|
آلهة الأولمب جزء 2 غسان
بركات
محاكمة
هيرا
" أنا الملك والتميز" كانت
هيرا تجلس على عرشها الذهبي بجانب زوجها زيوس
.فلما استمعت إلى آيو نظرت إلى زوجها نظرة
استهجان . فأشار لها أن ليس بإمكانها الرفض .
هنا نزلت هيرا عن كرسي عرشها ووقفت أمام آيو . قالت
آيو لهيرا : هل تسمحين أيتها الآلهة الجليلة
أن تشرحي أمام مجمع الآلهة سبب قسوتك عليّ ؟.
وأي جرمٍ أو إثمٍ ارتكبته بحقكِ دفعكِ لإرسال
آفةٍ كبيرة مزقت لي جسدي وأرغمتني على أن أطوف
العالم بأقاصيه , عابرة بحاره وأنهاره هاربةً
من أمام آفتكِ اللعينة , حتى وصلت بلداناً لم
تطأها قدم إنسان , وقد نزف دمي وغطى تربة
وصخور العالم , وامتزج بمياه بحاره وأنهاره
فكدرها . أي قسوةٍ وأي قلبٍ صخري تملكين ؟. وأضافت
آيو قائلةً : أنا لست ضحيتكِ الوحيدة , فكل آلام ومكائد الكون لكِ نصيبٌ فيها , وأنا أتساءل ما الفرق
بينكِ وبين التنين تيفون أو أفعوان ليرنا . لقد
مارستِ قسوتكِ و جبروتكِ تحت أنظار زيوس
عندما سلطتِ تنينكِ بيفون على والدة إله
النور لاتونا فراحت المسكينة تضرب الأرض
وتعبر البحار هاربةً منه . ولم
تعفي حتى الأطفال من شروركِ فقد سلطتِ الوحوش والأفاعي عليهم وهم في المهد . ولم
ينفذ ايضاً زيوس من شروركِ فقد سلطتِ عليه آلهة النوم وآلهة الخداع فكتبتِ على هرقل المكافح أشد
أنواع العبودية والألم .؟ وأنا أعجب من زيوس
الذي علقكِ بين السماء والأرض وربط بقدميكِ
سندان ثقيل , أعجب منه ,لمَ لم يقتلكِ ويريح
السماء والأرض من دسائسكِ ومكائدكِ ومصائبكِ
. ابتسمت هيرا وقالت : لقد نسيتي أيتها
المباركة المجيدة أن أمي آلهة الممكنات قد
أنبتت لي شجرة التفاح الذهبية وقدمتها لي
هدية . ولابد لكِ أن تتساءلي طالما أني
أملك كل ما أملك ,لمَ أعادي كل من
يقاسمني ملكي لزيوس ! هزت كلمات هيرا مجمع الآلهة فاضطرب . أما
زيوس فقد قطب جبينه منذراً بغضبٍ رهيب . لكن
هيرا تابعت بصوتٍ عالٍ وثقةٍ كبيرة : أجل أنا
أملك كل شيء وأملككم أنتم أيضاً !. أليست شجرة
التفاح الذهبية ملكي ؟. ألم يقل لكم الحكيم
بوسيدون أن التفاحة الذهبية هي تجلي الصفة
الإلهية في الكائن الواعي ؟. هل يوجد تجلي دون
"أنا" ؟. وأكدت
هيرا بصوتٍ عالٍ : إنني أنا "أنا التميز"
وجوهري هو جوهر جميع الآلهة . بدوني لا يوجد
أول ولا آخر ولا ظاهر ولا باطن , ومن جوهري يأتي العالم
إلى حيز الوجود . قهقهت آيو بصوتٍ عالٍ وقالت : أي عالمٍ
سامٍ له جوهر هذه اللئيمة . اشتعلت نار الغضب في قلب هيرا لكنها بذلت
جهدها لكتم غيظها وقالت : ليس الذنب ذنبكِ
لتقولي ما قلته . لكنه ذنب العلم الذي يُستخدم
للقهر والغطرسة بدل استخدامه كأداة استقراء
واستدلال لمعرفة الحقيقة . وخاطبت
هيرا الآلهة قائلة : إن الكون محكوم فيزيائياً
بمبدأين هما التشريد الكهربائي والحركة . إن
التشريد الكهربائي ناجم عن عدم التوازن بين
الشوارد الموجبة والشوارد السالبة في المادة
. هذا التشريد يخلق حقولاً كهرومغناطيسية .
فإذا ما خضعت هذه الحقول للحركة ولّدت حقولاً
في المواد الأخرى تساويها بالمقدار وتعاكسها
بالاتجاه . ثم
يقوم الحقل المتوّلد بتوليد حقل آخر يساويه
بالمقدار ويعاكسه بالاتجاه . وهكذا تتكاثر
الحقول وتتعاكس الاتجاهات لتنشأ المادة
وتتمظهر أمام أعيننا وفق موضوعات غايتها
تحفيز الذات , لمعاينة ذاتها ودفع وعيها
للتطور . وهذا
هو أنا . دائماً أشعل نار التناقض وأثير الشك
والجدل لتستيقظ النفس من الخمول والكسل ,
فادفعها عنوة لارتياد الدرب الكارمي كي تتطهر
وتستيقظ انوار الصفات الإلهية الكامنة
بها . نظرت هيرا بآيو وقالت : لولا تناقضي معكِ
ولولا آلامكِ ومعاناتكِ لما جاء إلى العلم
ذاك البطل الإلهي . ثم
نظرت إلى لاتونا وقالت : ولولا معانات لاتونا
لما جاء إلى العالم أبولون إله النور ولا أخته
ارتيميدا !.
محاكمة
هاديس
"إله
الجحيم"
تقدمت لاتونا من مجمع الآلهة قائلة :
جميعنا قد سمع بالألم وبناره الكاوية , لكن من لم يتذوقه فلن
يعرف ما تحمل هذه الكلمة من معنى . وأضافت
قائلة : أنتم جميعاً تعيشون في عالم الأولمب
وتنعمون باللذة والسعادة والهناء , وتقررون أقدار البشر
التعساء . وهناك
في العالم السفلي يقبع البشر أسرى خياراتكم
ولهوكم . وكم يؤسفني أن أرى أشد عقابكم
توقعونه في البشر عن طريق إرسالهم إلى العالم
الأسفل دون أن تكلفوا أنفسكم عناء حمايتهم
من الأخطاء وسوء العاقبة . ثم
توجهت لاتونا إلى هاديس قائلة : أي هاديس ...
أيها الإله المجيد التي وصفتك الأساطير
بالكالح الوجه وبالإله الغاشم الصخري
الفؤاد ... يا من تقول عنك الحكايات
بأنك ترتع كؤوس مجدك ولذتك من آلام المعذبين
... إليك أتجه بسؤالي فأجبني وارفع عني كابوس
شكي وحزني . أجاب
هاديس : الظلم في كل مكان أيتها الآلهة
المجيدة , فكما طاردكِ التنين إلى
أن أقصاكِ وراء المكان والزمان . فتنين الفكر
البشري يطاردني حتى مسخني شيطاناً لعيناً .ثم
أضاف قائلاً : ماذا أجيبكِ سيدتي وجميع
دفوعاتي قد ربطت بأسرار القوة الحاكمة
الكونية , وكما أن أخي زيوس وسيد
الآلهة لم يستطع الدفاع عن نفسه , فأنا لا أجد أمامي وسيلة , سوى أن أحذو
حذوه وأتْجهُ لبوسيدون للنيابة عني . اتجهت
لاتونا إلى بوسيدون قائلة : هناك في دياجير
الظلمة والمخاطر اللامتناهية تقع مملكة
هاديس التي لا تصل إليها الشمس . بالرغم من
مرور نهر ستيكس المقدس الذي احتوى أسرار
البشر والآلهة , إلا أن شواطئه تتردد عليها
زفرات أرواح الموتى المليئة بالأحزان . وعلى
باب مملكة الأحزان يقبع الكلب الجهنمي كيربير
ذو الرؤوس الثلاثة التي تنشب حولها أفاعي تفح
فحيحاً رهيباً . وفي وسط مملكة الجحيم هذه ,
يجلس هاديس على عرشه الذهبي بجانب زوجته , وتقوم على خدمتهم ربات
الانتقام وآلهة الموت ومصاصات الدماء .أما
الأرواح فتتذوق عذاباتها الأبدية السرمدية . آه ... اه أيتها الآلهة كم يحترق
فؤادي عندما أستمع إلى قصص المعذبين البائسين
, وأكثر ما يحز في نفسي قصة أوروفيوس الذي
لم يرتكب في حياته إثماً سوى جريمة الحب !. نظرت
لاتونا في مجمع الآلهة وقرأت علائم الاستغراب
والدهشة على وجوه الآلهة ثم أضافت قائلة :
منذ متى كان الحب جريمة يعرّض صاحبها للإهانة
وللعذاب الأبدي . ثم أضافت سائلة : ألم
تسمعوا بقصة المسكين أوروفيوس الذي حرمه
الموت من محبوبته فنزل العالم السفلي
للعودة بها وعانى ما عاناه وقاسى أشد
أنواع العذاب , وفشل , بسبب ما كان يشتعل في
قلبه من نار الحرقة واللوعة , فعاد منه والخيبة تأكل
قلبه دون أن يحقق أمنيته بعودتها . لكن
الباخيات الماجنات حققت له حلمه في إعادته هو
, إلى العالم الأسفل بعد أن حطمت له عظامه
وسلخت جلده . نظرت
الآلهة إلى لاتونا فوجدت الدموع تغطي وجهها . جلست
لاتونا وهي تقول: أي مجد عظيم تقوم عليه هذه
العوالم ؟. تقدم
بوسيدون وقال : ليتبارك قلبك النقي الذي عرف
الألم فأنعم على العالم بالنور
والرحمة . لكن أيتها القلب النقي , العالم
السفلي حق , تجهله العقول القاصرة . فلولا
العالم السفلي لما ارتدعت الأنانيات ولما قام
العدل !. وأضاف
قائلاً : لكي يكون دفوعي واضحاً وجلياً سأطلب
من هرقل أن يقص علينا أولاً مشاهداته في
العالم السفلي , علّها تساعدنا في فهم مغامرة
أوروفيوس , وتزيل عنا الغموض واللبس . تقدم
هرقل والأنوار تشع من محياه .
فتفرجت أسارير أطلس وبرومثيوس و لاتونا و آيو , ولم لا وهو البطل المقدام الذي اختبر
حياة السماء وحياة العالم السفلي وأنجز
بطولاته السماوية والأرضية . وكم كان من العدل
أن يتخذ هرقل مكان زيوس ويزيح جميع هذه الآلهة
. قال
بوسيدون : المجد لك أيها البطل الكوني المكافح
, و سأكون سعيداً فيما لو
شرحت على مسمع جميع الآلهة مشاهداتك في
العالم السفلي , وسأكون مسروراً فيما إذا تركت لي الفرصة , لشرح كل مشاهدةٍ على حدا ,
بأن تعطيني الوقت الكافي للشرح . قال
هرقل : بدأت رحلتي إلى العالم الأسفل عندما
وقفت على شاطئ نهرستيكس المقدس . استأذن بوسيدون للشرح فقال : نهر ستيكس هو
نهر الحكمة فمن أراد أن يدرك أسرار حكمة
التكوين عليه أن يعبر حقل الحكمة . تابع
هرقل قائلاً : وهناك شاهدت خارون الشيخ ناقل
أرواح الموتى , إنه صخري الفؤاد . تابع
بوسيدون شارحاً : خارون سيد روحي هو الذي ينقل
الأرواح عبر العالم السفلي بعنايته وبإشرافه
وفق رصيدها الكارمي , فمن قدّر له أن يعيش أعمى أو كسيح أو
مكسور الفؤاد , فالمعلم يفرض عليه تحمل تبعات
خياراته , ثم يساعده في إنجاز مهامه في العالم
الأسفل بالطريقة المناسبة . وتابع
هرقل قائلاً : وعند بوابة العالم الأسفل شاهدت
تيسيوس و بيريفويوس مغلولان على صخرة , عقاباً
لهما لتجرأهما دخول العالم الأسفل ومحاولتهما خطف
بيرسيفونا زوجة سيد العالم الأسفل . فاستنجدا
بي فقمت وحررت تيسيوس من قيوده لكن عندما
حاولت مساعدة بيريفويوس جاشت الأرض ومنعتني
من تحريره . شرح
بوسيدون قائلاً : لقد حاول المذكوران اختطاف
زوجة سيد العالم الأسفل , أي حاولا
امتلاك الطاقة لذاك العالم , دون أن يعلما أن
أعباء العالم السفلي كبيرة , وأن أغلالها
متينة , فقبعا سجينا الكثافة
والجلافة . لكن هرقل وبسبب ما كان يمتلك من
كارما موجبة استطاع أن يمنح جزء منها لتيسيوس
فحرره . لكنه فشل في مساعدة بيريفويوس لأنه
يحتاج إلى رصيدٍ أعلى من الكارما الموجبة
بسبب ما كان يمتلكه من الكارما السالبة . تابع
هرقل قائلاً : كانت مهمتي هي القبض على الكلب
الجهنمي كيربير حارس بوابة العالم الأسفل ذو
الرؤوس الثلاثة التي تنشب حولها الأفاعي . وقال
أيضاً : لم يسمح لي هاديس سيد العالم الأسفل مواجهة الكلب بأسلحتي , لكنه وافق لي أن أقمعه
بساعدي فقط . قال
بوسيدون : إن الكلب الجهنمي ذو الرؤوس الثلاثة
إنما هو الجهل والطمع والحقد . أما الأفاعي
فهي الآلام والمحن . فمن أراد أن يتحرر من
العالم السفلي وأغلاله عليه مواجهة آلامه ,
والتخلص من جهله وأحقاده وأطماعه . لقد كان
هرقل بطلاً مسلكياً ومثلاً مقدساً , ولم تكن قوته في عضلاته , بل كانت في
إرادته وأفعاله . أنهى هرقل كلامه فعاد إلى مكانه , فتوجه
بوسيدون إلى لاتونا قائلاً : أما مأساة
أوروفيوس أيتها الأم المقدسة فدعينا نستمع
أليها من فمه . دخل
أوروفيوس مجمع الآلهة بقامته الفارعة ووجهه
الوسيم , تعلوه بسمة نشوة روحية نابعة من
أعماق سعيدة , يحتضن قيثارته بيد و محبو بته باليد
الأخرى . كانت
خطواته على الأرض تعزف إيقاعاً على نبضات
القلب . وكانت النسائم تنساب من بين أوتار
قيثارته فيتردد منها أعذب الألحان دون أن
تمسها أنامل . قال
بوسيدون : عندما تتوقف الأفكار , وتذوب الصور,
يداعب أوتار القلب موسيقا كونية. ولولا تلك
الموسيقا لبقيت الصورة والفكر , صخوراً تتحطم
عليها الأبدية . ثم رحب به قائلاً : أهلاً
بأوتار القلب ونغمة الروح الأبدية. قال
أوروفيوس : كثيراً ما أستفيق وأرى نفسي غارقه
في نبضة نغمةٍ مترددة خلف حدود التكوينات , وعندما أحاول التعبير
بالكلمات والتشبيهات أرى نفسي أعماً أصماً
أبكماً , عاجزاً عن شرح ما يجيش في قلبي , وكثيراً ما أرى من يلتاع لسماع ألحاني ,
لكنه يبقى عاجزاً عن فهمي . وكثيراً ما أحاول
الكلام , ثم أندم وأقول : إن الكلمات مقبرة
المشاعر . ثم سأل بوسيدون : لمَ طلبتني ؟. وأي فائدة
ستجنيها كلماتي الميتة ؟. قال بوسيدون : المقبرة التي تأكل ذاتها
ولا تنتهي هي عالم الكون . ونحن هنا في عالم
الفكر نحتاج أمواتاً كي تكفن الأموات . لهذا
لا ضير عليك فيما إذا تكلمت . إن ذكريات آلامك
ومآسيك ماثلةٌ هنا أمام مجمع الآلهة , وقد
أشعلت نار الشك في القلوب . لذا نرجو منك أن
تشرح على مسمع الآلهة خبراتك ومشاهداتك في
العالم الأسفل . قال أوروفيوس : كانت لعذوبة موسيقاي الأثر
الطاغي على سلطة سيد العالم الأسفل . لقد
اقتطعت وعداً من هاديس أن يعيد لي محبوبتي لكن
بشرط أن تسير ورائي ودون أن ألتفت إليها حتى
مغادرة العالم الأسفل . وأكد لي أنه سيعيدها
إليه ويحرمني منها فيما لو خالفت الشرط
والتفت إليها . وأضاف أيضاً قبلت الشرط وسار أمامي الإله
هرمس ليهديني سبيل الخروج ... وسار من ورائي طيف زوجتي
و محبو بتي ... حاولت في البداية معانقته لكن
هرمس أوقفني قائلاً : عد إلى رشدك فأمامك طيف
لا حياة فيه . هيا بنا كي نخرج فطريقك
محفوفٌ بالمخاطر وإياك أن تلتفت إلى
الوراء و إلا ستحطم كل آمالك . وهكذا سرت خلف هرمس وعبرنا نهر ستيكس
وأدركنا بداية الدرب الذي يقودنا إلى عالم
الحرية . لكن الدرب كان صعباً وشاقاً مليئاً
بالصخور والمنحدرات . و خيمت على المكان عتمة
الغسق حتى كاد هرمس أن يختفي عن ناظري . ولاح
من بعيد ضوءً خافتاً يشير إلى بوابة الخروج .
لكن النور لم يكن كافياً حتى لو استدرت لرؤية
طيف زوجتي . واضطربت في نفسي تساؤلات غريبة ,
هل زوجتي لا زالت تسير ورائي أم أنها لازالت
أسيرة العالم السفلي ؟. وإذا كانت ورائي فهل
تستطيع عبور هذه المنحدرات وتسلق هذه القمم ؟.
وتباطأت
خطاي ورحت أصيخ السمع لخطاها ورائي لكن متى
كان للأطياف وقع خطا ؟. وغمر
الضوء المكان فأعياني التوجس والقلق , ونفذ
مخزون صبري , فاستدرت ورائي ورأيت طيف زوجتي
وحبيبتي يكاد يلامسني , فمددت نحوها ذراعي كي
أعانقها . لكنه سرعان ما انفصل الطيف وراح
يبتعد عائداً من حيث أتينا . ونظر
أوروفيوس بوجه حبيبته وقال : آهٍ كم كانت
آلامي وأحزاني في تلك الساعة , وأتمنى لو أتمزق ألف مرة
و لا أعاود هذه التجربة مرة أخرى . تقدم بوسيدون من العاشقين وخاطب مجمع
الآلهة قائلاً : في قصة هذين العاشقين تكمن
أسرار وجودنا . فكلٌ منا أوروفيوس ولكل منا
عشيقته . إن الأنثى ليست سوى طاقاتنا الروحية
التي أسرتها الأعباء الكارمية , أو أعباء
الموضوع الوجودي الذي تنسجه خيوط الكارما (
إسار السبب والنتيجة ). جميع
النفوس الإلهية ترد العالم الأسفل لتحرر
طاقاتها الحبيسة هناك كي تعود العالم السماوي
وتشهد بها مجدها . لكن
مأساة أوروفيوس هي مأساة كل نفس يعتريها
القلق والتوجس ونفاذ الصبر . لقد نجح
أوروفيوس في إنقاذ طاقته و محبو بته من إسار
السبب والنتيجة وحياة الانفصال . لكن تبقى آفة
الإنسان فقدان الصبر وزعزعة الإيمان عندما
يوشك الوصول إلى نهاية الرحلة , فيعيد الكارما التجربة من جديد كي يصنع
له خلاص الأبطال . تدخلت لاتونا قائلة : هناك مأساة مسكين
خاطئ عجزت الرحمة الإلهية غفرانها ! .
ولازال ذاك المعذب أسير دوامات الألم التي
ليس لها قرار . ورجت أوروفيوس أن يشرح لمجمع
الآلهة ما يلاقي ذاك المعذب سيزيف من أصناف
العذاب .
سيزيف
قال أوروفيوس : لقد شاهدت المسكين يدفع
صخرة هائلة الحجم نحو قمة جبل شديد الانحدار .
وكلما كادت الصخرة أن تصل القمة ,انقلبت
وتدحرجت إلى الأسفل محدثة جلبة شديدة ,مثيرة
غمامة من الغبار . فيعود ذاك الشقي ليستجمع كل
ما فيه من قوة ويدفع الصخرة نحو القمة . ويتصبب
منه العرق كالمطر , ويتعالى لهاثه كالرعد .
وعندما يكاد يصل إلى القمة تعود الصخرة
وتتدحرج من جديد . آه
ما أبشع هذه الحياة البائسة . أجاب هاديس : لقد كان لسيزيف قصة مثيرة يجب
أن يعتبر منها بني البشر .لقد عاش سيزيف طيلة
حياته يجمع المال ويكنزه حتى فاق غناه أبناء
جنسه , مستخدماً كامل قدرته في المكر والخداع
والدهاء . وعندما جاء أجله أتى إله الموت
ليقبض روحه . لكن سيزيف استخدم مكره ودهائه
وقبض عليه وصفده بالسلال .أجبر زيوس على إرسال
ابنه آريس إله الحرب ليحرر إله الموت من
الأصفاد , وليلقيا القبض عليه
ويقتاداه إلى مملكة العالم الأسفل . وعندما
وصل سيزيف إلى العالم الأسفل احتال علينا
وطلب منا السماح له بالعودة إلى الحياة كي
يطلب من أهله تقديم القرابين له وللآلهة , وأقسم أنه سيعود إلى هذا
العالم فور إنجاز مهمته . لكن سيزيف فرّ من
العالم الأسفل وعاد إلى عالم الحياة ,وعاش يصل المآدب بالمآدب ,
مفاخراً بنفسه أنه البطل الوحيد الذي عاد من
العالم الأسفل !. لهذا أرسلت آلهة الموت من
جديد لتستل روحه عنوة وليقبع أسير نتائج
خياراته وأفعاله . شرح
بوسيدون قائلاً : إن مشكلة سيزيف هي مشكلة
إنسان هذا العصر . لقد طوّر الإنسان علومه الطبيعية
فأطال عمر الفرد , لكنه عجز عن حل باقي
مشاكله الحياتية , فبقي الإنسان يدحرج صخرة
حياته إلى قمة الشهرة والقوة . لكن الصخرة لن
تصل القمة على الإطلاق. إن
زيادة الثروة بين أيدي البشر لا تحل مشاكلهُ .
لأن الحسد و الطمع سيكبران في النفس البشرية ,
وهنا ستتدخل قوّة الحرب والعنف بين بني البشر
وستدمر كل مساعي الإنسان . وتابع
بوسيدون قائلاً : مهما حاول الإنسان ابتكار
أنظمة وأعراف وقوانين جديدة لإحلال العدل
والسلام بين بني البشر معتمداً على روح الغنى
والقوة والتفوق , فسيبقى كسيزيف يدحرج صخرة
هائلة الحجم نحو القمة لكن دون جدوى . إن
منطق القوة الحاكمة مستمدّ من العقلية السائدة للمجتمع , فإذا كان
المجتمع متخلّفاً وطائفياً ومتسلطاً وذو طبع
شهواني للعنف والانتقام , فالقوة الحاكمة لن
تستطيع قيادته ما لم تكن دكتاتورية وعنيفة
ومتسلطة . إن
المجتمع لا يرتقي إلا بارتقاء مبادئه وقيمه
ومسلكه . فإذا كرّس المجتمع المبادئ والقيم
السامية عند الوسط القيادي , وحافظ على الفرز
الدائم والمتجدد لنخبته , عندها فقط يستطيع
تحرير نفسه من قدر سيزيف . وتابع
بوسيدون قائلاً : إن لم يتيقظ المجتمع البشري
لهذه الحقيقة فسيخسر نفسه كل دور وسيتكرر
دمار الأرض كل حقبة . هرقل شعرت آيو أن دفوعات بوسيدون قوية
ومقنعة وخافت عذابات حفيدها هرقل أن تضيع
سدا , بين دفوعات وإطراءات
وجدالات مجمع الآلهة , فتدخلت قائلة لبوسيدون
: أرجو أن لا تسمح يا حكيم الآلهة بتخدير ضمائر
الآلهة عبر المجاملات والإطراءات , لأن مأساة
حفيدي هرقل لازالت ماثلة أمام عيني . فإذا
كانت عذاباتي من اجل المساعدة لولادة هرقل فلماذا يعذب هو إذاً
؟. وأضافت
قائلة : أرجو أن تسمح يا حكيم الآلهة بمثول
هرقل ثانية بين أيديكم , وتفضلوا بشرح مبررات
همجية و أحقاد هيرا ,علّنا نجد المبررات المقنعة . أجاب
بوسيدون : عندما تشخّص النواميس تبقى ذكريات
الألم ماثلة , لذا اقتضت العدالة المحو
المتكرر للشخوص عبر أطوار التكوين !. ولا ضير
في أن أشرح ثانية وثالثة حقائق ومعاني
ألعاب العقل في لعبة خداع التكوين . تقدم
هرقل أمام مجمع الآلهة وقال : لقد كانت هيرا
سبب كل شقائي وأسقامي , فقد ساءها اقتران أبي
زيوس بأمي الفانية , لهذا أوقعت أبي في
الخديعة وحرمتني الملك , وجعلت مني عبداً لذاك
الجبان الرعديد يوريثيوس . شرح
بوسيدون : كان القدر قد رسم الخلود لهرقل عبر
مروره بالعالم الفاني كي يكون رمزاً خلاصياً
للبشر ,
والألم كما
نعلم نصيب المختارين . لهذا كان لزاماً على
هرقل أن يخضع لإشراطات العالم الأسفل
ويقوم بإنجازاته الكارمية حتى ينال الألوهة
والخلود . تابع
هرقل قائلاً : لقد سلطت هيرا عليّ الأفاعي
وأنا لازلت رضيعاً كي تحطم عظامي وتبتلعني .
لكن قوة عظيمة دبّت في كياني فقتلتها جميعها . قال
بوسيدون : الأفاعي تعني الأمراض والأسقام
والمحن . وهذا يعني أن النفوس المكافحة
الطامحة للخلود تبدأ كفاحها وبسالتها منذ
الولادة عندما تواجه الأمراض والأسقام . وتابع
هرقل قائلاً : وعندما بلغت اشدي , أهداني هرمس
سيفه , وأهداني أبولون قوس وسهام , وصنع لي
هفست إله العلم درعاً , وحاكت لي أختي الحبيبة
أثنا آلهة الحكمة والنصر , ثيابي . شرح
بوسيدون : السيف رمز المعرفة , والسهام والقوس رمز الكلمة والحكمة
, والدرع رمز الثقافة
والحنكة والشخصية , أما الثياب فهي رمز تجلي
الحصيلة المعرفية في الشخصية . وتابع
هرقل : بالرغم من ذلك , فقد سلطت عليّ هيرا
مرض الجنون , فوقعت في نوبة , فقتلت أولادي !. قال
بوسيدون : الولد رمز العمل , وقتل الولد هو
إضاعة نتائج العمل . لهذا اقتضت الحكمة أن
ينال الخلود كل من لم يتعلق بنتائج عمله
الأرضي . ألم تقل الحكمة : واجبك العمل وحقك
الوحيد أن تعمل أما ثمار عملك , فليست من شأنك!.
إن
العالم الأرضي هو عالم وهمي !. وكل صنيع في
العالم الأرضي , إنما هو وهم !. فإذا تعلق
الإنسان في الوهم , علق الإنسان في دوامة
الموت والحياة , ولم يستطع نيل الخلود !. ثم
تابع هرقل قائلاً : وبعد أن تطهرت من إثم
الجريمة التي ارتكبتها والتي أوقعتني بها
هيرا دون وعي . قال لي الإله أبولون بأني سأنال
الخلود إذا ما خضعت لعبودية ذاك الجبان
الرعديد يوريثيوس , اثنا عشر عاماً . وإذا ما
أنجزت اثنتي عشرة معجزة . وتابع
قائلاً : وبالفعل أوكلني يوريثيوس في قتل أسد
نيميا و أفعوان ليرنا وخنزير جبل ايريمانث
وأن أجلب له الكلب الجهنمي كيربير حارس بوابة
العالم الأسفل . شرح
بوسيدون قائلاً : بداخل كل إنسان وحوش وآفات
وضواري , فكلب الطمع والجشع ينهش كاهل الإنسان
من الداخل . والغضب والبطش والعنف يهددون
بدمار العالم . والشهوة والمرض و اللامبالاة
سبب احتضار كل حياة . لهذا فإن هرقل وأي إنسان
لن يستطيع أن ينال الخلود إلا عندما يتمكن من
تقويض عزوم هذه الضواري داخل نفسه. قال
هرقل : وأثناء صراعي الدامي مع القناطير , أخطأ
سهمي القاتل سبيله , وغرس في فخذ صديقي وحبيبي
القنطور خيرون الحكيم , فقرر أن يدخل العالم السفلي طواعية . شرح
بوسيدون : السهم هو كلمة الحكمة , والفخذ هو الأهل والعشيرة . وبالتالي فإن
سهم هرقل الذي دخل فخذ خيرون هو سلسلة الحكمة
والحكماء . وهذا يعني أن كلمة الحكمة لابد أن
تمر عبر السلالة البشرية لتنير عالمها الموحش
. أما خيرون فهو تجلي لصورة الحكيم في العالم
الأرضي . قال
هرقل : لقد منحتني حصيلة أعمالي وتضحياتي
الكارمية قدرة إعادة الأموات إلى الحياة .
لهذا قمت بإعادة الحياة إلى جسد زوجة صديقي
آدميت . قال
بوسيدون : عندما يكون الرصيد الكارمي عالٍ
جداً , يستطيع الحكيم المكافح أن يتنازل عن
قدرٍ معين من هذا الرصيد للآخرين , فيمنح الحياة لهم تماماً كالمسيح وكرشنا
. قال
هرقل : لقد أوكل إليّ , أن آتي بأبقار جيرون من
العالم المظلم بالرغم من الكلاب والعمالقة
والمردة التي كانت تحرسها . وقد أتممت مهمتي
بنجاح . قال
بوسيدون : إن الأبقار هي السنين وأطوار الحياة
. لقد كان من واجب هرقل أن يتابع رحلته عبر
التاريخ البشري بالرغم من كلابه ووحوشه
وضواريه كي ينقذ البشر من الانهيار والدمار . وتابع
هرقل حديثه فقال : وأتممت معجزاتي الاثنتي
عشرة , عندما حملت الكون على كاهلي عن أطلس ,
وحصلت على التفاحات الذهبية . شرح
بوسيدون : ببسالة وكفاح وصبر وأناة , استطاع
هرقل حمل الأمانة الكونية وفاز بثلاثة سويات
من التجليات الإلهية . ونال حريته وهو موجود
في العالم . قال
هرقل : لكني لم أستطع التمتع في حريتي فقد سلطت
عليّ هيرا آفة الغضب والحنق وأنا لازلت في
العالم الأرضي أجد وأثابر كي أحصل على المزيد
من الرصيد الكارمي . فقتلت ضيفي وأوقعت نفسي
بجريمة كان ثمنها أن أباع كعبد ,
ولتستمر عبوديتي ثلاث سنوات أخرى . قال
بوسيدون : عندما يقتل الإنسان الآخر فإنه
يتحمل تبعات المقتول الجرمية . وبالتالي تابع
هرقل حياته في العالم الأرضي بتحمل التبعات
الكارمية عن الإنسان , وبالتالي كان مثالاً
للكرم والتضحية . فما قيمة الحكيم إذا خلّص
نفسه وترك أحبته ؟. تابع
هرقل : لكن هيرا لم تكف عن أذيتي . وهكذا سلطت
إله النوم على عيني أبي زيوس فغط في الرقاد .
ثم سلطت عاصفة على سفينتي قادتها إلى مكان التباس , فأوقعت الحرب بيني
وبين ابن بوسيدون فقتلته خطأً . وعندما
استيقظ أبي زيوس من رقاده وعلم بمأساتي ربط
هيرا بسلسلة ذهبية وعلقها بين السماء والأرض
وربط بقدميها سندان ثقيل . قال
بوسيدون : في المشاحنات تتكشف مثالب النفس .
وهكذا يسمح القدر لنفسه في إيقاع الصدام بين
القوى الخيرة لتتكشف مثالبها وتصقل نفوسها .
لهذا تفوقت فضائل هرقل على فضائل الحكمة
التقليدية . لكن في الطور الآخر من المحن
تتعلق قوى الأنا ورغبات التميز عن العمل
لتعطي النفس الوقت الكافي لمراجعة سلسلة
اختباراتها , بغية مساعدتها في استقصاء سبيل
الخلاص . قال
هرقل : لكن خلاصي كان مأساوياً . فقد أوقعت
الغيرة في نفس زوجتي بحماقة قاتلة , فألبستني ثوباً كان
سبباً لمرضي وتمزق جسدي . واشتعلت الآلام في
جسدي ولم يكن لي سوى الموت , السبيل الوحيد
للخلاص . لقد صليت بمرارة وتوّسل للآلهة علّها
تمنحني الموت وتريحني من العذاب . لكن الآلهة
وقفت , وقفة لامبالاة , أمام عذاباتي التي تعجز
عن حملها البشر . عندها توسلت لولدي هيل أن
يصنع لي محرقة كبيرة ويشعلني , ويرحمني ,
ويساعدني على الخلاص من هذه الآلام . لأن عذاب
النار أهون من عذاب تمزق الجسد ببطء . وبعد
إلحاح وتوسل لولدي , أجبر على إضرام النار بي ,
وعلا لهيبها في السماء . عندها شاهدت
أثينا و هرمس آتيان في مركبة ذهبية , خلصاني من
العذاب , وحملاني إلى السماء . وهنا نلت
الخلود . قال
بوسيدون : الحكيم الحق لا يتحرر إلا إذا أعتق
نفسه من حب الدنيا وتعلقه بها . فتعلق الإنسان
بعواطفه ونتائج عمله يغلّه في أعباء الدنيا
ودوامة الموت والولادة . لكن عندما ينجز
الإنسان أعماله الكارمية واضعاً نصب عينيه
هدف خلاصه , عندها يصبح مصيره بين يديه . وهنا
يستطيع مغادرة العالم ساعة يشاء . قالت آيو : من المؤسف أن لا تأتي السعادة
السماوية إلا بعد شقاء أرضي دامي . ومن
المؤسف أن تستمد الحكمة ديمومتها من بؤرة شرٍ
حقيرة !. قال
برومثيوس : لهذا كنت أقول دائماً إني أكره
جميع الآلهة وكم يؤسفني أني رضخت أخيراً
واستبدلت آلامي , بعبوديتي لزيوس . ثم خاطب
الآلهة جميعاً قائلاً : هذا هو سيد العوالم
وسيدكم يقف حائراً عاجزاً عن معرفة وسيلة
الخلاص . وهاهو إله الحكمة بوسيدون يفيض بكل
ما عنده من وعظ وحكمة لإيجاد مبررات قسوة
وهمجية آلهة السماء , لكن دون جدوى . وسيبقى
الكوكب الأرضي حبيب زيوس عرضةً لعبثه ودماره
كل يوم . وإني لأعجب من هذا الحب العاهر ؟. امتعض
زيوس وراحت عواصف الغضب تعصف في كيانه . لكن
هيرا تدخلت قائلةً لبروميثيوس : من المؤسف أنك
لم تستطع إدراك الحكمة التي تضمنتها دفوعات
بوسيدون إله الحكمة . وهذا لا يعود لضعفك
العقلي ولا لعجزك , إنما يعود لحقدك وكراهيتك
وأطماعك في انتزاع ملك مالا تستحقه . وأنصحك أن لا
تستثمر الحرج والضيق اللذان أوقعتنا بهما
ديميترا , وأنا أّلزمك الصمت وإلا جعلت زيوس
يطيح بك في أعماق الترتار المظلم .
آتا
"آلهة الخداع" لم
يستطع زيوس كتمان عواصف الغضب بداخله , خاصةًَ
وقد فقد مجمع الآلهة انضباطه واحترامه فتطاير
الشرر من عينيه وتطايرت منه الصواعق في كل
حدبٍ وصوب , ووقف منفجراً بصوتٍ مدوٍّ . فارتعبت الآلهة ولاذت بالصمت فالكل
يعرف ماذا يمكن أن يفعله ذاك الإله الغاشم
ساعة غضبه . قال
زيوس : لقد فقد مجمعنا الاحترام والانضباط ,
وساد الهرج والشتم والتهكم في كل حدب وصوب .
وقبل قليل كنتم تحاكموني بتهمة الديكتاتورية
. فهل كنتم تظنون أني كنت أمارسها عن طيب خاطر
؟. أم كنتم تظنون أن أسمح بإطلاق أيديكم على
الغالب ليتحول عالمنا إلى أداة عبث بمصائر
الأكوان .لذا ألزمكم الصمت وإياكم أن تتكلموا
في حضرتي ودون إذني . صمت
زيوس وصمت مجمع الآلهة وراح يرقب ما يخفيه
زيوس من قرارٍ مصيري . عاد
زيوس إلى الكلام فقال : اعلموا أيها الآلهة أن
آتا آلهة الخداع لم تخدعني فحسب , بل خدعتكم
جميعاً . وأنا لا أستطيع اتهامكم بالحماقة
لأني أنا وقعت في حبائلها أيضاً . وأضاف
زيوس متسائلاً : ماذا أفعل بآتا ؟. تلك اللعينة
التي طوحت بها عن جبال الأولمب ,
فسكنت عقول وقلوب البشر !. كيف أنقذكم ؟ كيف
أنقذ البشرية من هذه الآلهة الرعناء ؟ . كيف أستطيع قتلها ؟ كيف أستطيع سجنها ؟
كيف أستطيع سلخ جلدها ؟ وأنظمة الكون
والمصائر تحمي حياتها ووجودها !. وأخيراً
قرر زيوس أن يرضخ لعجزه وضعفه وقرر مسائلة آتا
, علّه يستخلص من دفوعاتها العبر , تمكنه من
تقويض سلطتها على العوالم . هنا
أرسل زيوس على الأرض عاصفة عاتية , حملت آتا من
الأرض ورمتها تحت أقدام الآلهة . نظرت
آتا حولها فوجدت نفسها في مجمع آلهة الأولمب
الذين كانوا ينظرون إليها وإلى هيئتها
التائهة المشدوها , وهي لازالت عاجزة عن إدراك
ما كان يحدث لها . ظنت آتا أنه قد جيء بها
لملاقات حتفها عقاباً لخداعها وشرورها . راحت
آتا وهي ملقاة على الأرض تجول بنظرها حول
الآلهة , وهي لا تعرف ما يتوجب عليها تصرفه . أخيراً
قررت آتا الدفاع عن نفسها . فوقفت على قدميها
وخاطبت الآلهة قائلة : من احتيال أبينا كراون
إله الزمن على جدنا أوران إله السماء , ولدت ,
فما ذنبي ؟. من
لعبة إخراج الممكنات إلى المكان , أتيت , فما
حيلتي ؟. من
لعبة سباق الذوات لإدراك ذاتها , أتيت , فما
جريمتي ؟. من
لعبة خفاء الواحد في الآحاد تنشقت نسمة وجودي
, فما ذنبي ؟. ثم
خاطبت جميع الآلهة قائلة : الجميع يتهمني ...
الجميع يلعنني ... وكأنني أنا ربة المصائر !. ثم
سألت قائلة : ألا تعلمون أننا جميعاً وحتى
زيوس محكوم علينا بما تقرره لنا آلهة المصائر
. فلماذا أيها الآلهة الأجلاء نتحول إلى
بشر ووحوش ونفترس بعضنا بعض ؟ قال
زيوس : لقد فرض عليّ القدر تحمل وجودك الكريه
على قلوب الآلهة والبشر أجمعين . لقد خدعتني
وكتبتي على ابني هرقل أشد أنواع العذاب .
فطردتك من عالمنا إلى العالم الأرضي
, فماذا فعلتِ
بهذا الكوكب حتى استحال إلى كوكب الوحوش
والضواري وانعدمت به القيم والمبادئ فاستحق
الدمار رحمة به من العذاب !. قالت
آتا : في العالم الأرضي مئات الحضارات وآلاف
الطوائف وملايين المفكرين , فكيف أستطيع أنا
وحدي أن أفسد الأرض ؟. ثم
أضافت :
لقد ولدت ,
وطبيعتي ملازمة لطبيعة سيدتي ومولاتي هيرا
زوجك وآلهة الملك , و "الأنا" , والسلطان .
وفي كل نفسٍ بشرية يوجد جوهر "الأنا" .
وحيثما وجد "الأنا" وجدت أنا آتا معه . كل
فرد يظن نفسه أنه الأعظم !. أنه الأجدر !. أنه
الأقوى !. أنه صاحب الحق الوحيد في التميز !. هذه
الأنانية والفوقية تبدأ بصراع الفرد مع أخيه
أولاً . ثم والديه ثانياً . وبدوره يتطور
الصراع لكي يصبح بين أسرة وأخرى . وعائلة
وأخرى . وطائفة وأخرى . وأمة وأخرى . ثم يتطور
الصراع لكي يصبح بين حضارة وحضارة ,
عندها تصبح كل حضارة بؤرة للأنانيات العفنة
والتقاليد البالية , لتخفي تاريخاً دموياً
بشعاً ومزيفاً , ولتدعي العراقة والأصالة . ثم
تابعت قائلة : المفكرون ورجال القلم تبيع
عقولها لإخفاء همجية الزمان , وزخرفة تخلف هذه
الوحوش البشرية , التي لا تأنو عن افتراس أي
فكر نزيه شريف . إنه لمن المحزن أيها الآلهة
الأجلاء أن تلك الحضارات تتدفأ على نيران
إحراق حكمائها وشرفائها . ومن المحزن أيضاً أن
يتساقط الحكماء برعونة , تساقط الفراش بالنار
, وينتحرون انتحار الحملان بين
أنياب الذئاب !. ثم
سألت آتا قائلة : سموا لي حضارة لم تقتل أو
تكفر حكيماً فاضلاً . وسموا لي حضارة قامت
بالوعي ودون حد السف ودون الرغبة بالمال
والقوة والاستئثار بالسلطة !. إن
زيف النفس البشرية قد أنجب حضارات مزيفة .
وتلك الحضارات المزيفة أسهمت في زيادة زيف
وتيه النفس البشرية . ثم
أضافت آلهة الخداع قائلة : ليس من واجبي
أنا فقط حماية الإنسان , بل من واجبكم أنتم
أيضاً . فإن كان أحد يستحق الاتهام فأنا
اتهمكم جميعكم بالتقصير دون استثناء أحد
منكم حتى زيوس سيدكم . اتجهت
آتا نحو زيوس قائلة : أعلم أيها الإله أن القدر
قد أعطاك الفرصة عدة مرات لقتلي , فقتلتني .
إلا أني في كل مرة أعود وأولد من جديد . ففي كل
رحم أنا أعيش !. وفي كل عقل أنا أعمل !. وفي كل
قلب أنا اسكن !. أنا أتجدد مع كل ولادة , لكنك
أنت أيها الإله قد شخت , وبدأ الوهن والضعف
يتغلل إلى عقلك وكيانك . فاقتلني لأنني أنا
الخالدة دوماً في لعبة خداع الوجود , خارج
لعبة الإشراق والتجلي . أما أنت أيها المسكين
فلعبة التجلي تقهرك وتقض مضجعك وتستهلك طاقتك
وتطيح بك خارج حدود النسيان . فكما أن
برومثيوس أدرك مكنون الغيب دونك , وكما أن هرقل له الفضل في
الحفاظ على ملكك بعد عجزك وضعفك وفقد حيلتك , وكما أن مصيرك محكوم عليه بما تقرره لك
آلهة المصائر . فأنا سأضل معضلتك حتى آخر ساعة
من وجودك . قطب
زيوس جبينه منذراً بغضب ساحق . لكن آتا قالت :
لا تغضب يا سيدي . فأنا قد شخت مثلك , وقرفت ألعابي وجاء دور
تغيير قميصي . ثم أضافت آتا قائلة : لقد جرّت
لعبة هذا الكائن الهمجي الذي تسمونه الإنسان
القرف والإقياء على قلبي . فاسمحوا لي أن
أشارككم مسعاكم في كشف طريق الخلاص له . قال
زيوس : كل شيء يشيخ , وكل شيء يزول , و تبقى فقط النواميس
الكونية خالدة , لكن يتبدل مرتدوها على
الدوام !. صمت زيوس ثم أضاف : لابأس ليسجل تاريخ
الآلهة أن زيوس لم يقع في العجز واستعان
بهرقل فحسب , بل أنه قد وقع بالعجز
واضطر الاستعانة بآتا آلهة الخداع من أجل
الحفاظ على ماء وجهه . ثم وجه خطابه للآلهة
جميعاً : دعونا نعفي هذا الكوكب من الدمار عن
طريق إيجاد حضارة بديلة قوية ومتينة . واستدرك
زيوس قائلاً : قبل أن نؤسس حضارة جديدة لابد
لنا من البحث عن المعنى الحقيقي للحضارة . ثم
أضاف: يظن البعض أن الحضارة ما هي إلا جملة
صروح صخرية وتاريخ مذابح وعروش أباطر , وهذا الظن ظلم وافتراء
وتجني على الحقيقة . لهذا أريد منكم أن تحددوا
لي المفهوم الحقيقي للحضارة .
يتبع....
|
|
|