|
الحكمة الإلهية
ومبادئها
الأساسية الثلاثة
مدخل
إلى دراسة العقيدة السرية ديمتري
أفييرينوس
ثمة ثلاث حقائق مطلقة
لا تضيع، إنما قد يُصمَتُ عنها لفقدان الكلام: روحُ الإنسان خالدة
ومستقبلُها مستقبلُ أمرٍ لا حدود لنمائه
وبهائه. المبدأ الواهبُ
الحياة يقيم فينا وخارجنا، وهو لا يموت
وخيِّر أبدًا؛ لا يُسمَع أو يُرى أو يُشَمُّ،
لكنْ يبصرُه الإنسان التوَّاق إلى البصيرة. كلُّ إنسان فهو شارع
نفسه المطلق، والمقدِّر على نفسه العزَّة أو
الخذلان، والمفتي في حياته وثوابه وعقابه. هذه الحقائقُ
العظيمة عظمةَ الحياة نفسِها بسيطةٌ بساطةَ
أبسط عقل بشري؛ فغذِّ بها الجياع. السيِّد
هيلاريون (حكاية السدرة
البيضاء، أُملِيتْ على ميبل كولنز، الفصل
الثامن) ألا فلتأتِنا
الأفكارُ النبيلة من كلِّ صوب. رِغْ فيدا
1-89-أ مقدمة
تاريخية
يشير
التاريخ السرَّاني للإنسانية – ألا وهو
التاريخ الذي لا تطال أيدي المدرسيين من
المؤرخين سجلاتِه – إلى وجود نواة أو "جذوة"
من الحقيقة، تظهر وتختفي على كرِّ العصور
وفقًا لإيقاع دوري تنتظمُه نواميس عليا،
فتُعلَّم جهرًا لتهيمن على حضارة بأسرها
وتطفو على سطحها تارة (كما في مصر القديمة
والهند وبلاد الإغريق في عصرها الذهبي)، أو
تُكتَم عن عامة الناس وتُعلَّم سرًّا للصفوة
التي تصبو إليها طورًا. ولقد كانت تلك الجذوة
أو الشعلة – تلك "العقيدة السرية"،[1]
كما سمَّتها السيدة هيلينا بتروفنا
بلافاتسكي – إبان الدور الذهبي من ماضي
الإنسانية
السحيق ملكًا لجميع الناس ولم تكن حكرًا على
فئة دون فئة؛ لكن نزوع غالبية البشر، على إثر
التفتُّح المطَّرد للمبدأ العقلي الأدنى أو
الذهني mental principle،
إلى الأنانية والأثرة، جعل المؤتَمَنين على
تلك الشعلة من السادة الحكماء لا يسرُّون
بالحقائق الجوهرية إلا لتلامذة مختارين،
حقيقين باقتبالها وصونها عبر "المسارَرة"
Initiation.
ولقد صيغت هذه العقيدة–الأم صياغات متعددة؛
وبحسب أزمنة إعلانها وأمكنته كان التشديدُ
على هذا الركن من أركانها أو ذاك. غير أن
مبادئها الأساسية ظلت ثابتة عبر العصور، لم
تطلها يدُ البِلى أو التحريف. لقد
أصرَّت السيدة بلافاتسكي – تلك المرأة
الجسور التي جهرت بمبادئ الحكمة الأزلية تحت
مصطلح ثيوصوفيا[2]
theosophia
– في تصريحاتها وكتاباتها كلَّ الإصرار على
وحدة كلِّ الأديان في الجوهر والغاية، ونظرت
إليها جميعًا بوصفها نتفًا مختلفة الأشكال
والألوان من نور الحقيقة الإلهية الواحدة،
فشبَّهتْ الثيوصوفيا بالشعاع الأبيض للضوء
وكلَّ دين بلون من ألوان الموشور الستة (اللون
النيلي درجة من
درجات الزرقة). هنالك أديان عديدة حقًّا، لكن
الدين الشامل واحد أبدًا: إنه دين الحكمة Wisdom
Religion
الذي يدعى كذلك في الأدبيات الثيوصوفية بـ"الفلسفة
الباطنية" Esoteric
Philosophy.[3]
ويخبرنا كتاب العقيدة السرية (أضخم
المؤلفات
التي خلَّفتها السيدة بلافاتسكي وأهمُّها)
بأن الفلسفة الباطنية تؤلِّف بين جميع
الأديان فتجرِّد كلاً منها من ردائه الخارجي
الظاهر وتبيِّن لنا أن جذر كلٍّ منها هو عينه
جذر الأديان الأخرى. وهذا الجذر أو الأصل
المشترك هو، كما أسلفنا، دين الحكمة الذي
يضمُّ المعرفة المتراكمة عبر العصور بفضل
آلاف الرائين والعارفين بالأسرار.[4]
ونقرأ في الكتاب المذكور أن العقيدة
السرية كانت
الديانة العالمية الانتشار في العالم القديم
وما قبل التاريخي. وما تزال البراهين على
انتشارها وسجلات تاريخها – وهي سلسلة كاملة
من الوثائق تبيِّن طابعها ووجودها في البلدان
جميعًا – كما وعلى تعاليم كبار نطسائها
موجودة حتى الساعة في الأقبية السرية
للمكتبات الخاصة بالأخوية الغيبية. يُعرَف
لُباب المعرفة هذا (أو "المنقول الغيبي" Occult
Tradition)
اليوم، إذن، باسم الثيوصوفيا؛ وهو يدعى
"غيبيًّا" لا لأن أساتذته يهتمون بـ"الخوارق"
وبالشعبذة، كما يحسب بعض السطحيين، بل لأنه
يختص بما هو باطن مستور،[5]
لا بما هو ظاهر جلي، من حيث إنه يتناول
المسائل والقضايا المتعلقة بسيرورات الطبيعة
ونواميسها الخفية، وبذلك يشتمل على العلم
ويمضي شوطًا أبعد منه على طريق معرفة الحقيقة:
فهو يتضمن دراسة المبادئ الإلهية الكبرى
المهيمنة على الكون والمسيِّرة له التي
يُصطلَح على تسمية معرفتها
بـبرهما
فِديا Brahma-Vidya
(العلم الروحي أو الإلهي).[6] ولعل خير تعريف
بالثيوصوفيا، من هذا المنظور، نجده في كتاب محيط
الثيوصوفيا:[7] الثيوصوفيا هي ذلك
المحيط من المعرفة الممتد من ساحل من سواحل
تطور الكائنات المُحِسِّة إلى آخر. ومع أنها
في أعماقها التي لا يُسبَر غورُها تفسح لأعظم
الأذهان مجالها الأوسع، فهي عند شواطئها من
الضحالة بما لا يُغرِق فهم طفل. هي الحكمة عن
الله عند الذين يؤمنون أنه الكل في الكل، وهي
الحكمة عن الطبيعة عند المرء الذي يقبل
التصريح الوارد في الكتاب بأن الظلمة تكتنف
سرادقه. ومع كونها تتضمن بالاشتقاق كلمة
الله، وبذلك قد تبدو مشتملة على الدين وحده،
فإنها لا تهمل العلم أيضًا؛ ذلك لأنها علم
العلوم، ولذا دُعِيت بدين الحكمة. فما من علم
تام يغفل أيَّ قطاع من قطاعات الطبيعة،
مرئيًّا أو غير مرئي؛ والدين، باستناده إلى
الوحي المزعوم وحسب، وضربه كشحًا عن الأشياء
وعن القوانين التي تنتظمُها، ليس إلا مجرد
أضلولة وعدوًّا للتقدم وحاجزًا في سبيل سعي
الإنسان نحو السعادة. أما الثيوصوفيا فهي،
باشتمالها على العلم والدين جميعًا، دين علمي
وعلم ديني. لقد
جرى الناس – وخصوصًا في الغرب – على عادة
الخلط بين مصطلح الغيبيات Occultism
(الأبعاد العملية التطبيقية للفلسفة
الباطنية) وبين "الفنون الغيبية" Occult
Arts
التي تضم المِسْمِرية Mesmerism
(التنويم المغناطيسي) والاستبصار Clairvoyance
والجانب المادي الضحل من علم النجوم Astrology
والكيمياء (القديمة) Alchemy إلخ. لكن هذا الالتباس
المؤسف يزول متى علمنا أن العلم "الغيبي"
Occult Science
لا يمتُّ بصلة إلى السحر والخوارق – إن كان
ثَمَّ حقًّا ما يخرق قوانين الطبيعة أصلاً! –
مع أنه يشتمل على كافة المبادئ والأسس
النظرية المنطقية لتفسير مثل هذه الظواهر، بل
يتناول، بالدرجة الأولى، النواميس الكونية
التي تحكم ظواهر الطبيعة، وبذلك يشكِّل، من
وجهة نظر معاصرة، استطالة للعلم تمتد لتشمل
كافة المبادئ المبطِّنة للكون القابل
للرصد بأدوات العلم. العالِم الغيبي الحق
عالم تجريبي بامتياز (كما يُستشَف من نصِّ
دْجَدْجْ الذي أوردنا) لأنه، هو الآخر،
يستهدف معرفة ما خَفِيَ من أسرار الطبيعة
والكون؛ بيد أنه، بدلاً من أن يحصر نشاطه
ومكتشفاته في العالم الجسماني (أي المادي)،
فإنه ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كلاً
عضويًّا شاسعًا ليس العالم الجسماني منه إلا
النقاب أو القشر الخارجي. إن حقيقة
العالِم الغيبي، مثلها كمثل حقيقة عالِم
الفيزياء، تقبل التحقق منها أو البرهان
عليها، لكن السبيل إلى ذلك مختلف بين
الحقيقتين. فالعالِم الغيبي يدرك، بالكشف
الروحي والوعي الصافي، أن العوالم غير المنظورة
تنطوي على العوامل السببية لكلِّ الموجودات
ولكلِّ ما يولِّد في دائرة الوجود الظاهر
كلَّ ما يقبل الإدراك بالحواس.[8] * إن
بدايات التعليم الغيبي، كما سبق وألمعنا،
ليست مدوَّنة في التاريخ الذي بين أيدينا،
لكننا نستطيع تكوين تصور عن مبلغ قِدَم دين
الحكمة بالنهوض بدراسة معمَّقة لمؤلفات
السيدة بلافاتسكي، فنتبيَّن أنه وصلنا بكامل
نقائه دون أن يطرأ عليه أيُّ
تعديل
(اللهم إلا في "أسلوب" التعبير) بعد أن
تناقلتْه الحضاراتُ واحدة بعد الأخرى كما
تُتناقَل الشعلة الأولمبية. يبتدئ
ما وصلنا من السجلات المدونة في بلاد الكلدان
وبابل وكنعان، ويُعتبَر ما بلغنا من أساطير
سوريا
وبلاد الرافدين
من أغنى النصوص بالحقائق الباطنية، مغلَّفةً
بنقاب كثيف من الرموز. وفي بلاد فارس كان
زردشت، مؤسِّس ما يُعرف اليوم بالديانة
الزردشتية أو الفارسية، من أكابر المعلِّمين
الباطنيين الذين أنجبتهم الإنسانية. أما مصر
فقد ظلت أهرامها وهياكلها "مستودعات"
للتعليم إبان قرون طوال – ويقال إنها لا تزال. وفي
أوروبا تبنَّت الشعوب الكِلتية Celts وكهنتها الدرويد Druids،
في زمن الرومان، هذا التعليم عندما أنيط بها
حملُ المشعل. ويمكننا أن نجد ملامح من التعليم
في القبَّالة qabbalah
(التصوف الإسرائيلي)، ولاسيما في سفر
الزَّاهر الذي ينطوي على سرَّانية
الربانيين الحكماء. ولقد ظلت حضارة الصين،
حتى يومنا هذا، موئلاً للعقائد الباطنية كما
أعلنها معلِّموها الطاويون العظام، أمثال
لاوتسِه وخوانغ تسِه وغيرهما. أما الهند، فقد
بقيت المبادئ الغيبية آلاف السنين مزدهرة
فيها ازدهارًا متواصلاً، يحمل ألويتها
عمالقتها الروحيون، أمثال شنكراتشاريا
وبَـتَـنْجلي والبوذا غَوْتاما،[9]
إلى جانب مئات الحكماء والسرَّانيين
العارفين.[10] ولقد
تشربت ثقافة اليونان القديمة مبادئ المنقول
الباطني، حيث علَّمتْ عدةُ مدارس أسرار الروح
للصفوة من تلامذتها. ففي بلاد الإغريق، وارثة
حكمة مصر، كانت الفلسفة والعلم والدين
تُعلَّم ككلٍّ واحد لا يتجزأ، وكان مريدو الأسرار
الصغرى Lesser Mysteries
في هياكل ذلفس وإلفسِس وساموثراكي وفي
أكاديمية أفلاطون، وقبلئذٍ في مدرسة
فيثاغوراس في كروتونا، يدرسون الرياضيات
والفيزياء وعلم النجوم، إلى جانب التعاليم
الخاصة بطبيعة الألوهة والفيض والكوسمولوجيا
ونواميس الطبيعة والبنية الباطنية للإنسان.
أما "صفوة الصفوة" منهم، المؤهَّلة
لولوج الأسرار الكبرى Greater
Mysteries،
فكانت تركز جهودها على تفتيح ملكاتها وقواها
الباطنة في سبيل التحقُّق بالمعرفة والحكمة
عبر التأمل الباطني وغيره من الرياضات
السرَّانية. لقد
كان فيثاغوراس وأفلاطون قطعًا من معلِّمي
الأسرار. وبعد أفول الحضارة الإغريقية واصل
الفلاسفة الإسكندرانيون، بمن فيهم أفلوطين
والحكيمة الشهيدة هيباشيا، صون شعلة التعليم
الذي كان في عهدة الإغريق وأغنوه بعبقريتهم
التأليفية: فقد قام الأفلاطونيون
والفيثاغوريون الجدد بمحاولة رائدة للتأليف
بين التعاليم الإغريقية والمشرقية، ولاسيما
تعاليم الهند، فجرى بفضلهم تلاقحٌ مثمر بين
حكمة الهند، من جهة، وتعاليم شرق حوض
المتوسط، من جهة ثانية. وفي حدود ما نعلم، كان
أمُّونيوس ساكَّاس، الملقَّب بـ"تلميذ
الآلهة" ومعلِّم أفلوطين، أول من استعمل
مصطلح ثيوصوفيا theosophia
للدلالة على المنقول الباطني؛ ففي القرن
الثالث أسَّس هذا الفيلسوف ما يمكن تسميته بـ"المنهاج
الثيوصوفي الاصطفائي" Eclectic
Theosophical System
الذي حاول من خلاله الجمع بين تعاليم
المدارس الدينية والسرَّانية المزدهرة
في زمانه في إطار مشترك أخلاقي ومعرفي – وهي
غاية ليست ببعيدة عن غاية الثيوصوفيا
المعاصرة التي تعتبر نفسها الوارثة الشرعية
لتلك المحاولة الرائدة.[11] من
جهة أخرى، تصف مخطوطات البحر الميت المكتشَفة
في العام 1947 "معلِّمًا للحق" تتلمذ في
مدارس الأسرار الأسِّينية،[12]
التي تذكر بعض المصادر أنها دخلت في تماس مع
البوذية عن طريق الرهبان الذين أرسلهم الملك
البوذي آشوكا مبشِّرين بالبوذية، وتعبِّر
تعاليمها عن تفاعل التعاليم الإسرائيلية (وليس
"اليهودية") المسيائية (المخلِّصية) مع
الروح البوذية. وتؤكد المصادر التي بين
أيدينا أن يسوع أمضى فترة من حياته بين ظهراني
الأسِّينيين –
وإن يكن افترق عنهم فيما بعد دون أن يتنكَّر
لصحة تعاليمهم. وسواء صحَّ ذلك أم لم يصح، من
المؤكد أن يسوع، بشهادة الإنجيليين، علَّم
تلاميذه حقائق أعمق بكثير مما جهر به أمام
عامة الناس الذين لم يكلِّمهم إلا بالأمثال.[13]
وتُعتبَر الأناجيل (ولاسيما إنجيل يوحنا
اللاهوتي) ورسائل القديسين بولس ويوحنا ورؤيا
القديس يوحنا في بطمُس (نص مشبع بروح القبالة
الإسرائيلية، لا يحتمل إلا تأويلاً رمزيًّا
صرفًا) – ناهيكم عن بعض الأناجيل "المنحولة"،
وبخاصة إنجيل توما الغنوصي[14] – نصوصًا
سرَّانية حافلة بالتعاليم الباطنية التي
يقصِّر المسيحيون – إلا أقلهم – في سبر
بواطنها بفهم إشاراتها وتأويل رموزها. ولقد
تبنَّى الغنوصيون – وهم تربة المسيحية
الأولى في منطقتنا – ذلك التعليم الباطني،
لكن الكنيسة "الرسمية" كافحتْهم بحملات
منظمة. أما
الصوفية المسلمون
والفلاسفة الإشراقيون فقد حملوا لواء
التعليم الباطني إبان ازدهار الحضارة
العربية. وحسبنا أن نذكر منهم الحلاج وابن
عربي وجلال الدين الرومي وابن سينا
والسهروردي المقتول لكي نشعر بسموِّ الدرجة
التي بلغها التعليم في عهدتهم.[15] * إن
لمما لا يحتمل مجالاً للشك هو أن جميع مؤسِّسي
الأديان العالمية علَّموا طرفًا من عقائد
المنقول الباطني. وما تزال ملامح من هذا
المنقول باقيةً في أديان العالم الحية
جميعًا، على كونها مدفونة، في أغلب الأحيان،
تحت ركام من الشرائع والشروح الحرفية.
والواقع هو أن الغرب، من جانبه، قد حاد عن
التعليم الباطني، راسمًا لنفسه مسارات كانت
غريبة عنه أول الأمر، وظل على هذه الحال حتى
أيام ليست ببعيدة. ويُعتبَر تدمير مكتبة
الإسكندرية أحد العوامل الرئيسية التي تقف
مباشرة من وراء ضياع هذه التعاليم أو كتمها.
فقد كان ذلك الصرح الفكري والروحي العظيم
يضم، فيما وصلنا، حوالى 700000 مجلد تحوي خلاصة
الحكمة القديمة والتعاليم الفلسفية
والسرَّانية التي ازدهرت في روما واليونان
والشام ومصر والهند وفارس. لكن عددًا من غوغاء
المسيحيين المتعصِّبين قاموا في العام 391 م،
بتحريض من بعض السلطات الكنسية، بإحراق
المعابد "الوثنية" في
الإسكندرية
وإتلاف عدد كبير من المؤلفات المخزونة في
مكتباتها. وبذلك غاب عن العالم الغربي "مستودع
الحكمة" (كما كانت مكتبة الإسكندرية
تُسمَّى آنذاك)، وغاب بغيابه مصدر من أهم
مصادر إلهام العالم المتوسِّطي.[16] أما
العامل الثاني، فهو انقطاع الاتصال بين
الشرق والغرب. ويعود ذلك أساسًا إلى قطع "طريق
الحرير" المارة بفارس وانتشار القرصنة
البحرية التي قلَّصت إمكانيات السفر بحرًا.
وأما العامل الثالث، فهو إحياء تعاليم
أرسطوطاليس التي كرَّست منطق الثنائية
وشقَّت لنفسها دربًا عريضة بلغت ذروتها مع
مادية القرن التاسع عشر في الغرب ونظرته
الآلتية الجامدة إلى العالم mechanistic
world view.
فعلى الرغم أن أرسطو كان من تلامذة أفلاطون
فقد انشقَّ عن تعاليم معلِّمه، مشدِّدًا على
عالم الحسِّ، على التجربة المعتمدة على
الحواس وعلى النظرة التجزيئية إلى العالم.[17]
وبوسعنا أن نقتفي أثر نشوء العلم الوضعي،
التجريبي، صعودًا حتى تأثير المنطق الأرسطي
على مفكِّري القرون الوسطى، ولاسيما ابن رشد
وتوما الأكويني. ومع أننا لسنا هنا في صدد
إنكار أن هذا المنحى كان، بحدِّ ذاته، إغناءً
للثقافة الإنسانية، غير أنه جرى قطعًا على
حساب النظرة "المثالية" الأشمل إلى
الحياة والكون التي أخذ بها أفلاطون وغيره من
أصحاب الخبرة الرؤيوية الباطنية من فلاسفة
الإغريق. * كذا
فقد دخل الغرب دورًا احتجبتْ فيه الحكمةُ عن
أهله بنقاب سميك، وظل المجرى الرئيسي
للثقافة، حتى حلول الربع الأخير من القرن
التاسع عشر، منفصلاً عن التعليم الباطني
انفصالاً يكاد يكون تامًّا. ومع ذلك فقد ظل
هناك تنظيم حافظ بطرق سرية على شعلة هذا
التعليم من الانطفاء – ونعني به جماعة وردة
الصليب Rosa+Crucis
التي ألهمت تنظيمات وأفرادًا من
مختلف المشارب، كالكيميائيين الهرمسيين، والشعراء
الجوالين Troubadours،
وتنظيم "الأوفياء للمحبة" Fideli
d’Amore
(ومنهم دانتي)، والثيوصوفيين[18]
(بالمعنى الحصري للمصطلح). وحتى عندما أعيد
فتح الصلة مع الشرق لم تنفذ فلسفتُه الروحية
إلى الغرب كاملة على الفور لأن النزعة
الاستعمارية التي سادت الأمم الغربية ووهم
تفوُّق العرق الأبيض حالا دونه والانفتاح
الحقيقي على الكنوز الثقافية والروحية
الماثلة أمامه وأخذها على محمل الجد. لقد
كان الفلاسفة والمفكرون الألمان، أمثال
غوتِه وشوبنهاور وهيغل، من أوائل المتأثرين
في الغرب بالفلسفة الشرقية. وفي الولايات
المتحدة قام عدد من المفكرين المثاليين، في
أوائل القرن التاسع عشر، أمثال رالف و. إمرسون
والحركة "المتسامية" Transcendentalism،
بدراسة بعض نصوص الحكمة الشرقية وإدخال شيء
من روحها على الفكر والأدب الأمريكيين. إنما
لا مراء أن الفضل في لمِّ شتات خطوط التعليم
الباطني وحياكتها في نسيج واحد متَّسق،
يستطيع الإنسان المعاصر أن يفيد منه نظريًّا
وعمليًّا، يعود إلى السيدة الروسية هـ. ب.
بلافاتسكي[19]
وإلى الحركة الثيوصوفية التي أقلعت فعليًّا
بعيد تأسيس الجمعية الثيوصوفية في العام 1875
على يدها ويد مريدها الكولونيل الأمريكي
المتقاعد هـ. س. أولكوت[20]
ورهط من المهتمين بالدراسات الباطنية، نذكر
منهم بالأخص المحامي الشاب و. ك. دجدج،[21]
ذلك الثيوصوفي الألمعي الذي يعود إليه الفضل
في نمو الحركة الثيوصوفية وتنشيطها في
الولايات المتحدة.
هيلينا
ب.
بلافاتسكي
لقد
أعلنت السيدة بلافاتسكي مبادئ الحكمة
الإلهية في وقت كان الغرب
فيه غارقًا في مادية قاتلة؛ إذ كانت غالبية
العلماء حينئذٍ تنظر إلى العالم بوصفه
مكوَّنًا من ذرات دقيقة شبيهة بكرات لعبة
البلياردو من المادة "الصماء" غير
القابلة للانقسام والمرتبة ترتيبًا معينًا
لتركيب الأشكال البادية للحواس؛ وكان الكون
برمَّته في اعتقادهم عبارة عن صور متعددة
لتجلِّي المادة وأشبه ما يكون بساعة ضخمة تواصل دورانها
بمعزل عن أية فطنة توجِّهها. أما
الطاقة
التي تُمِدُّ البنى الحيوية بأسباب الحياة
فكانت في نظرهم نتاجًا للتفاعلات بين
مكوِّنات المادة نفسها؛ وأما ظهور الوعي فكان
يُعزى إلى الصدفة والاتفاق المحض ويُعتبَر
محصولاً ثانويًّا لتفاعلات المادة والطاقة
اللتين تتكوَّن منهما الأجسام؛ وبذلك كان
الفكر يُعَدُّ "مادة" يفرزها المخ على
نحو ما تفرز الكبد الصفراء!
إلى
جانب هذه النظرة
المادية الإوالية إلى الكون كانت ثمة نظرة
أخرى لا تقل عنها جمودًا، هي رؤية ضيقة
تبنَّتْها الكنائس التقليدية المتمسِّكة
بالحرف على حساب الروح، رؤية لا تتيح للإنسان
أية بارقة أمل
لشقِّ درب خلاصه بنفسه، وسبق لها أن حاربت
الحكمة بإعدامها عددًا من المتنوِّرين،
أمثال جيوردانو برونو، نظرًا لتنكُّرها
للخبرة الروحية الشاملة التي حقَّقها يسوع
وعلَّمها. وبالإضافة
إلى الفريقين السابقين – فريق العلماء
الماديين وفريق المتديِّنين التقليديين –
كان هناك فريق ثالث ظهر على الحلبة
الاجتماعية للغرب في النصف الأول من القرن
التاسع عشر، هو فريق "الأرواحيين" (من
"الأرواحية"، Spiritualism
بالإنكليزية أو spiritisme
بالفرنسية)، الذين نادوا بإمكان قيام اتصال
بين الأحياء و"أرواح" الموتى عن طريق "وسيط"
medium
والذين افتقرت آراؤهم الساذجة إلى أساس روحي
وفلسفي قائم على خبرة داخلية أصيلة، الأمر
الذي أدَّى بهم إلى التعرض لمخاطر شتى
وانحرافات خطيرة. وسط
هذه الجملة الاجتماعية الصعبة جاءت
الثيوصوفيا بأفكار ومفاهيم تؤلِّف بين العلم
والدين والفلسفة – أفكار تشير إلى وجود مخطط
كوني وغاية روحية من وراء وقائع العلم
الوضعي، وتضخُّ في الدين والفلسفة عمقًا
وفهمًا مستمَدَّين من الخبرة الداخلية،
وتثبت بطلان الأساس النظري الذي أقام عليه
الأرواحيون خبرتهم وتحذِّر من مخاطر
الممارسات الأرواحية على الصحة البدنية
والنفسية. * في
القرن التاسع عشر أيضاُ بلغ المدُّ
الاستعماري العسكري أوجه؛ إذ كانت الأمم
الغربية المستعمِرة مشبعة بوهم تفوُّق العرق
الأبيض وتستغل مستعمراتها بشريًّا
واقتصاديًّا أبشع استغلال، محوِّلة إياها
إلى سوق لتصريف الفائض من بضائعها، ماسخة
ثقافاتها العريقة بما لا يدع لوخز الضمير
مجالاً. فحتى العرقان النبيلان الصيني
والهندي لم ينجوا من هذه النظرة الاستعلائية
المخزية، مع عدم الاعتراف إلا بالنزر اليسير
من فضلهما على ثقافة العالم. في هذا الجو غير
الإنساني جهرت الثيوصوفيا بأول مبادئ
الفلسفة الباطنية: أخوَّة البشرية قاطبة،
ووحدة كلِّ العروق والأجناس في الروح
والإنسانية، ودأبت على تعريف الغرب
بالعقائد الفلسفية والروحية للشرق في محاولة
منها لإجلاء قيمهما المشتركة والمنسجمة
بعضها مع بعض نتيجة وحدة الحقيقة ووحدة
الإنسان.[22] *** مبادئ
الثيوصوفيا
أما
وقد عرضنا، في إيجاز شديد، لمسيرة الحركة
الثيوصوفية عبر العصور التاريخية، يجدر بنا
الآن أن نلخِّص، على شكل نقاط، المبادئ
العامة للثيوصوفيا، كما بسطتْها السيدة
بلافاتسكي في مؤلفاتها الغزيرة، ولاسيما في
موسوعتها الباطنية العقيدة السرية. 1.
الثيوصوفيا
هي الحكمة المتراكمة عبر العصور، بدون أن
يختص بها عصر دون عصر أو أمة دون أخرى. 2. هنالك مبدأ أصلي إلهي متجانس في ذاته، يصدر عنه العالم المنظور في فيض أبدي. هذا المبدأ تطلق عليه الثيوصوفيا اسم الكينونة Be-ness. 3. الكون المادي الذي نحيا فيه هو التجلِّي الدوري لحقيقة غير مادية، وهو حلقة ضمن سلسلة لامتناهية من الأكوان التي تظهر وتختفي في حركة مدٍّ وجزر من الدفق والانحسار أو الانطواء والانبساط. 4. الكون، بكلِّ ما فيه، عابر وزائل بالقياس إلى ديمومة المبدأ الأصلي. 5. كلُّ ما في الكون، عبر ممالكه قاطبة، واعٍ؛ أي أن وعيًا يسري في كلِّ مكوَّن من مكوَّناته يتناسب ومستواه من التفتح أو درجة إفصاحه عن المبدأ الأصلي. 6. يتشكَّل الكون ويوجَّه من الباطن إلى الظاهر، أو من الأعلى إلى الأدنى؛ وهو ليس حصيلة الصدفة العمياء، بل نتاج مبادئ داخلية قائدة تبطِّن تجلِّيه (بالمصطلح الحديث "ذاتي الانتظام" auto-organized). 7. نظام الطبيعة ككل يقيم الدليل على السببية والغائية معًا في التطور الطبيعي. 8. بين صور الحياة السارية في الكون علاقاتٌ متداخلة تداخلاً ديناميًّا حيًّا. 9.
يتماثل
كلُّ فرد، من حيث الماهية والجوهر، مع الكينونة
أو المبدأ الأصلي المطلق، وإن كان يمرُّ
عبر دورات متوالية من التجسُّد امتثالاً
لناموس كرما karma،
أو قانون السببية الكوني، باتجاه بلوغ
المزيد من تفتُّح الوعي. وإذا
توخينا المزيد من الوضوح في شرح كوسمولوجيا العقيدة
السرية شرحنا النقاط السابقة كما يلي: 1.
الكون
المتجلِّي متأصل في مبدأ صمداني، قيوم، أزلي،
مطلق (يطلق عليه الهندوس اسم بربرهمن Parabrahman)،
هو الأحدية المطلقة والحق الأسمى، لا
يتجلَّى أبدًا ويتعالى عن ملكات الفهم
البشري. 2.
الوعي
Consciousness
والطاقة Energy،
أو الروح Spirit
والمادة Matter،
حقيقتان مستقلتان من حيث الظاهر؛ لكنهما، من
حيث الباطن، وجهان للمطلق أو مظهران له؛
وهما أول تمايز عن المبدأ الأصلي وأساس فعل
التجلِّي الكوني. لقد
بات في مكنتنا الآن أن نتناول بالدراسة
المبادئ الثلاثة الكبرى التي تقوم عليها الفلسفة
الغيبية Occult
Philosophy،
وتنطوي عليها كلُّ تجلِّيات الحياة، وتشكل في
مآل الأمر الأساس المكين من كلِّ دين أو فلسفة
(بمعنى "محبة الحكمة" philo-sophia
حصرًا) وُجِدَتْ أو سوف توجد. وإن بوسعنا أن
نسميها بتكثيف شديد: 1.
الذات،
كحقيقة في الإنسان؛ و 2. القانون، بوصفه السيرورات التي يتطور عبرها الإنسان وسائر الموجودات شكلاً وروحًا؛ و 3.
التطور،
بما هو خطة الحياة في تصاعديَّتها من حيث
المعنى والغاية. تُعَدُّ
المبادئ الثلاثة المذكورة فرضيات مبدئية
وُضِعتْ لاستعمالها كركيزة
للتعمُّق
في فهم ثلاث من أهم المسائل الفلسفية الشاملة
– إن لم تكن أهمها على الإطلاق –، ألا وهي: 1.
ما
أصل الإنسان؟ وفي ضوء هذا الأصل، ما علاقته
الفعلية بالموجودات الأخرى وبالحياة ككل
عمومًا؟ ما هو المبدأ الأول، أصلِّ كل
الموجودات، وماذا بوسعنا أن نعرف عنه؟ 2. ما هي النواميس والسيرورات التي تنتظم التفاعل بين الكلِّ، أو الكون، والجزء، أو الإنسان، بين "العالم الصغير" Mikrokosmos و"العالم الأكبر" Makrokosmos؟ وهل "العدالة" حقيقة كونية؟ أم هي مجرد أُمنية غير متحققة من بنات أفكار الإنسان؟ 3.
هل
الإنسان الفرد خالد؟ وإذا كان كذلك فعلاً،
فما الميزان الذي يجب عليه أن يقيس به
اختبارات حياته؟ وما الغاية القصوى التي
تنطوي عليها الحياة بعامة، وحياة الإنسان
بخاصة؟ كلُّ
فلسفة، أو قُلْ كلُّ فلسفة دينية، إنما هي
محاولة للإجابة على هذه المسائل الملحَّة
والعويصة في آن؛ والأهم من ذلك أن أفكار المرء
وأفعاله تتأثر تأثُّرًا عميقًا، من حيث يدري
ومن حيث لا يدري، بآرائه ومعتقداته بخصوص هذه
المسائل عينها، سواء تبنَّى هذه الآراء
واعتنق هذه المعتقدات واعيًا أم غير واعٍ (كأن
تَرْسَخ في نفسه بتأثير المحيط الاجتماعي
والتقاليد السائدة فيه). وليس غرضنا من تبيان
ذلك التأكيدَ على وجوب لجوء كلِّ ذي لبٍّ إلى
استعمال مصطلحات فلسفية أو اعتناق مذهب فلسفي
معين، أو على أن مقدار وعيه لا يقاس إلا
بقدرته على طرح القضايا الجوهرية على النحو
المذكور حصرًا، إنما الإشارة إلى السؤال
المتصل مباشرة بالمبادئ الثلاثة المذكورة
الذي تطرحه علينا الحياة في كلِّ لحظة – وإن
كنا لا نلقي بالاً إليه إلا عند الألم الشديد:
"لم يصيبني ما يصيبني؟!" – ذلك أن الوعي
الشخصي للفرد، أو بالأحرى العاملَيْن
الرئيسيين المحدِّدين لتعامله مع نفسه ومع
العالم، هما ببساطة الفرح والترح، السعادة
والشقاء. ومع ذلك فإن الإنسان، في سعيه إلى
فهم الحالات التي يمرُّ بها (أو تمرُّ به!)
تناوبًا، وإلى التوصل إلى وسيلة للتحكم فيها،
بحاجة إلى منظور وتوجُّه جديدين كلَّ الجدة.
يومئذٍ يقف الإنسان على وصيد الأسئلة
الجوهرية الكبرى، تواقًا إلى العثور على
إجابات يستمد منها قاعدة للعمل من أجل بناء
هيكله الداخلي. * إن
هذه "المبادئ" حقائق كونية شاملة، وليست
قطعًا مجرد تصريحات نظرية صرف من بناء الفكر
وحده – وإن يكن للفكر دورُه الهام في عملية
البناء المذكورة. ومع ذلك يصعب على المرء أن
يوسِّع مجال رؤيته للحقيقة، في نفسه وفي
العالم ككل، قبل أن يشيِّد أولاً أساسًا
نظريًّا راسخًا. فالفلسفة، وإن لم تكن بحدِّ
ذاتها إلا وسيلة وتفقد قيمتها ومصداقيَّتها
ما لم تُطبَّق، فهي وسيلة لا تنفصل عن غايتها،
ألا وهي "العمل السليم"؛ والفكر الناضج
على نار الفلسفة، المهتدي بنور القلب، يدفع
بالتطور الإنساني قدمًا إلى الأمام. كذا فإن
الصياغة النظرية المُحكمة منطقيًّا للمبادئ
الكونية الكبرى تلعب دورًا لا يستهان به في
استيعاء هذه المبادئ؛ وبذلك يُترجَم "الفهم
السليم" إلى "عمل سليم".[25]
فكما تقول السيدة بلافاتسكي تعليقًا على بعض
ما جاء في كتابها العقيدة السرية: إن
قاعدة الباطنية برمتها تقوم، على ما يبدو،
على وجود قدرة كامنة في كلِّ إنسان بوسعها أن
تمنحه المعرفة الحق؛ هي قدرة على إدراك
الحقيقة تمكِّنه من التعامل مباشرة مع
الكلِّيات متى كان صارم المنطق وقادرًا على
مواجهة الحقائق. بذا يمكننا أن ننطلق من
الكلِّيات إلى الجزئيات بهذه القوة الروحية
الفطرية الموجودة في كلِّ إنسان. المبدأ
الأساسي الأول
هاكم
الآن المبدأ الأساسي الأول، كما ينص عليه
كتاب العقيدة السرية:[26] مبدأ
كلِّي الحضور، أزلي، غير محدود، سرمدي،
يستحيل تذهُّنه لأنه يتعالى عن ملكة التصوُّر
البشري وليس من شأن أيِّ تعبير أو تشبيه
بشريين إلا أن يقلِّصه. فهو يتخطى مجال الفكر
ومداه. هناك،
إذن، حقٌّ واحد مطلق، سابق على كلِّ موجود
متجلٍّ ومحدود؛ وهذه العلَّة اللانهائية
والأزلية هي الأصل الذي لا أصل له "لكلِّ
ما كان، وما هو كائن، وما سيكون أبدًا". لذا
تفضل السيدة بلافاتسكي أن تطلق عليه اسم الكينونة
Be-ness
(بالسنسكريتية
سَتْ Sat)
على "الكائن" being. يُرمَز
إلى هذه الكينونة في العقيدة السرية
بطريقتين: هنالك، من جهة، الفراغ المجرد
المطلق الذي يعجز أيُّ فكر بشري عن سبره أو
تكوين أيِّ تصور عنه أو تذهُّنه مجرَّدًا؛
وهنالك، من جهة أخرى، الحركة المجرَّدة
المطلقة ("المحرِّك الساكن" بحسب
تعبير أرسطو) التي تمثل الوعي الطليق غير
المحدود. عن
هذه الأحدية أو الكينونة المطلقة يحدث
أول تمايز (يدعى بـالواحدية في
العرفان الإسلامي) ينطوي على أول ثنائية، هي ثنائية
الروح والمادة (بوروشا purusha
وبركريتي prakriti
في المنقول الهندوسي) التي لا يعتبر علم
الباطن حدَّيها حقيقتين مستقلَّتين إحداهما
عن الأخرى، بل وجها المطلق Parabrahman،
أو مظهراه اللذان يشكِّلان معًا كلَّ كيان
مقيَّد، ذاتيًّا كان أم موضوعيًّا.[27] فكما
أن الفكرة ما قبل الكونية Pre-cosmic
Ideation
هي أصل كلِّ وعي فردي، كذلك فإن الجوهر ما
قبل الكوني Pre-cosmic
Substance هو
أصل المادة بكلِّ درجات تمايزها. يتضح مما
تقدم أن التضاد الظاهري بين مظهريْ المطلق
هو العلة الأولى للكون المتجلِّي: فلولا الجوهر
الكوني Cosmic Substance
لما كان بمقدور الفكرة الكونية Cosmic
Ideation
أن تتجلَّى كوعي فردي؛ إذ ليس للوعي أن ينبجس
لينغلق على نفسه، كما سنرى، إلا من خلال وعاء
أو قاعدة مادية ضرورية كبؤرة يتركز فيها
شعاعٌ من العقل الكلِّي على مستوى معيَّن من
التعقيد. ولولا الفكرة الكونية لظل الجوهر
الكوني تجريدًا خاويًا لا يهيِّئ لانبثاق
أيِّ وعي، كقشرة بيضة خالية من المحِّ والآح. من
الفكرة الكونية، أو الروح، وعيُنا؛ ومن
الجوهر الكوني، أو المادة، الأوعيةُ التي
ينثني فيها الوعي على ذاته، مباشِرًا رحلة
تفتحه عبر ممالك الكون طرَّا، وصولاً إلى
مرحلة الذات أو الوعي المنعكِس المدرِك
لذاته؛ بينما يعبِّر مبدأ فوهة Fohat،
في تجلِّياته العديدة، عن الصلة السرية بين
العقل والمادة، أو المبدأ الفاعل الذي
يُكَهْرِب كلَّ ذرة في الكون، باعثًا فيها
الحياة. تأسيسًا
على ما تقدَّم، يمكننا إيجاز تراتبية فعل
التجلِّي في أربع مراتب وجودية هي الآتية: 1.
الأحدية
المطلقة (بربرهمن الـفيدنتا Vedanta)
أو الحق الأحد (سَتْ Sat)؛ 2. الواحدية، أول تعيُّن للمطلق، أو الكلمة Logos اللاشخصي، أو "العلة الأولى"؛ 3. الروح–المادة، الحياة؛ "روح الكون"، ثنائية بوروشا–بركريتي، الكلمة الثاني؛ 4.
مَهَة
Mahat،
أو النفس الكلِّية؛ الجوهر الهيولاني
(كأصل للمادة وأساس لكلِّ العمليات
والسيرورات الذكية في الطبيعة) الذي يدعى
أحيانًا بـمَهابودِّهي Maha-Buddhi. الإنسان،
في قصوره عن تكوين أيِّ مفهوم بغير لغة
الظواهر المحسوسة، عاجز عن رفع النقاب الذي
يحجب عنه سرَّ الألوهة في سذاجته المطلقة:
وحدها الروح المنعتقة تستطيع أن تدرِك "طبيعة"
المصدر الذي عنه انبثقت وإليه ستُرجَع. أما
العقل (نوس Nous
عند
أفلاطون) – سيد مملكة المادة ومحرِّكها
والنَّفَس المحايث immanent
لكلِّ ذرة والباعث فيها الحياة، متجلِّيًا في
الإنسان وكامنًا في الحجر – فله مراتب مختلفة
من الحَوْل والقدرة.[28] * ما
من أمة أو شعب أو قبيلة بدائية، منذ فجر
البشرية حتى يومنا هذا، إلا وينطوي حتى
الجانب الظاهر من
معتقداته على وجود "علَّة أولى" من وراء
نواميس الطبيعة وخلود النفس (العليا). ولم
يستطع أيُّ معتقد بالٍ أو أية فلسفة زائفة أو
سلطة قاهرة، دينية أو زمنية، القضاء على هذا
الشعور الأصيل في الإنسان، الأمر الذي يجعلنا
نقطع بأنه إرث مشترك للإنسانية قاطبة. يعلِّمنا
المنقول الباطني بأن العلَّة الحقيقية
للوجود ككل تبقى مستترة أبدًا وعصيَّة على
العاقلة البشرية، وبأن أول تجلِّياتها هو
أكمل تجريد يستطيع الإنسان أن يتذهَّنه. لذا
نفترض أن هذه التجلِّيات هي علَّة الكون
المادي؛ منها تتفرع القدرات الثانوية التي
تعبَّد الإنسانُ لها وأسْلَسَ قياده بوصفها
"الإله" أو "الآلهة"، بما يتوافق مع
روح كلِّ عصر، بعد أن خلع عليها صورة شخصية هي
خلاصة مكثفة لاختباره لها[29]؛
إذ يتعذر تذهُّن شيء لا علَّة له؛ ومحاولة
القيام بذلك تبلغ بالفكر أقصى تخومه الممكنة
حتى فراغه التام من كلِّ الموضوعات: تلكم هي
الحال التي يبلغها الذهن أخيرًا عندما يحاول
أن يقتفي إلى الوراء سلسلة العلل والمعلولات.[30] "اللاهوت
سعة غير محدودة ولانهائية"، كما تقول حكمة
باطنية كثيرًا ما تورِدها السيدة بلافاتسكي
في كتاباتها؛ والوحدة القصوى المبطِّنة
لكلِّ جزء من أجزاء الطبيعة – من النجم إلى
ذرة المادة، ومن أعلى دْهِـيَـن تشوهَن Dhyan
Chohan
(كائن ملائكي من مرتبة رفيعة) إلى أصغر جرثومة
– إنما هي الناموس الأساسي الأوحد في علم
الباطن، سواء طُبِّق على العالم الروحاني، أو
العالم الذهني، أو العالم الجسماني. إن
تصورات الإنسان عن الألوهة تتطور بتطور فكره
وتفتُّحه. في ضوء هذا، يصح أن أنبل المُثُل
التي تلامسها الروح الدينية في تحليقها في
عصر ما قد تبدو باهتة أمام العقل الفلسفي لعصر
يليه؛ وقِسْ على ذلك نضج المُثُل التي يتخذها
الإنسان هاديةً له في حياته في مختلف مراحل
هذه الحياة. من هنا ضرورة المسارَرة Initiation
في مجال الخبرة الروحية. فتلك (إن توفَّر
للمسارَر الاستعداد والأهلية) هي العصمة
للمرء كيلا يسقط في شباك الوهم والتجريدات
الذهنية البحتة؛ وبدونها لا بدَّ أن يبقى
جناحا الفكر مهيضين للحؤول دون تحليق أعلى قد
يكون وبالاً على صاحبه. عندما
يصرِّح الثيوصوفيون بأن الله ليس موجودًا
لأنه عدم محض، لاشيء – أي لا-شيء No-thing
– فإنهم يكنُّون للاهوت إجلالاً وخشوعًا
أعظم بكثير ممَّن يشخِّصون الله، جاعلين إياه
ذَكَرًا ضخمًا، يغضب ويندم، يعاقب ويثيب. من
هنا، يتطلَّب تخطِّي التصورات التشخيصية عن
الألوهة اقتفاء أثر الكلمة (أو العقل الأول)
في كلِّ دين حتى أصله النهائي وماهيَّته
القصوى. والألوهة المثلَّثة العماء-الإله-الكون
Chaos-Theos-Kosmos
إنما هي الكل في الكل، وهي سلسلة أشفاع
الصفات كلِّها[31]؛
لذا يقال إنها ذكر وأنثى في آنٍ معًا، إيجاب
وسلب، نشر وطَيْ، نور وظلمة، إلخ. أما علَّة
العلل التي لا علَّة لها، "المجهول
الأسمى" (التعبير لطاغور)، فيجب على
الإنسان أن يُعِدَّ لها مقامًا ومذبحًا في
قدس أقداس نفسه، في القلب منه والسرِّ، وأن
تكون روحه هي الوسيط الأوحد بينه وبين الروح
الكلِّية، جاعلاً من أعماله الصالحة كهنة ومن
نواياه السيئة قرابين! المبدأ
الأساسي الثاني
تشدد
العقيدة السرية على أزلية الكون ككل،
باعتباره، كما أسلفنا، مجالاً شاسعًا لعوالم
لا عدَّ لها، تتجلَّى وتحتجب بغير انقطاع.
فالفرضية الثانية للعقيدة السرية إذن هي الشمولية
المطلقة لقانون الدورية، قانون المدِّ
والجزر أو الدفق والانحسار، الذي نشهده في
الطبيعة قاطبة؛ وإن تناوبًا، كتناوب النهار
والليل، أو تناوب الحياة والموت، أو تناوب
الصحو والنوم، لهو واقع مألوف وشامل، لا
يُستثنى منه شيءٌ على الإطلاق، الأمر الذي
يجعلنا نبصر فيه ناموسًا أساسيًّا من نواميس
الكون. بذا
ينجلي لبصيرتنا كمالُ المقايسة بين سيرورة
الطبيعة في الكون، من جهة، وفي الإنسان
الفرد، من جهة أخرى. فالإنسان، شأنه شأن
الكون، يحيا دورة من دورات حياته ثم يموت
بانتهاء أجَلِه. وتتحلَّل "مركبات"
الإنسان أو "المبادئ" المؤلِّفة لبنيانه
الباطن مع الوقت، فتستعمل الطبيعة "المواد"
التي كانت تشكِّلها لتشكيل مبادئ جديدة؛ وهذه
السيرورة عينها تتم في تحلُّل العوالم وإعادة
تشكيلها. القياس analogy،
إذن، هو أضمن هادٍ للباحث في مسعاه لفهم
التعاليم الباطنية، من حيث إن قانون ولادة
كلِّ ما في الكون ونموِّه وموته، من الشموس
حتى ديدان الأرض، قانون واحد؛ وهو لا يني يسير
بالكون إلى المزيد من الاكتمال، مع كلِّ ظهور
أو تجلٍّ جديد، ساريًا على كلِّ جرم من أجرام
الكون، صَغُر أم كَبُر. وحده
الحكيم المسارَر Initiate
يستطيع أن يكتنه الكمال المطلق الذي تبلغه
الموجودات لدى اختتام فترة عظمى من التجلِّي
الكوني، أو مَـهامَـنْـفَـنْـتَـرا Mahamanvantara،
مستريحة إبان الفترة التالية من الاحتجاب (بْـرَلَـيَـا
Pralaya).
بيد أن هذا الكمال، وإن يكن مطلقًا، فهو "مطلق
نسبيًّا" لأنه ينبغي، بدوره، أن يفسح
المجال للمزيد من الكمال المطلق، وفقًا
لمعيار أرقى من التَجَوْهُر، إبان الفترة
التالية من النشاط أو التجلِّي – مثلما أن
على الزهرة الكاملة أن تذوي مفسحة المجال
للثمرة الكاملة.[32] * تعلِّم
الحكمة قانونًا سرمديًّا دوريًّا في الطبيعة
والكون، لا يُستثنى من سلطانه أيُّ موجود،
على مراتب وجوده كافة. يدعى هذا القانون
بقانون كرما karma
أو قانون السببية الكونية.[33]
ولما كان التطور الروحي للإنسان الباطن
يشكِّل من علوم الغيب محورَها فإن السعي إلى
فهم سيرورة هذا التطور يتطلب من التوَّاق أن
يضع بعين اعتباره أمرين: أ.
الحياة
الواحدة الشاملة،
الموجودة بمعزل عن وجود المادة الكثيفة؛ و ب. العقول الفردية العليا التي تحرك التجلِّيات المتنوعة لذلك المبدأ الحيِّ الواحد. ذلك
أن الحياة وثيقة الصلة بالناموس الواحد –
ناموس كرما – الذي يحكم مراتب الوجود حتى
عالم الروح. ويشير هذا الناموس، من الوجهة
الظاهرية، إلى "الفعل"، أو بالأحرى إلى العلة
المنطوية على معلولها. إن
هذا الناموس لا يقدِّر شيئًا على أحد أو على
أيِّ شيء؛ فهو قائم منذ الأزل وفيه، ويُعتبَر خير
تصور عن الأزل. وبما أنه ليس ثَمَّ "فعل"
يكافئ الأزلية فأصح من قولنا إنه "يفعل"
قولُنا إنه "الفعل" بامتياز.[34]
الإنسان لا يعاقَب على خطاياه بل يعاقَب "بها"،
على حد قول كرِسْتمس هَمْفرِز، فرديًّا
وجماعيًّا (كما في حالة أمم بأسرها أحيانًا).
فالبشر هم الذين يولِّدون الأسباب التي
تحرِّض، بدورها، القوى الموافقة التي تنشدُّ
تلقائيًّا إلى مولِّديها وترتدُّ عليهم
فكرًا وعملاً. * وفي
محاولة لتقريب عمل ناموس كرما في
التجدُّدات الدورية للكون إلى فكر المتأمِّل
في أصل الإنسان والمغزى من وجوده، يجدر بنا أن
نلفت انتباهه إلى التطبيقات الباطنية
للدورات الكَرْمية (نسبة إلى كرما) على
الأخلاق بالمعنى الكوني. لقد عرَّف الفيلسوف
الهندي س. رادهاكرشنان بناموس كرما بوصفه
"قانون مصونية الطاقة الأخلاقية". وإننا
لنتساءل إن كانت للتقسيمات الغامضة التي
أسماها الإغريق "حلقات" و"دوائر"[35]
تطبيقات مباشرة على الحياة البشرية أو صلات
بها. إن العلم الظاهر يقرُّ بوجود أدوار خاصة
تنتظم السيرورات المادية؛ لكن ثمة أيضًا
أدوارًا خاصة بالتطور الروحي تنتظم حياة
الأعراق والأمم والأفراد. فهل للفلسفة
الباطنية أن تتيح لنا المزيد من فهم عمل هذه
الأدوار؟ إن
الأنية العليا Higher
Ego،
أو المبدأ المتجسِّد، هي التي تسود على الأنية
الدنيا Lower ego
وتحكمها عندما لا تحيِّد الثانيةُ المؤثراتِ
القادمةَ من الأولى بتأثير جمحاتها.
وباختصار، فإن الرباعي الأدنى المكوَّن من
"المركبات"[36]
المؤلِّفة لـلشخصية Personality
لا يعرقل الفردية Individuality
في سيرها الحثيث على درب تطورها الصاعد إلا
حينما تلدغ أنانيةُ الشخصية وأثرتُها
الإنسانَ الباطنَ بنابها المسموم لدغة تشلُّ
قواه، وبذلك تفقد قوةُ الجذب إلى أعلى كلَّ
سلطانها على الإنسان العاقل. وحدها
معرفة عقيدة التقمص reincarnation
المتكرر للفردية نفسها عمرًا بعد عمر، مع
الاستيقان أن على الجوهر الفرد أن يجتاز دورة
الضرورة Cycle of
Necessity،
مُثابًا بالتقمص على الألم الذي عاناه، أو
مُعاقَبًا على الألم الذي تسبَّب فيه، في
أعمار سابقة – نقول: وحدها معرفة هذه العقيدة
تعلِّل مسألة الخير والشر وتُصالِح الإنسان
مع ظلم الحياة الرهيب في ظاهره؛ إذ لا شيء إلا
اليقين الداخلي، القائم على المعرفة، بوسعه
أن يهدِّئ من روع إحساسنا المتمرد بالعدالة. إننا
نقف مذهولين أمام سرِّ صنعتنا وأحاجي الحياة
التي يُعجِزنا حلُّها، فنتَّهم "وحش طيبة"
الرهيب بافتراسنا، كما عبَّرت أسطورة أوديب.[37]
لكنْ ما من شيء حادث في حياتنا، وما من حظٍّ
عاثر إلا وبالوسع اقتفاء أثره حتى أفعالنا في
هذه الحياة أو في حياة سابقة. إذا خرق أحدهم
نواميس التناغم الكوني ترتَّب عليه أن يستعد
للوقوع أسير الفوضى التي تسبَّبَ في إحداثها. * ما
الكون إلا التجلِّي الدوري للمبدأ المطلق. ههنا سرُّ القاعدة
العيسوية الواردة في "الصلاة الربية":
"لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض."
والإنسان هو الشاهد الحيُّ على هذا الناموس
الشامل وعلى سيرورة فعله الكوني. فلا مراء أن
كلَّ حركة، أو إيماءة، إرادية أو تلقائية،
عضوية أو ذهنية، ناجمة عن إحساس أو
انفعال، عن إرادة أو مشيئة، عن تفكير
أو تعقُّل، أو مسبوقة بها. وكما أن كلَّ حركة
أو تغيير في الإنسان الظاهر لا يتم ما لم
يتحرَّض بباعث داخلي عبر واحدة من الوظائف
الثلاث المذكورة، كذلك الأمر مع الكون الظاهر
أو المتجلِّي. وكما أن كوكبنا يدور حول الشمس
مرة كلَّ سنة، وفي الوقت نفسه يدور حول نفسه
مرة كلَّ 24 ساعة، ويقطع بذلك أدوارًا صغرى ضمن
أدوار أكبر، كذلك تتم الفترات الدورية الصغرى
وتتعاقب. يشرف
على دوران العالم الجسماني، بحسب الحكمة
القديمة، دورانٌ مقايس في عالم الفكر – هو في
الواقع التطور الروحي للعالم الذي يتم، مثله
في ذلك كمثل التطور الجسماني، وفقًا لأدوار.
وبذلك نشهد في التاريخ تناوبًا متواصلاً بين
المدِّ والجزر في التقدم البشري. فكم من ممالك
وأمم، إذ بلغت أوج سؤددها، دالت دولتُها
وانحدرت إلى الحضيض امتثالاً للقانون عينه
الذي أوصلها إلى الذروة. والبشرية، متى بلغتْ
نهايتَها الحدية الدنيا، تعود لتنهض مجددًا
وترتقي، بحيث يكون العلوُّ الذي تبلغُه،
وفقًا لقانون التدرُّج الصاعد عبر الأدوار،
أرقى، نوعًا ما، من علوِّ النقطة التي سبق لها
أن انحدرت منها. بيد
أن هذه الأدوار لا تؤثر في البشرية كلِّها في
وقت واحد؛ إذ إن الدور الأول يشتمل على تدرُّج
البشرية منذ ظهور الإنسان الأول في صورته
الأثيرية، ويجري طوال الأدوار الصغرى لتطوره
التدريجي، من الأثيري نزولاً حتى نصف
الأثيري، فالجسماني الصرف، حتى الإفلات من
"القميص" المادي، والعودة بعدئذٍ
ومواصلة المسار نزولاً، فصعودًا من جديد حتى الملأ
الأعلى plêroma. * وعلى
المرتبة الإنسانية يرتبط قانون التقمص أو العَوْد
للتجسُّد بقانون كرما ارتباطًا لا
تنفصم عراه. وتتلخص عقيدة التقمص باكتساء
الفردية الإنسانية بسلسلة طويلة تكاد لا
تنتهي من الشخصيات، هي الأزياء والأدوار التي
"يتقمَّصها" الممثل ويتواحد معها، مثلما
يواحِده معها جمهورُ المشاهدين، مدة بضع
ساعات هي مدة استمرار المسرحية؛ أما الإنسان
الباطن الذي "يشخِّص" هذه الأدوار فهو
على علم تام أنه ليس هملت أو ياغو أو جولييت أو
الليدي مكبث إلا إبان هذه المدة وحسب، وأنه
والمبدأ المطلق واحد في صميم كيانه. المبدأ
الأساسي الثالث
كلُّ
ما في الكون، كما أشرنا، واعٍ؛ أي أنه مزود
بوعي من نوعه وعلى مستواه الخاص من التفتُّح.
فلا ننسينَّ، نحن البشر، أننا، وإن لم يكن
بمقدورنا بعد أن نبصر إرهاصات الوعي في الحجر
مثلاً، لا يحق لنا – ولا يليق بنا – أن نقول
إن الحجر خلو من الوعي. فكما أنه ليس في الكون
ثمة قانون "أعمى" أو "غير واعٍ"،
كذلك ليس فيه مادة "ميتة" أو "صمَّاء"؛
فهذه كلمات لا مكان لها في قاموس الفلسفة
الباطنية التي لا تكتفي بمظاهر السطح الخارجي
لأن الماهيَّات النومينية أشد واقعية،
في نظرها، من نظيراتها الجواهر الفينومينية. إن
نظام الطبيعة بأسره يتكشَّف عن مسيرة
متدرِّجة نحو حياة أرقى.
فهناك خطة مُحكمة تبطِّن فعل ما يبدو لنا في
الظاهر قوى عمياء؛ وما سيرورة التطور كلُّها،
في كلِّ مآتيها، إلا برهان على وجود عقل كوني
مدبِّر يفعل بواسطة نواميس سرمدية لا تُخرَق. يتجلَّى
الكون دوريًّا في سبيل غايات تتعلق بالتقدم
الجماعي الكلِّي لحيوات فردية لا حصر لها –
هي أنفاس من الحياة الواحدة وشرارات من النار
الكلِّية – كي تتمكن كلُّ ذرة من ذرات هذا
الكون اللانهائي، عبر الصيرورة الأبدية، من
الصعود مجددًا مع كلِّ "فترة عالمية"
جديدة، مارة من اللاشكلاني وغير المحسوس، عبر
الطبائع المتمازجة لنصف الأرضي، نزولاً حتى
المادة في تشكُّلها التام، ثم عائدة من جديد
إلى المصدر الذي أتت منه. والآخذون بالتقمُّص
وكرما، ناموسه التوأم، يدركون – وإنْ
إدراكًا مبهمًا – أن سرَّ الحياة كلَّه
قائم في السلسلة غير المنقطعة لتجلِّياتها،
إنْ في الأجسام أو بمعزل عنها. وتعلِّمنا
العقيدة السرية وحدة كلِّ النفوس مع النفس
الكلِّية، ورحلة الحج الإلزامية لكلِّ نفس،
عبر دورات التجسُّد، بما يتوافق مع القانون
الدوري والكَرْمي؛ وبعبارة أخرى، ما من نفس
يمكن أن يكون لها وجودٌ مستقل واعٍ قبل أن
يكون بمقدور الشرارة الصادرة عن النفس الكلية أ.
أن
تجتاز كافة الأشكال العنصرانية elemental
للعالم الفينوميني لهذا الـمَـنْـفَـنَـتَـرا؛
و ب. أن تحوز على فردية، بالدافع الطبيعي أولاً، ومن بعدُ بفضل جهودها الذاتية التحريض والذاتية التخطيط، المنظومة بـكرمـاها؛ وبذلك تتوقَّل درجات الذهن كافة، من العقل الأدنى، كاما مَنَس kama-manas، إلى العقل الأرفع، بودِّهي مَنَس buddhi-manas، من المعدني والنباتي، صعودًا حتى أرفع الملائكة. فالعقيدة
المحورية للفلسفة الباطنية، كما تقول السيدة
بلافاتسكي في العقيدة السرية، لا تُجيز
منحَ الإنسان امتيازاتٍ أو مواهب مجَّانية،
إلا ما حاز عليه منها بجهوده واستحقاقاته
طوال سلسلة طويلة من التقمصات. تعلِّمنا هذه
العقيدة أن على العقول الأولى، حتى تصير "آلهة"
كلِّية الوعي، إذا جاز التعبير، أن تمر
بالمرحلة البشرية[38]؛ ذلك أن على
كلِّ كيان أن يفوز بحق الألوهية بنفسه عبر
خبرته الذاتية. ما
من عالِم بالغيبيات إلا ويؤكد أن الإنسان، في
تشكُّله الجسماني، هو، بما لا يقل عن أيِّ
كائن أرضي آخر، أبسط نتاج للقوى التطورية
الطبيعية عبر سلسلة من التحولات لا حصر لها؛
لكنه يطرح المسألة طرحًا يختلف عن طرح
العالِم الوضعي لها، من حيث إنه يعلم أن العنصرانيات
elementals نصف العاقلة وغير العاقلة
الدنيا ستصير يومًا في عِداد البشر. وما
امتياز العاقلة البشرية بالفطنة إلا برهان
عالِم الغيب أن الإنسان حصَّل المعرفة
والفطنة عبر الدورة البشرية. ليس في الكون إلا
علم مطلق واحد بكلِّ شيء وعقل مطلق
واحد، لا يتجزأ، يسطع في كلِّ ذرة أو نقطة لا
متناهية الصغر من نقاط الكون، يدعوه الناس فراغًا
باعتباره بمعزل عن كلِّ ما يحتوي. قد يكون هذا
سرًّا مستعصيًا على فهم "البرَّاني"،
لكنه في الواقع حقيقة اختبارية في الفلسفة
الباطنية. * بذا
يتضح لنا وجود خطة تطورية مثلَّثة، أو
بالأحرى ثلاث خطط متمايزة للتطور في الطبيعة،
لكنها متداخلة في منظومتنا ومتمازجة تمازجًا
مُحكمًا في كلِّ نقطة من نقاط الفراغ، ألا وهي: أ.
التيار
المونادي
monadic
أو الروحاني؛ ب. التيار الذهني؛ ت. التيار الجسماني. وهذه
التيارات الثلاثة إنما هي المظاهر أو
الانعكاسات للحقِّ الواحد غير المحدود بحيث: أ.
يُعنى
التيار المونادي، كما يشير اسمُه، بنمو
الجوهر الفرد (= الموناد) وتفتُّحه، وصولاً
إلى مراتب وجودية أرقى فأرقى، بالاقتران مع –
ب.
التيار
الذهني الممثَّل بـ"واهبي الفطنة والوعي
للإنسان"، أو ما يُعرَف في المنقول
الهندوسي بـمَنَسا بوترا manasa-putra،
و – ت. التيار الجسماني الذي تَبَلْوَر من حوله الجسمُ الجُرْميُّ الراهن. وينهض
هذا الجسم الأخير بدور مركبة أو وعاء للنمو،
إذا جاز التعبير، وكذلك بالتحول بواسطة الذهن
(مَنَس manas)،
بفضل تراكم الخبرات، من المنتهي إلى
اللامنتهي، من العَرَض إلى الجوهر، من الفاني
إلى الأبدي. ولكلِّ منظومة من هذه المنظومات
ناموسُها؛ وكلٌّ منها ممثَّل في تكوين
الإنسان – وهو الكون الصغير الذي يلخِّص
الكون الكبير كما أسلفنا؛ وإن اجتماع هذه
التيارات التطورية الثلاثة الكبرى فيه هو ما
يجعله على ما هو عليه من تعقيد وإبداع صنعة. ليس
للطبيعة أو القدرة التطورية الجسمانية أن
تتمخض وحدها عن الذهن بغير مساعدة؛ فهي،
بمفردها، لا تستطيع أن تبدع إلا أشكالاً. لذا
فإن العقول الإلهية هي التي تملأ الفجوة،
ممثِّلة القوة التطورية للفطنة والعقل وصلة
الوصل بين "الروح" و"المادة". ففي
أثناء طفولة الذُرِّية البشرية الأولى،[39]
في بدء الدور البشري الحالي، تشكَّلتْ مركبةٌ
مهيأة وتامة لتجسُّد أهالي الأفلاك العليا
ممَّن اتخذوا تلك الأشكال، المولودة من
المشيئة الروحية والقدرة الإلهية الطبيعية
في الإنسان، مساكنَ لهم. في
البدايات الأولى لوجود الإنسان على كوكب
الأرض كان الذهن النفساني والجسماني هاجعًا،
وكان الوعي ما يزال غافيًا وغير نامٍ، وكانت
التصورات الروحية – بالتالي – غير متصلة
بالمحيط المادي، من حيث إن الإنسان الإلهي
كان مقيمًا في صورته الحيوانية (وإن كانت تبدو
بشرية من الخارج)؛ ومع أن هذا الإنسان كان
يتَّصف بالغرائز لم يكن أيُّ وعيٍ للذات ينير
الظلمة التي كانت تكتنف وجوده. وحين نفخ فيه
أربابُ العقل، امتثالاً لقانون التطور،
شرارة العقل، كان أول شعور استيقظ فيه
إحساسًا فطريًّا بالتواحد مع "خالقيه"
الروحيين؛ وكأول إحساس ينتاب الطفل نحو أمه
ومرضعته كذلك كان أول أشواق الوعي المستيقظ
لدى الإنسان البدائي نحو الذين كان يشعر
بعنصرهم ينمو فيه – على كونهم خارجه.[40] * تعتبر
الثيوصوفيا الإنسانيةَ صدورًا وفيضًا عن
حالة من "الألوهية" في طريقه إلى العودة
إلى المبدأ الذي صدر عنه. وفي شوط متقدم جدًّا
من درب التفتح الإنساني الطويل يبلغ المرء
مرتبة النطاسة Adeptship
التي لا يرقى إليها إلا من نَذَرَ عدة أعمار
متوالية لبلوغها.[41]
وقد يكون عدد الرجال والنساء ممَّن باشروا،
منذ عدة أعمار سابقة، النهوض بهذا العمل
الصعب، الرامي إلى تحقيق الإشراق الروحي
الأسمى، عددًا لا يستهان به؛ غير أنهم ما
يزالون، من جراء أوهام حياتهم الراهنة، إما
جاهلين بذلك أو في سبيلهم إلى تفويت كلِّ فرصة
متاحة لهم في حياتهم هذه لإحراز بعض التقدم.
فهم يشعرون بانجذاب لا يعانَد إلى علم الباطن
والسرَّانية وإلى الحياة العَلَيانية، لكنهم
من التمركز حول شخصياتهم ومن التعلق بالحياة
الدنيوية، بزيفها وأوهامها وملذَّاتها
الزائلة، بحيث يقفون عاجزين عن الزهد والفقر
الروحيين،[42]
وبذلك يضيعون على أنفسهم كلَّ فرصة في هذه
الحياة للتحول إلى حياة أجمل وأعمق. بيد أن
الموناد في كلِّ كائن بشري هي، بحدِّ ذاتها، فردية
روحية، واحدة، بما هي كذلك، مع الروح
الكلِّية، وعليها معقد كلِّ رجاء في الخلاص
والانعتاق.[43] هذا
وإن القلب الإنساني لم يفصح بعد عن مكنوناته
كلَّ الإفصاح، ومازلنا بعيدين كلَّ البعد عن
بلوغ أو حتى استشفاف مدى قدراته. أفكثير علينا
– والحالة هذه – أن نؤمن بأن في مكنة الإنسان
أن ينمِّي في نفسه إمكانات جديدة ويعقد علائق
أوثق وأنبل مع الطبيعة والكون – علائق قائمة
فعلاً، لكنه لا يلقي إليها بالاً؟ إن في جعبة
منطق التطور الكثير الكثير مما يمكن، لا بل
يجب أن نتعلَّمه، على أن نتابعه حتى تخومه
القصوى. وعندئذٍ لا بدَّ لنا أن نعرف، كشفًا
وإلهامًا، أن ثمة، عند نقطة معينة من الدرب
الصاعد، من المعدني والنباتي حتى أنبل البشر،
حيث تتفتح نفس موهوبة بالخصائص الذهنية،
ملكةً إدراكية عليا، يمثِّلها القلب،
تستيقظ في الإنسان وتمكِّنه من اكتناه أسرار
حقائق تتخطى مدى إدراكنا العادي. يبقى
أن الإحجام عن قبول أن في منظومتنا الشمسية
كائنات سوانا، عاقلة وقادرة على التفكير على
المرتبة الإنسانية، هو من قبيل العناد المحض.
فما لأحد أن ينكر سلفًا (وخصوصًا أن معطيات
العلم الحديث باتت تؤيِّد ذلك) إمكان وجود
عوالم ضمن عوالم في شروط مختلفة عن الشروط
التي تكوِّن طبيعة عالمنا؛ وما لأحد أن ينكر
علينا إمكان قيام اتصال بين هذه العوالم
وعالمنا الأدنى. خاتمة
وبعد،
فإن الثيوصوفيا تقول لنا إن درب الخير هو درب
الفلسفة – بمعنى حكمة الحياة والعمل – بما
ينطوي عليه ذلك من أثر مباشر على المواقف
الأخلاقية. فالمبدأ الأساسي الأول، بما هو
قاعدة الأخوَّة الشاملة، يشدِّد أن "الواحد
الذي ما له ثانٍ" موجود في كلِّ موجود، بما
يجعله قادرًا على تخطِّي أية درجة راهنة في
المعرفة أو أيِّ كمال نسبي في الحياة والسلوك.
ويقتضي ذلك أن حضور هذه "الذات العليا"
في كلِّ صورة إنسانية يعني أن بوسع كلِّ إنسان
أن يتخطى ذات يوم أيَّ معتقد ضيِّق أو أيَّ
مسلك شائن (بالمعايير الحالية) وأن يحقق
الخلاص والحرية الروحية. بينما
يقترح المبدأ الأساسي الثاني، في كشفه عن
شمولية الدورية في الكون، أن التناوب بين
المدِّ والجزر في نموِّ الأفراد يؤدي حتمًا
إلى تناوب بين الغشاوة والسطوع فيما يختص
بغايات الروح. فالإنسان ذو النزعة المخرِّبة
قد يكون مخرِّبًا الآن ولكن ليس إلى الأبد،
ولا بدَّ له، ذات يوم، من أن يبلغ أشدَّه
ويغدو قانونًا لنفسه، بمعنى أن يكون وحده
قادرًا على الإفصاح عن القدرات العليا
الكامنة فيه كلما أجازت له دورةُ حياته ذلك. أما
المبدأ الأساسي الثالث، أو "العقيدة
المحورية" في الفلسفة الباطنية، ففيه
تجتمع كلُّ المفاهيم المتفرعة عن المبدأين
الأول والثاني. فلما كان القصد من التطور هو
تفتح الفردية، وكانت الفردية لا تتفتح إلا
بمقدار ما يدرك المرء المغزى من تفاعله مع
الموجودات الأخرى، كان مصيرُ الإنسان يقتضي
بالضرورة الاشتغال بالفلسفة كمنهاج حياة.
والقصد التربوي من الحياة ليس منع الإنسان
نفسه من اقتراف "الشرِّ" فكرًا وعملاً،
كما يُظَنُّ عمومًا، بل بالحري فهم
مكوِّنات الخير والشر ورؤية الروابط التي تشد
مصير كلِّ "نفس" إلى مصائر النفوس الأخرى
في الخير والشرِّ جميعًا. كل
عقيدة سامية فهي نوع من المزاوجة بين "العرفان"
gnosis
وبين مستوى قدرة الإنسان على استيعائه. لذا لا
بدَّ أن يبلغ الإنسان شوطًا يتخطى فيه "حرف"
العقيدة بحدِّ ذاتها إلى الهدف الأوحد منها: معرفة
النفس. على هذا الأساس، ربما انطوت العقيدة
على حقائق نفسية وروحية قد تيسِّر للمرء حدس
هذه المعرفة الكلِّية وتحقيقها في باطنه. الحياة،
في المنظور الثيوصوفي، إنما هي مدرسة كبرى –
بل ما من مدرسة سواها. وهذا يحتِّم علينا بلوغ
شوط من التطور الداخلي نشعر فيه بوجوب فهم
المغزى من وجودنا، ونعي طبيعتنا الحق، ولا
ندَّخر وسعًا لاستعمال كافة السبل المتاحة
لنا، في كلِّ اتجاه وكلِّ حالة من حالات وعينا
(من صحو وحلم ونوم عميق إلخ) لمناغمة كياننا
بحيث نوقِّع عليه أدواتنا الدنيا لتصير
تعبيرًا كاملاً عن طبيعتنا الباطنة الكونية. لكن
عالمنا الأرضي صعب، من حيث إنه أدنى عوالم السلسلة
الكوكبية Planetary
Chain (المؤلَّفة
من سبعة أجرام) وأغلظها: إنه عالم الثنائية
والصراع والتغير الذي يعسر فيه إدراك الوحدة
المبطِّنة للكثرة والتعدد اللانهائيين. لذا
فإن درب المعرفة فيه ليس بالدرب الممهَّد بل
هو درب "مفروش بالشوك والحصى المسننة، وعلى
سالكه أن يدمى عقله وقلبه قبل أن تدمى يداه
ورجلاه" (ميخائيل نعيمه، نجوى الغروب). بيد
أن لنا رجاء في النور الخفي الساطع في كلِّ
شيء، وفي الروح المستتر في باطن كلِّ شيء، وفي
الحياة التي لا تهَب لنا كلَّ ساعة أقل من
ذاتها... ولنا،
قبل كلِّ شيء، وفي كلِّ شيء، وبعد كلِّ شيء،
الحق الذي نحن منه، وبه، وفيه، وإليه، والذي
"لا دين أعلى منه"، وبه وحده نستهدي إليه. ***
*** *** [1]
هذا المصطلح مرادف في الأدبيات
الثيوصوفية لمصطلحات أخرى من نحو "الثيوصوفيا"
و"الحكمة الخالدة" و"الفلسفة
الباطنية" إلخ، ويجب ألا يلتبس بعنوان
موسوعة السيدة بلافاتسكي الباطنية العقيدة
السرية، على الرغم من أن هذه الأخيرة عرض
للمبادئ الأساسية للفلسفة الباطنية. [2]
كلمة ثيوصوفيا مشتقة من
الكلمتين اليونانيتين ثيوس theos
التي تعني "إله" وصوفيا sophia
التي تعني "حكمة"؛ فالكلمة بمجملها
تعني "حكمة الآلهة" أو "الحكمة
الإلهية". راجع: هـ. ب. بلافاتسكي، مفتاح
الثيوصوفيا، الفصل الأول، معابر،
الإصدار الثاني، باب "كتب وقراءات". [3]
لقد استشف الباحث فراس السواح
هذه الحقيقة بعد دراسته لميثولوجيا
الشعوب، متوصلاً إلى نتيجة مشابهة، فكتب
مشدِّدًا على وحدة التجربة الروحية
الإنسانية عبر الزمان واختلاف المكان:
"[...] إن كلَّ دين أو نظام ميثولوجي ليس
إلا قطعة ملونة صغيرة في فسيفساء بديعة
زاخرة بالأجزاء التي تبدو مستقلة عن قرب،
متوحِّدة عن بعد، في نظام متكامل يعطي معنى
لكلٍّ من أجزائه، ويستمد معناه من هذه
الأجزاء ذاتها [...]." (فراس السواح، لغز
عشتار، سومر، نيقوسيا، 1985، ص 10) [4]
يمكننا اكتناه هذه الحقيقة في
بيت الحسين بن منصور الحلاج: تفكَّرتُ
في الأديان جدَّ محقِّق * فألفيتُها أصلاً
له شعبٌ جمَّا [5]
لذا يدعى بالسنسكريتية غُبْتا
فِديا gupta-vidya،
أو "المعرفة المستورة". [6]
لما كانت الشعلة الإلهية في
الإنسان، أو ذاته العميقة (أتما atma)،
واحدة من حيث الجوهر مع برهمن، أو
الكينونة، فإن "العلم الإلهي" أو
الثيوصوفيا يدعى أحيانًا بـأتما فِدْيا atma-vidya
أي "معرفة الذات". [7]
William Q. Judge, The Ocean of Theosophy,
The Theosophy Company, Los Angeles, 1987, p. 1. [8]
يقول الفيلسوف الثيوصوفي ندره
اليازجي: "... العلم الروحي يشير إلى أن
المعرفة السامية والوعي الصافي لا يتحققان
إلا بالطرق الروحية التي تتجاوز كلَّ تجربة
حسية – تلك الطرق التي عرفها حكماء الماضي
وتوصلوا بها إلى معرفة أسرار الكون والحياة
والإنسان." (المادة والروح: تأليف جديد،
دار الغربال، دمشق 1978، ص 8) [9]
راجع تداعياتنا في "الهند:
موطن الروح" في جزأين (معابر،
الإصداران السابع والتاسع، باب "منقولات
روحية") للوقوف على بعض ملامح تعاليم
كلٍّ من شنكرا (الـأدفيتافيدنتا)
وبتنجلي (الـراجايوغا) والبوذا غوتاما (مؤسِّس
البوذية التاريخي). [10]
في
أماكن سرية من هضبة التيبت – "سقف العالم"
– وجبال الهملايا ما تزال الأخوية
البيضاء التي تضم السادة الحكماء
المشرفين على تطور الجنس البشري تنتظر
الأوان المناسب لكي تُطلِع عددًا من
التلامذة المختارين على نصوص من أقدم نصوص
الحكمة المدوَّنة في العالم – تلك الحكمة
الأزلية التي أنيطت بالسيدة بلافاتسكي
إزاحةُ طرف الحجاب عنها عندما ارتأى أولئك
"الأشقاء الكبار" أن عددًا من الناس
بات مستعدًّا لاقتبالها. [11]
الغايات التي تنادي الحركة
الثيوصوفية المعاصرة بتحقيقها هي: أ. تشكيل
نواة للأخوَّة الإنسانية الشاملة دونما
تمييز بين عرق أو مذهب أو جنس أو طائفة أو
لون؛ ب. الدراسة المقارنة بين الأديان
والفلسفات والعلوم، قديمها وحديثها؛ ج.
استقصاء قوانين الطبيعة غير المفسَّرة
والقدرات الكامنة في الإنسان. [12]
راجع: حسين عمر حمادة، مخطوطات
البحر الميت، منارات، عمَّان 1982، ص 45 و47
وما بعدها. [13]
أنظر مثلاً: إنجيل متى 13: 10-15
وإنجيل مرقس 4: 33 و34. هناك ثلاثة أسباب
رئيسية تستوجب ستر الجانب الباطن من الدين:
أ. للكون وجهان: ظاهر وباطن؛ فإذا كان
الإنسان صورة كونية مختصرة، اقتضت دراسة
بنيانه وجود شقين للدراسة: الأول ظاهر
مكشوف والثاني باطن مستور. ب. وجوب التدرُّج
في تلقين التعاليم بما يتوافق مع التفاوت
في النضج الداخلي للمريدين؛ إذ لما كان علم
الباطن علمًا عمليًّا يضع الإنسان في تماس
مباشر مع طاقات الكون المذهلة فلا بدَّ
للمريد من أن يكون مستعدًّا للدخول في هذا
التماس دون أن يجازف بسلامة جهازه العصبي
أو حتى بسلامة مبدئه الذهني. ج. وجود تعاليم
تتناول البنيان الباطن للطبيعة وتفسِّر
نواميسها الغامضة التي تزوِّد عارفَها
بالقدرة على السيطرة على طاقات طبيعية
وكونية شتى، وتمكِّنه من توجيه هذه الطاقات
نحو غايات محدَّدة؛ من هنا ضرورة أن يكون
المريد نقي القلب، زاهدًا في منفعته
الخاصة، يتورع عن استخدام معرفته لمآرب
أنانية. في ضوء ما تقدم يتضح معنى حديث نبي
الإسلام: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم"،
وقول يسوع القاسي: "لا تعطوا الكلاب ما هو
مقدس، ولا تلقوا لؤلؤكم إلى الخنازير، لئلا
تدوسه بأرجلها، ثم ترتدَّ إليكم فتمزِّقكم."
(إنجيل متى 7: 6) [14]
راجع نصَّ ترجمتنا له في الإصدار الرابع من معابر،
باب "منقولات روحية". [15]
مما يؤسف له أن الكنوز الروحية
التي ينطوي عليها ما وصلنا من مصنفاتهم
مازال ينتظر التعمق في دراسته في ضوء مبادئ
"دين الحكمة" أو "الحكمة الخالدة"
(على حدِّ اصطلاح ابن مسكويه). [16]
يروي بعض المؤرخين أن الفاتحين المسلمين
أجهزوا على ما تبقَّى من مجلدات المكتبة
لدى دخولهم مصر بقيادة عمرو بن العاص، لكن
ليس من شيء ثابت في هذا الصدد. [17]
على الرغم من قوله بأنه "لا
علم إلا بالكلِّيات"! [18]
نذكر منهم يعقوب بوهْمِه (1575-1624)
وعمانوئيل سويدنبرغ (1688-1772) ومن نحا نحوهما. [19]
ولدت هـ. ب. بلافاتسكي في العام
1831 سليلة أسرة روسية شريفة. تمتعت منذ الصغر
بقدرات استثنائية باهرة، من سرعة تعلم
للغات وموهبة موسيقية لا يستهان بها إلى
حساسية نفسانية فائقة. اتصلت بالأخوية
البيضاء الكبرى وقامت برحلات بعيدة في
العالم مفتشة عن المعرفة الروحية، حتى بلغت
معتزَل معلِّمها وأفراد آخرين من الأخوية
الكبرى في الهملايا حيث سورِرَت بمعرفة
غزيرة وصارت مقدَّمة الأخوية المتفانية في
نقل جانب من تلك المعرفة، سواء عبر
مؤلفاتها المكتوبة، مثل إيزيس سافر والعقيدة
السرية ومفتاح الثيوصوفيا وصوت
الصمت ومئات المقالات، أو عبر التعليم
الشفهي للمريدين الذين تحلقوا من حولها.
انتقلت من هذا العالم في العام 1891. [20]
يعود لقاء الكولونيل أولكوت مع
السيدة بلافاتسكي إلى في العام 1874 يوم كان
يحقق لصالح إحدى الصحف في ظواهر الشقيقتين
إدِّي Eddy
الأرواحية. ومنذئذٍ طفقت السيدة
بلافاتسكي، بعد أن أصبحا صديقين متآخيين،
تلقِّنه مبادئ التعليم الباطني، وعقدت صلة
بينه وبين سادة الحكمة الذين كانوا خططوا
منذ وقت طويل لكي يعاونهم في تأسيس الجمعية
الثيوصوفية (عام 1875) التي كرَّس لها بعدئذٍ
كلَّ وقته ومواهبه. [21]
ولد و. ك. دجدج (1851-1896) في دبلن (إرلندة)،
وهاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة وهو بعد
فتى صغير. أصبح مواطنًا أمريكيًّا في العام
1872 وقُبِل في محكمة الدولة في قضاء نيويورك
في العام 1874. تأسست في العام 1886 الشعبةُ
الأمريكية للجمعية الثيوصوفية برئاسته.
انتُخبَ في العام 1888 نائبًا لأولكوت في
رئاسة الجمعية. تشي مقالاته (التي جُمِع
بعضها في كتب) بخبرة روحية ذات مستوى مرتقٍ
وبفهم عميق وأصيل للتعليم الباطني استطاع
أن يعبِّر عنه بلغة بسيطة للغاية. يُعتبَر
كتابه محيط الثيوصوفيا من أحسن
المقدمات لدراسة العقيدة السرية. [22]
مع أن المفكِّرين جميعًا، على
اختلاف مشاربهم، ليسوا في مآل الأمر إلا
أبناء عصرهم وبيئتهم، ومع أن الفكر البشري
بنيانٌ متطاول بمرور الزمن، فإن الإنسان،
من حيث هو "صورة إلهية"، واحد. لذا فإن
كلَّ مفكر مخلص وباحث أصيل في أسرار
الطبيعة والحياة، ماديًّا كان (أي واجدًا
في المادة "موعد كلِّ الحياة الأرضية
وقوَّتها") أم روحانيًّا (أي مكتشفًا في
الروح أصل كلِّ طاقة وكلِّ مادة أيضًا)، هو
ثيوصوفي بمعنى ما. إن محبة الحقيقة لوجه
الحقيقة تنطوي ضمنًا على محبة الخير؛ وهذه
المحبة، في هيمنتها على رغبات الإنسان
كافة، وتطهيرها، وإيقادها فيها لهب التوق
إلى القدسي، تسمو بالإنسان في مآل الأمر
إلى معرفة الألوهة والوصال معها: التوق إلى
هذه المعرفة هو جوهر كلِّ فلسفة (= محبة
للحكمة) أصيلة، وهو الصفة التي تميِّز
الفيلسوف الحقيقي عن "محترف" الفلسفة. [23]
راجع مؤلَّفنا الصغير مقالة في
التقمص، سلسلة الحكمة 2، ولاسيما ص 63-65. [24]
راجع مقالة في التقمص،
ولاسيما ص 22-25، 31-33، 39-42، 93-111. [25]
"الفهم السليم" و"العمل السليم"
من شُعَب الطريق المثمَّن المؤدي إلى
الخلاص من الألم في البوذية. راجع أيضًا:
"الهند: موطن الروح"، الفقرة المتعلقة
بالبوذية. [26]
هاكم أيضًا مقتطفات من كتاب مفتاح
الثيوصوفيا للسيدة بلافاتسكي – وهو عرض
مبسَّط للمبادئ الأساسية للحكمة القديمة
على شكل حوار شائق بين "سائل" و"ثيوصوفي": "إن
ثلاثتهم [الله والنفس والإنسان] من حيث
الأصل والأزلية، مثلهم كمثل الكون وكلِّ ما
فيه، واحد مع الوحدة المطلقة أو الجوهر
الإلهي الذي لا يرقى إليه علم [...]. نحن لا
نعتقد بأيِّ خلق، إنما بالظهورات الدورية
المتوالية للكون، من المرتبة الذاتية
للوجود حتى المرتبة الموضوعية، في فواصل
زمنية منتظمة تشغل فترات شاسعة من الزمان.
[...] "هبنا مسلَّمتنا
بأن الله مبدأ كلِّي السريان ولانهائي، كيف
يكون للإنسان وحده ألا يكون متشربًا
للاهوت، قائمًا به وفيه؟ [...] "نحن ندعو "أبانا
الذي في السموات" ذلك الجوهر اللاهوتي
الذي نتعرَّفه فينا وفي قلبنا وفي وعينا
الروحي والذي لا يمتُّ إلى التصور المشبِّه
الذي قد نشكِّله في دماغنا الجسماني أو في
شطحاته. [...] إن لاهوتنا ليس في
فردوس ولا في شجرة، لا في جبل ولا في مبنى
خاص: إنما هو في كلِّ مكان، في كلِّ ذرة من
ذرات الكون، منظوره وغير منظوره، فوق وحول
وفي كلِّ ذرة وكلِّ جزيء مرئيين [...]. إنه
القدرة السرية للتطور وللانغلاق، والكمون
المبدع الحاضر والقدير والعليم أيضًا." [27]
المرتبة "الذاتية"،
بالمصطلح الثيوصوفي، تشير إلى العالم غير
المنظور بمختلف مستوياته، والمرتبة "الموضوعية"
هي العالم المنظور؛ يقابلهما في العقيدة
الإسلامية مصطلحا "عالم الغيب" و"عالم
الشهادة"، على التوالي. [28]
هذه الفكرة عن "نفس"
تتخلَّل الطبيعة بأسرها من أقدم المفاهيم
الدينية التي مازالت بقاياها ماثلة في
المعتقدات الشعبية الأحيائية animistic
السائدة إلى يومنا هذا لدى بعض الأقوام:
إنها أقدم خبرة دينية عرفها الإنسان، وهي
الأساس الأول لمفهوم محايثة الألوهة
للعالم immanence. [29]
من هنا على كل معتقِد بـ"إله
شخصي" مفارق ألا ينسى أن كلَّ إنسان إله
"بالقوة"، وقبس صاف من نور المطلق،
وشعاع سماوي صادر عن المبدأ الأول، وأن
يُبقي في ذهنه أن "إلهه"، بالتالي، في
الداخل أيضًا وليس في الخارج وحسب! [30]
يقفز الدين والعلم إلى هذه
الحالة قفزًا بـ"حرق المراحل"، فلا
يفهمانها، فتبقى في نظر الفكر تجريدًا
ذهنيًّا بحتًا لا يمتُّ إلى التحقُّق
الروحي بصلة. [31]
"إن الله لا يُعرَف إلا بالجمع
بين الأضداد." (أبو سعيد الخراز) [32]
إن فكرة أن بمستطاع الأشياء أن
تنعدم وتبقى مع ذلك موجودة فكرةٌ أساسية
في مبادئ الحكمة؛ إذ تختبئ تحت هذا التناقض
الظاهري بين مدلولي لفظتي الوجود existentia
والكينونة esse
حقيقة كونية كبرى. فمثلما أن الهيدروجين
والأوكسجين ينعدمان لدى اجتماعهما لتركيب
الماء، ويبقيان مع ذلك موجودين، لكنْ في
حالة أرقى من حالة وجودهما الغازي، كذلك
حال الكون عندما "يهجع" أو ينعدم قبل
أن يصحو ويعاود الظهور. [33]
كرما كلمة
سنسكريتية مشتقة من جذر كْرِ kri
الذي يعني "الفعل". راجع: ديمتري
أفييرينوس، مقالة في التقمص، سلسلة
الحكمة 2. [34]
إنه، على سبيل المثال، ليس
الموجة التي تُغرِق أحدهم بل هو الفعل
الشخصي لذلك المسكين الذي وضع نفسه عامِدًا
تحت الفعل اللاشخصي للقوانين التي تنتظم
حركة البحر. [35]
تقابلها
الـيوغا yuga
والـكَـلْـبا kalpa
في العقائد الهندوسية، و"الأدوار" و"الأكوار"
في العرفان الإسلامي. فيما يخص بمبدأ
الدورية في الطبيعة والكون راجع: مقالة في
التقمص، ص 25-27. [36]
"المركبات" أو "المبادئ"
المكوِّنة للشخصية Personality
هي البدن، والجسم النجمي astral
body،
والمبدأ الحيوي prana
المتخلِّل لها جميعًا، والجسم الرغائبي
kama-rupa؛
بينما المبادئ المؤلِّفة للفردية Individuality
هي الذهن manas
بشقَّيه: الفكر (الأقرب إلى طبيعة الشخصية)
والعقل (الأقرب إلى طبيعة الفردية)، والعقل
الأرفع buddhi
والروح atma.
يؤلف مجموع العقل الأرفع والروح atma-buddhi
ما يُعرَف بـالجوهر الفرد Monad،
ويصل بين الفردية والشخصية جسرُ أو "برزخ"
من المادة الذهنية يُسمى أنتسكارنا antaskarana. [37]
جواب
الأحجية التي يطرحها الوحش على أوديب هو
الإنسان؛ فالإنسان هو الكائن الذي
تَحْسُنُ العودة إليه لفهم كلِّ أسرار
الكون وقوانينه لأنه ينطوي عليها جميعا: وتحسب
أنك جرمُ صغيرٌ * وفيك انطوى العالم الأكبر [38]
صفة "بشرية" هذه لا تنطبق
مبدئيًّا إلا على البشرية الأرضية وحسب؛
إنما يمكن، مجازًا، توسيع مدلولها ليشمل
الكائنات التي مرت بالحالة البشرية في أيِّ
عالم كانت تقيم، بمن فيها العقول التي بلغت
التوازن الدقيق الضروري بين المادة والروح. [39]
راجع: جهاد الياس الشيخ، "دراسات
ثيوصوفية 2"، معابر، الإصدار العاشر،
باب "منقولات روحية". [40]
من ذلك الشعور وُلِد الوفاء الذي
غدا المحرِّك الأول والأهم في طبيعته، من
حيث إنه الشعور الطبيعي الأوحد في قلب
الإنسان – الشعور الذي جُبِل عليه والذي
يشترك فيه الطفلُ مع صغار الحيوان. [41]
لا يغيبنَّ لنا عن بال أن الوصول
إلى هذه المنزلة لا يتم بين ليلة وضحاها وأن
أعمارًا عديدة ضرورية لذلك حالما تُستوعى
الغاية المرجوَّة ويُضطَّلع، من بعدُ،
بالتدريبات الشاقة التي لا مندوحة عنها
لبلوغها. [42]
ليس المقصود بالزهد والفقر نبذ
المادة والاعتكاف في برج عاجي بمنأى عن
العالم، بل تحويل ملذات الحسِّ، عن طريق
الاعتدال، إلى متع روحية. ترقَّبْ بحث "اليوغا:
الانعتاق والاتحاد"، فقرة "اليوغا
وغبطة الوجود" الموضوع في خطة نشر معابر. [43]
اللهم إلا إذا كسر الانحطاطُ
الخُلُقي الأقصى صلة الوصل بينها وبين
المبادئ الدنيا التي تفلت حينئذٍ من عقالها
وتنطلق هائمة "على غير هدى على الدرب
القمري"، بحسب التعبير الباطني.
|
|
|