة مفهوم أشمل للصحة،
إذن: ليس الفرد مالك جسده، بل يقوم بتدبُّر
أمره. وهذا ما يشدِّد عليه إمام مسجد مرسيليا
شعيب بن الشيخ. لا يبدو الحاخام مارك آلان
واكنين بعيدًا عن ذلك: "بالنسبة إلى التراث
اليهودي، يُعَدُّ الإنسان مسؤولاً عن مرضه،
لكنه غير مسؤول عن مسؤوليته." بالنسبة إلى الفكر الديني، لا
يأتي المرض فقط من اعتلال البدن الفرد، بل
يفسَّر بدائرة اجتماعية تتصل بخلفية
ميتافيزيقية – وهذا بيِّن في تاريخ المسيحية.
إذ يرى رونيه جيرار، مثلاً، أن رفع ذنب شخص
واحد هو يسوع المسيح أدى إلى تأثيم البقية:
جرت "التضحية بالبريء"، بعكس المجتمعات
الغابرة، حيث لعبت القرابين البشرية دورًا
وظيفيًّا عند الأزمات. لا يتفق المؤلِّفان تمامًا مع
المقاربة الإقصائية لرونيه جيرار، الذي
يختزل المسألة إلى قربانية وثنية وظيفية،
تلتْها قربانية مسيحية عبثية، خصوصًا أن
التأثيم الديني المشار إليه، أي جعل المريض
مذنبًا من جرَّاء مرضه، ومذنبًا يستحق مرضه،
إنما هو تأثيم يعتمل أيضًا في الأزمنة
الحديثة والعلمانية. هذا ولم تَعْدِل الحداثة
عن هذه النظرة التأثيمية التي تدين المريض،
كونه ساهم في نشر الداء، والتي تبخل على
المريض بفرص للعلاج من جرَّاء ذلك. ثم إن للمرض الواحد تمثُّلات
تاريخية مختلفة. توضح كريستين ديتريز في الإنشاء
الاجتماعي للجسد أن السلَّ، الذي كان مرضًا
رومانسيًّا للأثرياء، سرعان ما تحوَّل في
القرن التاسع عشر إلى وباء اجتماعي. عندئذٍ،
تغيرَّتْ توصيفاتُه. فبعد أن كان المسلول
ثريًّا عاشقًا، يصوَّر بجماله الباهت الذي
تضيئه لمعة العينين، أصبح المسلولون الفقراء
يقدَّمون بنحولة قميئة وأخلاقيات نتنة. وفي
حين كان بلزاك يردُّ علَّة بطله إلى الشهوات،
جاعلاً شفاءه بالعزلة، نجد فريتس زورن، بعد
قرن من تاريخه، يردُّ مصاب السرطان في روايته المريخ
إلى انعدام اللذائذ. تسود هذه النظرة إلى المرض كإثم
حتى في أشكال "علمانية"، تتفلَّت منها
ذعريةُ "العقاب الإلهي". ويُربَط المرض
بشرائح شريرة تنقله: الغرباء الذين يسمِّمون
الآبار بالكوليرا؛ العمال الذين يشيعون مرض
السلِّ؛ المثليون الجنسيون الذين ينشرون
فيروس الإيدز؛ والأدهى من ذلك: التمييز بين
"الضحايا المذنبة" للإيدز (المثليون
والمدمنون) و"الضحايا البريئة" (الأطفال). ليس المخرج بالعدول عن سؤال
المسؤولية، وإنما بالعدول عن الخلط بين "المسؤول"
و"المذنب". وثمة مفارقة أبْرَزَها هنري
أتلان، وهي مفارقة التهرُّب من المسؤولية كي
لا نكون مذنبين، وتحاشي المسؤولية قدر
المستطاع. هذا ما حدث في صيف 2003، يوم قَضَتْ
موجةُ الحرِّ على آلاف المسنين في فرنسا وسط
اللامبالاة العامة. ثمة فارق بين أن تكون مسؤولاً
وبين أن تكون مذنبًا، سواء تعلَّق الأمر
بمرضك وصحتك أم بالآخرين. لا يمكن المكابرة
بأنه ليست هناك تصرفات مسؤولة عن الإصابة
بمرض معين؛ لكنْ لا يمكن، بأيِّ شكل من
الأشكال، اعتبار المرء مذنبًا إنْ أصيب
بالمرض. يخلص المؤلِّفان إلى وجوب فكِّ
الارتباط بين المسؤولية والإثم، ويتساءلان:
هل يبعدنا الموروث الديني عن المسؤولية؟
ونتساءل بدورنا: هل يمكن "فك الارتباط"
بين المسؤولية والإثم خارج إطار هذا الموروث،
أم من خلال التحكم باقتصاديات عناصره؟ إلى أيِّ حدٍّ يمكن للموروث
الديني هذا أن يتقبَّل الفصل بين الذنب
والمسؤولية؟ يتوجَّه المؤلِّفان بهذا الهاجس
إلى كلٍّ من الأب اليسوعي النقدي بول
فالادييه والحاخام الصوفي مارك آلان واكنين
وإمام مسجد مرسيليا المتزن شعيب بن الشيخ. لبول فالادييه مواقف نقدية
جذرية في إطار الكثلكة؛ غير أنه يعيب على
التفلُّتية المعاصرة مفارقتها: إنها تريد أن
تكون تفلُّتية، ومشرَّعة بقوانين عامة، في
الوقت نفسه. لا تُعقَل المساواة بين زواج مثلي
وآخر غيري: فشرط المساواة الخير المشترك أو
الإرادة العامة؛ ما يعني "التناسل" في
هذا المقام: حاجة المجتمع إلى الذرِّية لا
تكون بالزيجات المثلية؛ إذ ينبغي عدم الإساءة
إلى مصلحة الأجيال الآتية. وفي الوقت نفسه،
فهو لا يحبِّذ التطور الديموغرافي معدوم
الضوابط. لا بأس بموانع للحمل في حيثيات
معينة، طبقًا للفكرة الكاثوليكية عن الأمومة
والأبوة المسؤولتين. عند الأب فالادييه أن الجنس
حامل قيم. مع ذلك، ليس من العبث إن اجتمعت
اللذة بالشرِّ. فحتى فرويد أقرَّ بذلك
بإشارته إلى عاقبة الانحباس، أي تقديم لذة
الأنا على لذة الشريك. لكن المتعة ليست
الخطيئة، وإنْ تضمَّنتْ بعضها. المتعة محمودة
إنْ بحثتْ عن ذاتها في متعة الآخر. وفي الوقت
نفسه، لكي تكون المتعة متعة، ينبغي أن تترك
مجالاً للهوى، لشرٍّ ما. الصيغة المثلى وسطية:
لا تحقير الجسد بالتصرُّف فيه كيفما اتفق،
ولا تبجيله والتناسي أنه جسد هشٌّ، سريع
العطب، وإلى التراب يعود. ففي النهاية، يشكِّل الموت
جزءًا أساسيًّا من حياتنا. ينبغي مساعدة
الناس على العيش قدر المستطاع: لا التعجيل في
الموت، ولا مواصلة التطبيب بلا رحمة إلى ما لا
نهاية. وإذ يقر فالادييه بأن حقبة التألُّمية
انتهت في المسيحية – إذ ليس نزيهًا الخلط بين
مصير شهداء الكنيسة الأوائل وبين المرضى –
فهو يشترط ألا تصل السذاجة بالبعض إلى طلب
إلغاء الألم برمَّته. فعلى الإنسان أن
يتقبَّل الوجع لمحاربته محاربة أفضل، وفي
حدود المعقول. أما مازوخية المتشبِّهين
بعذابات يسوع، فإنها ترتبط بتراث طبِّي يعطي
الأولوية للجسد كمجموع أعضاء، ويركن الألم في
دور ثانوي، أكثر مما ترتبط بالمسيحية. لا يعني
ذلك تنصُّل المسيحية من مسؤوليتها التاريخية
في تسخيف اختبار الألم؛ وإنما ينبغي، في
الوقت نفسه، التنبُّه إلى أن التألُّمية
المازوخية كانت تنتشر من تلقاء نفسها، نظرًا
لندرة الإمكانات التقنية في التعامل مع الألم. بدوره، يتوقف الحاخام واكنين
عند وظيفة الطبيب. الطبيب لا "يشفي"؛ وفي
الوقت نفسه، يقدِّم النصُّ التوراتي الله
كطبيب: "لأني الربُّ طبيبك" (الخروج 15: 26).
يعطي واكنين أولوية للعلاج كتأويل أو
للمداواة كقراءة. والملفت أن النصَّ التوراتي
لا يذكر المرض والشفاء إلا في ما ندر، وبشكل
متأخر؛ إذ لا يظهر "المرض" إلا في الفصل 48
من سفر التكوين، حين يعلم يعقوب بمرض
والده، دون أن تُذكَر طبيعةُ ذلك المرض. أما
الجسد، فلا يؤتى على ذكره في أيٍّ من الأسفار
المقدسة؛ إذ لا يجد الجسد اسمًا يشير إليه؛
ولا ينحبس في صورة كلامية أو في جَلْد لغوي. يجنح واكنين إلى المماهاة بين
ماهية العلاج والتأويل. أما إمام مسجد
مرسيليا، فهو يعيد الاعتبار إلى المنفعة
والجدوى في أحكام الفقه الإسلامي. لكن ما يجمع
بين واكنين وبن شيخ وفالادييه (برأي مؤلِّفَي
الكتاب) هو التزامهم جميعًا بحدٍّ معين لا
يمكن التفكير فيه وبعده: الموت الرحيم. إنهم،
إذ يركزون على الوظيفة التأويلية أو على
الرسالة الأخلاقية أو على المسؤولية
القانونية للطبيب، فبغية التهرب من بحث
المسألة من زاوية المريض وقراره الذاتي
الصميم. هذا ما يطرح قضية حقوق الإنسان
برمَّتها على الطاولة، انطلاقًا من مفارقة
فرانتس كافكا، عندما توجَّه إلى طبيبه بالقول:
"اقتلني وإلا فستكون قاتلاً." *** *** *** عن السفير، 19/3/2004
|
|
|