|
حسن إدلبي ريادة في إبداع
كاريكاتير البورتريه* بقليل من الحفاوة، وكثير
من الجاذبية، يستقبلك وأنت تدخل أروقة معرض
أبو ظبي الدولي الحادي عشر للكتاب، جناح فنان
كاريكاتير البورتريه الكبير حسن إدلبي،
مرحبًا بك باسم المعنيين بمعرض الكتب
ومنشوراته – وهم عمالقة الأدب المعاصرون، من
مشرق العالم العربي إلى مغربه – وقد خصَّهم
باسم الجناح: "الأدباء في ساحة الكاريكاتير".
وأنت
لا تستطيع أن تمرَّ عابرًا أمام بورتريهات
حسن إدلبي، من أوَّلها حتى آخرها. فكلُّ واحد
لوحة كاملة، اختزل فيها الفنانُ صاحبَ
الشخصية، معبِّرًا، بألوانه وخطوطه
ومساحاته، عن جميع مقوِّماتها، بجزالة وقوة
تحتاج الأحرفُ والكلمات إلى عشرات الصفحات
لقولها. الفرشاة
في يد حسن إدلبي ذات قدرة عجيبة تتجاوز
المهارة الفائقة في خلق الكاريكاتير
المعبِّر عن العلامات الفارقة في الوجه،
واصلةً إلى حدِّ التعبير الإيحائي الذي يجعلك
تقرأ في كلِّ عملٍ أدبَ وشخصياتِ وبيئةَ صاحب
البورتريه: فإن أنت وقفتَ أمام بورتريه نزار
قباني متأملاً أخذتْك عيناه إلى عالم المرأة
والعشق وأغانيه؛ وإن وصلتَ إلى حنا مينه
أبحرتَ في دخان سيجارته في أعماق البحار
وأسرارها؛ وتستمع مع عبد الرحمن منيف، بأذنيه
المشدودتين إلى الأسفل، إلى أنين المعذَّبين
والمقموعين في شرق المتوسط؛ وتقف حائرًا
أمام وجه أدونيس الصغير العابس، الهائم في
فلسفة الانتماء، ورأسه الكبير بالتسريحة
الأنيقة للشعر الفضي الطويل، حجابًا لمنهجية
ذاتية يحميها من تأثيرات العوالم الأخرى؛
ومثلها تقريبًا ما تقرأه في بورتريه سعيد
عقل، ذي العينين الصغيرتين والنظرة
المتعالية والفخورة إلى حدِّ الصلف بخصوصية
حضارية، والشعر المنفوش كأنه إشعاعات تأثير
على الآخرين تتحدى الذبول. فضاء
إدلبي الرحب جادَ علينا ببورتريهات
كاريكاتورية لعدد كبير من عمالقة الأدب
العربي، كطه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح
وزكريا تامر وعبد السلام العجيلي ومحمد مهدي
الجواهري وعبد الوهاب البياتي وسلطان العويس
وصلاح جاهين وأحلام مستغانمي وغادة السمان
ومحمود درويش وغيرهم وغيرهم. ويفيد
الفنان، الحاضر أمام "لوحاته" حضورًا
دائمًا طوال أيام المعرض، بأنه اختار لمعرض
الكتاب الحادي عشر في أبو ظبي أعماله الخاصة
بشخصيات الأدب، وأن لديه أعمالاً مشابهة
للشخصيات السياسية العربية والدولية،
وللفنانين السينمائيين والمسرحيين وغيرهم.
وقد أقام معرضًا لبورتريهات نجوم السينما
المصرية تحت عنوان "السينما في ملعب
الكاريكاتير"، ضمَّ صورًا لعمالقة الشاشة
عمر الشريف وعادل إمام ونور الشريف وغيرهم. وأنت
تقف أمام هذا الإبداع المتميز والنادر المثيل
تتلمَّس الثقافة العميقة للفنان، ومعرفته
وفهمه لأعمال أصحاب البورتريهات وعوالم
وشخصيات كلِّ منهم. فالوجه، بأجزائه، بقدر ما
هو عالم التعبير لدى الفنان وساحة المحاكمة،
هو، في نفس الوقت، فهرس أعمال صاحبه وحامل
فلسفته وثقافة شخصياته وبيئتهم. ولم يكن لحسن
إدلبي أن ينجز إبداعات بهذا المستوى المتألق
لولا الإلمام بما خلف هذه الوجوه من آداب
وإبداعات. ويمتد
الإبداع في كاريكاتير البورتريه عند حسن
إدلبي إلى التأثير على قارئه، رابطًا بين
الابتسامة والجرح، كما تقول عنه غادة السمان:
"الضحك معه جدية، وهو يداعب الجرح بدبوس
الابتسامة." ويتراءى
لك أن حسن إدلبي لا يرسم أو يصور، وإنما ينحت
بتصرف تعجز الكاميرا عن الوصول، بعديد
لقطاتها، إلى ما تصل إليه هذه المنحوتة.
فبمداعبة أجزاء الوجه بهذا القدر من الحرية (التي
سماها ناصر الظاهري بـ"الجراحة التجميلية")
تمكَّن الفنان من قول ما لا تقوله الكاميرا.
حجم كلِّ واحد من مكوِّنات الوجه والشكل
واللون والحالة والتناغم مع المكوِّنات
المحيطة يُدخِلك إلى شخصية الأديب، فلا تعود
قادرًا على الخروج قبل أن تستكمل مسلسل حياته
الشخصية وأعماله ومفرداتها: حركات أجزاء
الوجه، الابتسامة، النظرة، غطاء الرأس
واتكاءته على الكف، سبابة الكف، النظارة،
القلم، الملفَّات – كلها مواد تعبيرية
أثْرَتْ وسائلَ الفنان، فتنوعتْ معها
لوحاتُه القيِّمة لتعكس سيرة كلِّ أديب،
وتأخذنا إلى عالمه بنجاح نادر المثيل. وحسن
إدلبي ليس ذلك الرسام المعتكف أو المغمور، بل
هو الفنان السخي الذي ينتظر الجمهورُ
إطلالاتِه في أروقة الثقافة ونشاطاتها.
فريشته معروفة في الصحافة والتلفزيون منذ
بداية التسعينات. فقد عمل في مجلات فن والكفاح
العربي والسفير والاقتصاد والأعمال
والنقاد؛ ويعمل الآن في المجلة
الإماراتية المعروفة المرأة اليوم. وكان
قد شارك سابقًا في برامج تلفزيونية جماهيرية
مثل وبعد سهار في تلفزيون المستقبل وألو
بيروت في ART.
أما معارض أعماله فقد أقيمت عدة مرات في كلٍّ
من سوريا ولبنان ومصر وتونس والإمارات وباريس. فن
كاريكاتير البورتريه ينتظر من حسن إدلبي
المزيد. فالعطش إلى الإبداع بديلاً عن
التقليدي المكرور أصبح حافزًا قويًّا يتسع
معه فضاء العطاء. والأمل أن تجد نداءات من هذا
النوع تجاوبًا لدى المتذوقين والمتخصصين
لدعم التجارب الإبداعية بكلِّ الوسائل
المتاحة، فتصبح قادرة على التحول إلى قيمة
تطويرية خلاقة. نتمنَّى
لفناننا الكبير التألق الدائم والقدرة
المستمرة على العطاء. *** *** *** *
نشرت في صحيفة إيلاف الإلكترونية
(قسم الثقافة) www.elaph.com
بتاريخ الاثنين 12 أبريل 2004. **
كاتب من سورية. البريد الإلكتروني: moufeedm@keoic.com.
|
|
|