|
تحليل الخطاب
الصوفي* هامش التأويل وتجديد
المركز في
كتابها تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج
النقدية المعاصرة، تكتب الأستاذة الجامعية
الجزائرية آمنة بلعلي أنها، حين فكرت في
الخطاب الصوفي موضوعًا للبحث، لم تكن حينئذٍ
تقف عند الإشكالية الجوهرية التي يثيرها. فقد
بَدَتْ لها الإشكاليات كثيرة إلى حدٍّ يصير
فيه كلُّ ما له علاقة بالخطاب الصوفي وتاريخه
إشكالية، بدءًا من أزمة التواصُل التي رافقت
التصوف، إلى ما نتج عنها من تنحية الخطاب
الصوفي من دائرة الاتصال الأدبي وتهميشه
واختزاله إلى خطاب ديني أو مذهبي. تلاحظ
المؤلِّفة خلوَّ تاريخ الأدب العربي من ذكر
الأدب الصوفي، على الرغم من وجود الكثير من
النصوص الصوفية في الشعر والنثر، تفوق في
أدبيَّتها النصوص التي شغلت الناس وأهل
الثقافة. وليس هناك اهتمام واضح بالنثر
الصوفي، ولا بأخبار المتصوفة وحكاياتهم، من
منظور منهجي حديث، على الرغم مما أعطاه علم
السرد الحديث من إمكانات هائلة للاقتراب من
مختلف أشكال السَّرد في العالم. أما الدراسات
التي اهتمَّتْ بالشعر الصوفي، الذي كان له
الحظُّ الأوفر، فلم يتعدَّ فيها أصحابُها
استخلاص ما هو فلسفي إيديولوجي "صوفي"،
مثل الحلولية ووحدة الوجود والفناء و"الحقيقة
المحمدية" والمقامات. ومَن حاول الكشف عن
أسلوب الكتابة الشعرية الصوفية بقي يحوم حول
أنواع الرموز، كالمرأة والخمرة والطَّلَل. على
أن آمنة بلعلي تتناول أهم مظاهر الخطاب
الصوفي والمكوِّنات النصِّية في علاقتها بما
هو تواصُلي، مثلما تعرض له نظرية التلقِّي،
سواء من حيث الكفاءة من جانب المرسِل، أو
الكفاءة التأويلية من جانب المتلقِّي. وهي
ترصد طبيعة الخطاب الصوفي في بداياته من خلال
الشعر، وتداوُله بين المتلقِّين، وردود
أفعالهم، وكيف كان التواصُل مع هذا النوع من
الخطابات. وقد وقفت عند ضغوط التلقِّي التي
عبَّرت عن التفاعل السلبي بينهم وبين
المتصوفة الذي انتهى بمصرع الحلاج. وحين
أقام المتصوفة علاقتهم بالله على أساس ينزع
إلى المباشرة وتجاوُز الوسائط (حتى وساطة
الوعي بالمفهوم المتعارَف عليه) لم يكن
المتلقِّي في ذلك الوقت، مهما كانت دائرة
انتمائه، يستسيغ هذا الوضع الذي ينمُّ كلُّ
شيء فيه عن انفجارية مفرطة للأنا تجاه الله،
مثلما تعكسه أبيات للحلاج من نحو: أنا
من أهوى ومن أهوى أنـا * نحن روحـان حلَـلْـنا
بدنـا وضعُ
الحلاج نابع من فهم علاقته بالله فهمًا لا
انفصام فيه بين الأنا وبين الله، وبين الأنا
وبين العالم. فالله ليس موضوع رقابة، بل موضوع
مؤالفة، قابع داخل النفس، ما دام الإنسان
خُلِقَ على صورته. وصحيح أن خطاب الحلاج في
الحبِّ الإلهي أثار ثيمات أساسية في الفكر
والأدب الصوفي، لِما أحْدَثَه من خلخلة في
السياق المعهود لعلاقة الإنسان بالله. ولقد
كان لهذا أثر بالغ في الأدب الصوفي لاحقًا. تبيِّن
الكاتبة آليات التواصُل التي وضعها المتصوفة
المتأخرون من أجل تفاعل ايجابي، كاعتماد
الغزل واتخاذ التأويل وسيلة لتبرير طبيعة
التفاعل، التي كانت ثمرتها تأسيس مفهوم
الكتابة انطلاقًا من مفهوم الجوهر الأنثوي
وفعل الحبِّ ذاته. فكان النموذج الشعري في
المرحلة الثانية، عند المتصوفة المتأخرين،
ينطوي على أفعال كامنة تعبِّر عن ردود أفعال
متنوعة في التلقِّي. وهو ما كشف عنه ابن عربي،
الذي جعل خطاب الغزل وسيلة للتفاعل مع الملأ
الأعلى. وهي أولى دلالات قصد التفاعل بين
النصِّ والمتلقي. التأويل لقد
كان وَضْع المتلقِّي عاجزًا عن استيعاب أفق
مغاير لما هو سائد، فَرَضَه الخطاب الصوفي في
مستواه الدلالي. إذ كان الاصطلاح والرمز
والإشارة دعوة إلى الاختلاف، وتغيير آفاق
التلقِّي بوساطة التأويل. غير أن الدعوة لم
تهيِّئ لمَعالم أفق انتظار جديد إلا في
القرون المتأخرة عند ابن عربي الذي أبرز
تصوره عن المرأة باعتبارها فضاء جماليًّا. لقد
أسهم المتصوفة في خلق وعي للتلقِّي بدفع
المتلقِّي إلى سِحر الرمز والإشارة
والتأويل، ذلك لأن الإحساس بضيق العبارة قاد
المتصوفة (ومنهم النفَّري والتوحيدي) إلى
اشتغال واسع ومتميز عليها. وأصبحت اللغة
عندهم أفعالاً لا تُنجَز باستمرار، والكتابة
ممارسة اشتهاء، يبدو فيها الكاتب، في كلِّ
كلمة منها، منشغلاً بخلق أسلوب في اللذة،
وسلطة الإغراء المعرفي والجمالي. فبدت
نصوصُهم غير قائمة على بلاغ أو إخبار أو معارف
بقدر ما هي تبليغ يقوم على المشاركة في عملية
التخاطُب. وإذا
كانت نصوص التوحيدي تعبِّر عن منهجية الوصول
إلى الله، فإن نصوص النفَّري تعبِّر عن معنى
الوصول. وأمكن استنتاج منها شرح حقيقة
التصوف، باعتباره علاقة تُقطَع معها العلائق
والوسائط بين العبد وربِّه، كما تُقطَع
المسافة، فلا يكون هناك ما يفصل بينهما. تحتكم
آمنة بلعلي إلى السيميائيات السردية التي
ساعدتْها في الكشف عن مواجهات تشكِّل الحكي
وكيفية اتساع دائرة الاتصال بين المتصوفة
والآخرين من خلال تلك المواجهات، كالشطح
والرؤيا، التي أسهمت في شيوع جوِّ الحكي
وتنوع مظاهر النوع القصصي وتجلِّيه في خصائص
معينة. وهذه المظاهر، كان لها أن تتخذ في
إذاعتها أشكالاً مختلفة من التأثير وتجاوُز
الواقع والحقيقة، مع الخيالي والعجيب. لقد
دفعتْ متعةُ الحكي المتصوفَ الرائي (الذي يرى
حلمًا في نومه) إلى أن يتحول إلى راوٍ،
يتكفَّل القصُّ ما رآه في نومه على الآخرين.
ومن هنا تنحو الرؤيا إلى نصٍّ يُحكى. وكان
للرؤى مفسِّروها المعروفون، وكانت علاقة
المؤوِّل (المتلقِّي)، في علاقته بالرائي (الراوي)،
تتم في إطار مغلق حَذِر، قد تنتهي، بعد تأمل
وتمعُّن في نصِّ الرؤيا، إلى إحجامه عن تقديم
تأويل. لقد
كان اكتشاف الفعل التواصُلي من خلال نصوص
كالكرامة الصوفية، تمكينًا للكاتبة من
الإجابة عن الجانب المهم من الإشكالية، وهو
أن التغييب الرسمي للخطاب الصوفي وازَتْه
ممارسة تأثير في جماهير عريضة، وأدَّتْ إلى
نشأة الطرق الصوفية التي مازالت مستمرة حتى
عصرنا هذا. الكاتبة،
في بحثها العميق والشائق، تستنتج مسألة مهمة،
وهي أن الخطاب الصوفي ليس طفرة في الكتابة، بل
إن التصوف، فكرًا وأدبًا، هو نتاج قراءة
تأويلية لنصوص الثقافة المركزية، وينمُّ عن
عقلية علائقية ذات مقاصد دالَّة عميقة. *** *** *** *
آمنة بلعلي، تحليل الخطاب الصوفي،
منشورات الاختلاف، الجزائر.
|
|
|